
كان يدرك تمامًا أنه لا يُطاق. لم يكن الأمر مجرد شعور عابر، بل حقيقة اقتنع بها منذ زمن، وربما ارتاح لها أيضًا.
لم يكن مثل الآخرين، أولئك الذين يتقنون فن التوازن العاطفي، ويعرفون كيف يمرّون بالحياة بخفة ظلّ لا تُرهق أحدًا. كان يشعر كثيرًا، أكثر مما ينبغي، ويفكر كثيرًا، أكثر مما يُحتمل، وكان كل تفصيل صغير كفيلًا بأن يُربكه ليومٍ كامل.
لم تدهشه الكلمات التي يسمعها من الآخرين، إذ سبق أن نسج مثيلاتها في خياله ألف مرة. عاش كثيرًا في رأسه، حتى صار الواقع مملًّا حد الغثيان. يهرب من التكرار كما يهرب العاشق من اللقاء الأخير… يضجر من العبارات المستعملة، من الوجوه المتشابهة، من التصرّفات التي تتكرر كأن العالم نسخة باهتة من نفسه.
كان يشبه أولئك الذين يُقال عنهم “مجانين من نوعٍ خاص”، يعيشون في صمتٍ صاخب، ويختبئون من تفاصيل الحياة خلف هالة من اللامبالاة الكاذبة. يضلّ طريقه كثيرًا، لا عن سهو، بل عن رغبة حقيقية في التيه، ثم يجلس على الرصيف باكيًا كطفلٍ نسي أين خبّأ لعبته.
قال لي ذات مرة، وهو يضحك بسخرية يعرف أنها موجعة:
“أتعلم ما الأسوأ في الأمر؟ أنني متناقض جدًا، مزاجي إلى درجة تجعلني مصدر صداع لنفسي قبل أن أكون عبئًا على أحد.”
كان يتنقّل بين حالاته كما لو أنه يبدّل وجوهه في مرآة مكسورة:
مرة يغني بحماس مجنون، كأنه نجم فرقة خيالية لا جمهور لها،
ومرة يكتب بنبرة سوداوية، وكأن أصابعه فقدت لونها من فرط الحزن،
ثم، وبلا مقدمات، يتحوّل إلى طفل بعيون صافية، يراقب العالم بدهشة…
وفي لحظة أخرى، يصير رجلاً عادياً لدرجة تثير الشفقة، ككومبارس لا يعرف سبب وجوده في مشهدٍ ما.
لم يكن يستغرب من نفسه حين يحبّ أحدًا بجنون، ثم يطرده من عالمه في اللحظة التي تليها.
هو لا يطيق الثبات، لا يحتمل التكرار، ولا يؤمن بأن المشاعر خالدة كما يروّج الكتّاب في الروايات الرديئة.
ومع ذلك، كان يقول، وهو يبتسم تلك الابتسامة المائلة:
“رغم كل شيء، لم أسرق الفرح من أحد، حتى وأنا أتضور جوعًا له. ولم أفرض نكاتي السخيفة على أحد، وهذا يكفيني.”
وفي مساءٍ باهت، جلس في غرفته يكتب، ثم توقف فجأة، وقال:
“سأنهي هذا النص، وسأشاهد بعدها حلقة من سبونج بوب… أو ربما أتشاجر مع الحائط، ذاك الذي لم يتزحزح عن طريقي منذ سنوات.”
ثم رفع عينيه نحوي، وكأنه يسرد اعترافًا أخيرًا، وهمس:
“أشفق عليك، حين صدّقت أنني صدّقت كذبتك. في المرة القادمة، اكذب بإتقان… على الأقل احترم ذكائي.”
وأقسم أنه قالها بجدّية من يعرف أن الكذب صار وسيلة البقاء الوحيدة في هذا العالم، قبل أن يضحك ويختم:
“المنحطون والسفلة والأوغاد يحتاجون إلى الكذب… إنه أحد شروط بقائهم.”
ومنذ تلك الليلة، بدأ يخفت شيئًا فشيئًا… لا بصخب، بل بصمتٍ يشبه تسلل الغبار تحت الأبواب المغلقة.
لم يعد يغني كما كان، ولا كتب نصوصًا غريبة عن الحائط والسبونج بوب. صار يجلس لساعات طويلة يحدّق في سقف الغرفة، كأنه يبحث هناك عن إجابة أضاعها في غفلةٍ من الحياة. أصبح صوته خافتًا، وابتسامته مقتضبة، وعيناه متعبتين من الأسئلة التي لا إجابات لها.
كانت رسائله تتناقص، مكالماته تنقطع، وحتى مزاجه المتقلب بدأ يتسطّح شيئًا فشيئًا، كما لو أن داخله بدأ يتآكل بهدوء، بلا ضجيج. لم يعد يتعارك مع الحائط… صار يكتفي بالنظر إليه، كمن يصافح عدوه الأخير قبل أن يرحل.
في إحدى الليالي الباردة، وجدوه ممددًا على الأرض، وجهاز التلفاز يعرض حلقة قديمة من سبونج بوب. كان مبتسمًا، نعم، لكنه لم يكن نائمًا. لم يكن حيًّا أيضًا.
في جيبه ورقة مطوية، بخطّه المرتعش، كتب فيها:
“لقد حاولت، والله العظيم حاولت… لكنّ العالم ضاق بي، وأنا أضيق به أكثر.
لا تبحثوا عن سبب… السبب تافه ككل شيء في هذا الزمن.
أخبروا من أحبني أنني كنت أقاتل، فقط لم يكن لدي سلاح.
وأخبروا من كذب علي… أن كذبته كانت آخر طلقة أصابت قلبي.”
وحين خرجوا بجثمانه، كان الحائط لا يزال واقفًا في مكانه، يراقب المشهد بصمت…
كأن بينه وبين ذلك المجنون صداقة قديمة لم يفهمها أحد.
أما الغرفة، فقد ظلت على حالها…
إلا من غياب صوته، وغياب عينيه، وغياب تلك الفوضى التي كانت، بشكلٍ ما، تمنح للمكان شيئًا من الحياة.
الآن فقط، فهم الجميع أن الذين لا يُطاقون… غالبًا هم الذين لا يُحتمل غيابهم.