
كانت لفريد ” حكاية العمر كله ” …
وكانت لنا ” حكاية السينما كلها ” …
مع ” فاتن ” عشت عمرا أطول من عمرى . وأدركتُ أسرار القلوب قبل أن يدق قلبى ، لأن ” فاتن ” منحتنى بكل سخاء ، تجربتها فى الحب. ملامحها الأنيقة منحوتى فى الذاكرة . صوتها خيوط من حرير ، تلف أيام العمر.
فى 27 مايو 2025 ، بعد أيام قليلة ، تبلغ فاتن 94 عاما ، من الحضور، والتوهج ، رغم اختفاء الجسد والصوت . ولست أقول فاتن حمامة، لأن لا يوجد فى الحياة، الا ” فاتن ” واحدة فقط ، على الأقل فى حياتى أنا . ونعم الاسم . فهى ” الفاتنة “، التى فتنت الفن السابع ،
وأحبتها الكاميرا ، من أول ” لقطة “.
يوم 27 مايو 1931 ، من القرن الماضى ، تأملت الأم ” زينب ” ، المولودة الجديدة ، وتساءلت ، أهذه هى الطفلة الفاتنة ، التى حملتها فى حنايا جسمى ، وأطعمتها ، وسقيتها ، من دمى ، ومائى ، وأعصابى ، وأحلامى ؟؟. والأب ” أحمد “، احتار كيف سيكون مستقبلها ، واضافتها الى الأسرة .
بعد تسع سنوات فى 1940 ، جاء شاب متمرد ، مبدع ، اسمه ” محمد كريم “، تأمل عيون الطفلة ، وتتبع لغة جسدها النحيل .
وهاهو يطمئن الجميع ، فالطفلة الصغيرة ، الفاتنة ، المحار فى أمرها ، اسمها ” فاتن حمامة ” ، هى منْ تنتظرها السينما المصرية ، هى منْ سيرفعها الفن السابع ، أو هى التى ستطير بالفن السابع ، الى ما بعد سابع سماء. وتحققت النبؤة ، ومنحتنا ” فاتن ” أمتع ما تعطى الموهبة ، والرؤية المتفردة. أعتقد أنها كانت تمثل ، وهى ” جنين ” فى أحشاء الأم ” زينب ” ، وأنها قد قضت التسع شهور قبل مولدها فى 27 مايو 1931 ، فى عمل البروفات ، وقراءة السيناريوهات ، ودراسة أدق التفاصيل .
” فاتن ” ، حتى رحلت يوم 17 يناير 2015 ، عكس ممثلات متشابهات ، فى كل الأشياء ، حتى فى افتقاد الموهبة والعمق الفكرى ، لم تظهر فى أوضاع معووجة ، أو وهى تتمايص ، مشغولة بتضبيط الباروكة ، وتثبيت الماكياج الفاقع ، مفتعلة الضحك لتظهر تبييض الأسنان ، وتكبير الأثداء والشفاه ، تتدلع وتتشخلع بفلوس رجال أعمال ، دفعوا المهر ذهبا وفيلات ومنتجعات وقصور وعربيات وطائرات ، وانتاج سينما هابطة ، ثم على السجادة الحمراء ، أو على البلاط ، تتمخطر مرتدية العرى ، والجواهر ، والفساتين ، بذيولها الطويلة ، التى تكفى تكلفتها لاطعام ملايين المتسولين والمتسولات .العرى الوحيد الذى تعرفه ” فاتن “، هو أن أفلامها ، تعرى القبح ، والزيف ،والكذب ، وضحالة العقول ، وحرمان القلوب ، فى حياتنا الخاصة والعامة . وجواهرها الثمينة ، فى عقلها المثقف ، الحر ، وعزة نفسها ، واستقلال شخصيتها ، وفساتينها الفاخرة غير المتكررة ، هى أفلامها تصممها بنفسها .
كانوا يسألونها دائما ، لماذا لا تقدم أدوار ” الاغراء ” الجريئة . بكل ثقة ترد :
” الاغراء ممكن يكون بالعين ، فى نبرة الصوت ، مش شرط ان الجسم يتعرى “. وأنا أتفق مع ” فاتن ” . بل اننى أرى أن الاغراء ، بنظرة العين ، أو نبرة الصوت ، أصعب ألف مرة .
قالت فاتن على لسان البطلة نوال ، لزوجها زكى رستم أو طاهر باشا ، أخطر جملة قالتها زوجة أو امرأة .. قالت له بعد أن اتهمها بالزنا لعلاقتها مع عمر الشريف فى دور خالد ، وهى مازالت زوجته .. ” الزنا هو عيشتى معاك “.
تواصلت ” فاتن ” مع أمى ” نوال السعداوى “، لتكون بطلة احدى رواياتها، كل مرة ، يتعثر التواصل ، أو الأمنية التى تمنيتها ولم تتحقق .لكن الأمنية التى تمنيتها وتحققت ، أننى جلست مع ” فاتن “، رأيتها عن قرب، وتكلمت معها . كان أبى ، د . شريف حتاتة الطبيب والروائى ، صديق قديم للدكتور محمد عبد الوهاب ، الزوج الثالث والأخير لفاتن حمامة ، وذلك منذ تزاملهما فى كلية طب قصر العينى . كنا نتقابل جميعا فى نادى الجزيرة ،فى حديقة الكروكيه ، ويدور الحديث عن الفن والأدب والحياة ، ونحن نشرب الشاى بالنعناع عندما ظهرت موضة الاسلام الوهابى الاخوانى السلفى فى تحجب الفنانات ، واعتزالهن التمثيل ، والاستتابة من الفن ، لم تسأل ” فاتن ” أحد المشايخ المتاجرين بالدين ، كارهى النساء والفن والاستمتاع بالحياة ، المتصدر هذا المشهد ، ليمنحها الفتوى ، وصك الغفران ، ” هل أخرج من الفن حتى أدخل الجنة ؟ “.
راح الشيخ ، وبقيت ” فاتن ” .
فى ذكرى مولدها الرابع والتسعين ، أقدم لها باقات الزهور الفاتنة . بالمناسبة لها فيلم بالاسم نفسه ، من تأليف ملكة فهمى سرور ، ومن اخراج جمال مدكور ، وشاركها البطولة شكرى سرحان ، تحية كاريوكا ، حسين رياض ، محمود المليجى ، فردوس محمد ، فريد شوقى وغيرهم . سوف أشاهده للمرة الثالثة ، فى ذكراها ، واهمس لها ، كم كانت حقا ، لؤلؤة السينما المصرية ، وفاتنة الفن السابع .