
أيها الزمن، تمهّل قليلًا…
هكذا همست زينب وهي تراقب خيوط الفجر تتسلل من نافذة كوخها الطيني، الكوخ الذي تآكلت جدرانه، تمامًا كما تآكلت ضلوعها من الداخل.
كان وجهها شاحبًا، لكنها كانت تبتسم. وحدهم الذين تعبوا كثيرًا يعرفون كيف يبتسمون هكذا…
ابتسامة لا تنتظر جزاءً، ولا تصدر عن أمل، بل عن امتنان غريب لأن الألم لم يسلبهم القدرة على الحُب.
مَرَّ عام على غياب عمران، خطيبها الذي ابتلعته قواربُ الهجرة في ليلةٍ لم تكن ككل الليالي.
كان وعدها أن يعود، أن يبني لها بيتًا صغيرًا في الحقول، أن يشتري لها معطفًا أحمرَ مثل الذي كانت تحبه في طفولتها.
لكنه لم يعد…
وصل القارب، لكن اسمه لم يكن ضمن الأسماء. اسمه كان بين الأمواج.
زينب لم تبكِ كثيرًا. لم يكن لديها ترف البكاء، كانت أمها مريضة، ووالدها أعمى، وهي وحدها، الخيط الأخير في نسيج عائلةٍ مهددة بالانقراض.
كانت تجمع الحطب، تطبخ العدس، وتُصلي.
تُصلي لله أن لا يخونها جسدها قبل أن ترى أمها تبتسم.
وفي تلك الليلة، عندما شعرت بشيء يتكسر في صدرها كزجاجٍ ناعم، لم تخف.
فقط همست:
“أيها الزمن، تمهّل… امنحني فقط بضع خطواتٍ إضافية.
أريد أن أعدّ العشاء لأمي، وأن أنظف الدار.
أريد أن أترك رسالتي على الطاولة، بجانب كيس العدس.”
في الصباح، كانت زينب ممددة بجانب الفرن الطيني.
ذراعاها مطويتان بهدوء، كأنها عادت جنينًا يبحث عن رحم جديد، بعد أن ضاقت به الدنيا.
على شفتيها ابتسامة.
وفي يدها ورقة كتبت فيها:
“إمنح الطيبين زهرة…
وإمنح الضائعين نجمة
وإمنح البائسين حُلمًا
والصادقين فرصة.
إرشي قلوبهم ببصيصَ نور.
أما أنا، فلا تقلق عليّ، لقد شبعتُ ظُلمة.”
حين وجدتها أمها بعد ساعة، لم تصرخ.
فقط جلست قربها، ولمست وجهها بأصابع مرتعشة، ثم همست:
– زينب؟ العشاء جاهز؟ راه مازلت سأحكي لك حلم البارحة…
ثم بكت… ببطء… كمن يبكي آخر دمعة يحتفظ بها منذ الأزل.