
قبل أن يجتاز سالم امتحان شهادة نهاية الدروس الإعدادية في بداية السبعينات من القرن الماضي، أنجز بطاقة التعريف الرمادية. وهو يدخل الملحقة الإدارية، أحسّ بشيء من الخوف.. دقات قلبه ازدادت سرعة.. لا داعي للكذب، هذه الفضاءات كانت مخيفة للرجال، فما بالك بالأطفال..
لاحظ بأن الناس يدخلون متوجسين وحذرين ولُطفاء على غير العادة في أماكن أخرى.. لا صوت يعلو على صوت الموظفين.. عليك أن تحني رأسك قليلا، وتخفض صوتك، وتسأل بتلعثم واحترام عن المكتب المختص. الوثائق بسيطة، صورة بالأبيض والأسود، ونسخة من عقد الازدياد، وشهادة للسكنى مسلمة من عون السلطة، وانتظار يوم أو يومين حتى يوقع القائد أو خليفته البطاقة..
أوصاه الكبار بأن يكون حذرا، وألا يردّ الكلام على الموظف، أو العساس، أو غيرهما. إذا قيل له بأن الوثائق ناقصة، عليه أن يخرج في الحال.. ليس من حقه أن يسأل، أو يطلب شرحا، وإلا لن يعود إلى البيت.
عندما سحب البطاقة الرمادية بعد يومين، انتابه إحساس غريب. شعر كأنه كبُر، وأصبح رجلا. قال لنفسه:
ـ إذا سألك الأمن عن ورقة التعريف، بدل من أن تُدلي بالبطاقة المدرسية، ستُخرج العريس الرمادي من جيبك بكل اعتزاز.
ثم عقّب على ذلك متوجسا:
ـ لكنه قد لا يضمن إخلاء سبيلك…
في الأيام السوداء اختُطف العديد من التلاميذ والطلبة والأساتذة والموظفين وغيرهم ممن كانوا يهتمون بالشأن الثقافي والسياسي والاقتصادي.. اختفوا كأن الأرض ابتلعتهم. ولا أحد يعلم هل هم أحياء أم أموات!.. الناس تتحدث بصوت خافت خوفا من الآذان الطويلة التي تتربص بمن لا يحمد الله ويشكره على ما قسّم له من رزق..
اعتادت الشرطة والعسس في هذه الأيام الوقوف أمام أبواب المنافذ المؤدية لساحة جامع الفنا. وكانت تستعمل حبلا طويلا على شكل دائرة، وتحشر داخله الناس مثل قطيع من الماشية. ينتقون بشكل عشوائي من يثير الشبهة، حتى ولو كان معه حقيبة مدرسية أو جواز سفر، لا بد أن يقضي الليلة في المخفر..
ويا ويله إذا تشابه اسمه مع أحد المطلوبين المتهمين بقلب النظام، ومحاولة تخريب البلاد!!
عمر الأخ الأكبر لسالم رغم أنه مثل الكثير من التلاميذ في سنه لا يُحرك دجاجة على بيضها، فقد كان يتحاشى، وهو عائد من الثانوية إلى الحومة الممرات الضيقة التي تصطاد فيها العين التي لا تنام الفراشات..
قد يتحول إلى فراشة، ويعيش يوما واحدا. يولد مع شروق الشمس، ويختفي مع مغيبها.. في الأيام السوداء أصبحت الأعمار بيد الله، وبيد العين التي لا تنام..
هذه السنة سيجتاز امتحان الباك، ويحتاج إلى بطاقة وطنية.. هيأ الوثائق، وتردد في البداية من الذهاب إلى مقر الشرطة.. أجّل ذلك أكثر من مرة، حتى بدأ الوقت ينفذ.. عندما قرر الذهاب، اشترط على نفسه أن يُدخن سيجارة محشوة بالحشيش.. الحشيش قد يضمن له برودة الأعصاب، حتى لا يصدر عنه رد فعل، قد يحوله إلى فراشة لا تعيش سوى يوم واحد..
مركز الشرطة حديث العهد بالحي، وكان سيء السمعة مثل أغلب المراكز في ذلك الوقت. وهو عبارة عن منزل في الطابق الفوقي، وقد تحولت غرفه إلى مكاتب.. المكتب الذي قصده عُلّق على بابه ورقة بيضاء كُتب عليها بخط عريض: البطاقة الوطنية.. وأمامه كرسي طويل من خشب يتسع لثلاثة أو أربعة أشخاص، وجده فارغا.. جلس ينتظر حتى يُنادي عليه الموظف عندما ينتهي من الحديث مع زميل له.. خرج شرطي في زي مدني من مكتب مجاور، يشتم مستعملا أقذر الألفاظ النابية، وهو يجر شابا مقيد اليدين..
تذكر عمر نص الامن في الكتاب المدرسي لأحمد بوكماخ، فقال لنفسه:
ـ لا يا بني الكتاب المدرسي وُضع للسُدّج مثلك.. هنا التهم جاهزة.. زجاجات الخمر، وقطع الحشيش، وبنات الليل، وشهود الزور، وما لا يخطر على بالك..
كاد ينسحب، ويعود أدراجه خوفا من أن يتعرض للشتم بنفس القاموس الذي سمعه قبل قليل. فكّر في تأجيل موضوع البطاقة إلى يوم آخر، لكن خاف أن يُسأل عن سبب دخوله ثم انسحابه!
قال متوترا في صمت:
ـ الآن وضعت نفسك في مشكل.. لا أنت قادر على البقاء، ولا أنت قادر على الانصراف!..
تذكر وهو طفل يسمع الكبارَ يحذرون بعضهم البعض من الثقة في المخزن.. والمخزن في الوعي الشعبي جهاز كبير، يقوم بأدوار متنوعة أهمها حماية أمن الدولة واستقرارها.. وأمن الدولة واستقرارها ارتبط بشعار (قولوا العام زين).. وكان الكثير من الناس يرددون بأن (العام زين) إذا فرضت عليهم مناسبة أن يجلسوا في حفل أو عرس أو وليمة بجانب بعض الغرباء. وأحيانا يرددون ذلك مع انفسهم إذا شكوا بأن وراء الحيطان آذان طويلة..
في الأحياء الشعبية أطلقوا على الصنف المدني من الأمن وصف الأحناش. والحنش يتسلل زحفا على بطنه، ولا يصدر عنه صوت يمكن أن يَسمعه، أو يُحس به غير صيادي ومروضي الثعابين..
أصبح مقهى الكتبية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي محجا لرجال التعليم والطلبة وسائقي الشاحنات والبصاصين الذين يعملون مع ثعابين الأقبية السرية.. الزبائن يجلسون حول الطاولات.. كل طاولة تحرسها عين لا تنام، وأذن طويلة تسترق السمع لما يحيط بها..
قطع عمر الشك باليقين بأن كل مجموعة تجلس إلى طاولة في المقهى أصبحت مثل أهل الكهف الذين قيل بأنهم ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقيل بأنهم خمسة وسادسهم كلبهم..
المعجم:
ـ العام (زين): يعني بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية جيدة. وهو وصف كان يتردد على لسان كبار المسؤولين في التلفزيون والصحافة الموالية. وكانت أجهزة الأمن بمختلف أنواعها تضغط بكل الوسائل على الناس من أجل أن تُقرّ بأن العام زين..