مها بن عبد العظيم:
أخرجت السينمائية السعودية هيفاء المنصور أول فيلم في تاريخ المملكة. ويعرض الفيلم في القاعات الباريسية منذ بضعة أيام. ويحمل اسم البطلة الصغيرة “وجدة” التي تحفر بئرا من الأمل في التحرر عبر حياتها اليومية في البيت والمدرسة والشارع…
دخلت السعودية باب السينما بفضل امرأة، ويعتبر “وجدة” حدثا على أكثر من صعيد، فهو أول فيلم روائي في تاريخ المملكة، وصور بأكمله في السعودية وكل الممثلين والطاقم الفني سعوديون، ثم إن المخرجة امرأة في منطقة من العالم تؤكل فيها حقوق النساء وحرياتهن. ويروي الفيلم حكاية طفلة تعيش في إحدى ضواحي الرياض وتشارك في مسابقة لحفظ القرآن في مدرستها على أمل أن تتمكن من الفوز بالمال لشراء دراجة. وسبق لهيفاء المنصور أن صنعت اسما في السعودية بفضل بعض الأفلام القصيرة إضافة إلى فيلم وثاقي. وانتقلت سمعتها إلى الساحة الدولية بعد أن حاز “وجدة” في 2012 على الجائزة الكبرى للنقد في مهرجان البندقية الشهير فارتقت بها إلى عالم كبار المخرجين. وبسبب غياب شبكة التوزيع في السعودية، لن يعرض فيلم هيفاء المنصور في بلدها سوى عبر التلفزيون وعبر الاسطوانات المدمجة.
وهيفاء المنصور في 38 من العمر، درست السينما في أستراليا وتعيش اليوم في البحرين مع زوجها -وهو دبلوماسي أمريكي. وكبرت هيفاء في بيئة مثقفة فهي ابنة الشاعر عبد الرحمان المنصور. وأكدت لفرانس 24 “كبرت في مدينة صغيرة لا توجد فيها قاعات سينما لكن العديد من نوادي الفيديو. أنحدر من عائلة مؤلفة من 12 طفلا وكان والدي يدفعنا لمشاهدة الأفلام لتهدئتنا حين نهرج”.
وإن كانت وجدة بتمردها تشبه المخرجة التي جازفت فنيا لترفع عاليا راية بلادها، فليس لهيفاء براءة الأطفال وليس من التناقض أنها أعطت دفعا للفن السعودي عبر كشفها عن أوساط تسيجها الخطوط الحمراء. فتحفظ الصبية القرآن طمعا بدراجة، وتتقن المخرجة التصوير من أجل أن تسير حرة في طريق الإبداع. لكن مسؤولية هذه المقاربة لا تريد للفيلم الوقوع في السيرة الذاتية والخلط بين الفنان وشخصياته، فالرواية تحمل بين طياتها عدة مستويات مجازية ورسائل اجتماعية وسياسية قوية تلفها شاعرية الكتابة السينمائية وحيل السيناريو. ولعل ضعف الفيلم الوحيد يكمن في محاولته إثارة قضايا عديدة وتساؤلات حول مكانة المرأة داخل العائلة وفي المجتمع وفي المدرسة وفي العمل، وهيمنة الدين ومتاهات الجنس وتلميح إلى السياسة، فيكتفي أحيانا بالمرور عليها دون التعمق في أي منها. لكن مقاييس الشجاعة في السعودية على غير ما هي عليه في بلدان أخرى، وربما قوة الإيحاء ونسبية التقدير هي التي أعطت الفيلم بعده الإنساني والعالمي.
وقالت هيفاء منصور لفرانس 24 “صورت الفيلم للمشاهد الشرقي والغربي وودت لو أحبه الجميع. لكن توجد في الفيلم بعض التفاصيل التي لا يمكن أن يفهمها سوى أهل السعودية. من المهم أن نعطي للسعوديين مصدرا لأن يفخروا بأنفسهم، فهو يتحدث عنهم وهو فيلم 100 بالمئة سعودي، إلى جانب القيم الأخرى العالمية التي يحملها من أمل ومثابرة وإلهام”
وتحلت هيفاء المنصور بإصرار ومثابرة مثاليين وكذلك، مرة أخرى على غرار وجدة، بالحيلة والصبر. فمن أجل التصوير في بلادها، أجبرت هيفاء أحيانا على التخفي داخل شاحنة ترسل منها أوامرها لفريقها عبر جهاز اللاسلكي لتصوير بعض المشاهد في شوارع يمنع أن تقف فيها النساء إلى جانب الرجال…
ويقول البعض إنهم رغبوا ولو كشفت المخرجة أكثر عن كواليس الجنس في الفيلم مثلا على غرار التلميذتين اللتين قبض عليهما في المدرسة في وضع أثار شكوك المديرة “حصة” فخرجت إلى التلاميذ تعظهم وتحذرهم من ارتكاب “الحرام” مانعة الورود ورسائل الحب وأن تمسك تلميذة بيد تلميذة أخرى في الصف! فيصيبنا الدوار أمام مثل هذه المواقف: هل هو تلميح إلى المثلية الجنسية؟ وهل في ذلك تفسير لها كنتيجة الفصل بين الجنسين في المؤسسات التربوية؟ أم هو فقط إبراز للعبثية القمعية المسلطة على أجساد مراهقين في طور التجربة واكتشاف الجسد…؟ فلنقل إن الفيلم يكسب المزيد من القوة لأنه لا يقع في التفسير، فالمبدع الحقيقي لا يجيب بل يعمق السؤال… ثم مل الجميع بعض الأفلام العربية وحتى الغربية التي تحول فيها الجنس من وسيلة لبحث الجماليات الوجودية إلى علامة تجارية تسوق على أطباق الصناعة السينمائية. وفي نفس السياق التلميح الخاطف لوضعية العمال الآسيويين المهضومة حقوقهم بسبب بطاقات الإقامة في المملكة، وقضية الانتحاريين الإرهابيين الذين يحلمون بـ 70 حورية في الجنة في حين تحلم وجدة بـ 70 دراجة. الدراجة كمثال عن الإبداع وسيلة للارتقاء إلى عالم أفضل؟
ثم ما هي الخلاصة من شخصية “حصة” المدرسة الغامضة والمديرة الجميلة، فهي مغرية وحزينة، تسري عنها أخبار بلقائها سرا بعشيق قيل لتجنب الفضيحة إنه “لص”، والتي تتأرجح في معاملتها لوجدة بين الحنان والصرامة، فتحذرها “كنت مثلك صغيرة فانظري كيف صرت اليوم”… أتفهم من ذلك أن العودة إلى التنظيم المتشدد الذي يفرضه المجتمع على المرأة هي حتمية لا مجال للإفلات منها ولا أفق لأي تمرد؟ تجيبنا في المقابل عجلة الدراجة التي تكاد تطير بها وجدة في آخر الفيلم –فلا ننسى في قراءة أولية أن البنت المحرومة من ركوب الدراجة صورة مصغرة عن المرأة المحرومة من قيادة السيارة. وتجيبنا بعض أقوالها الجريئة في الفيلم “-صوت الدعاة في الإذاعة عذب –صحيح، أنت لم تسمع صوت أمي الخلاب فهي تستحق إذاعة لوحدها”، ولجارها الصغير عبد الله الذي يعيرها بركوب الدراجة لأنها بنت “أنت تخاف أن تخسر السباق أمام بنت”.
ولعل الإجابة المطلقة تأتي حين يتزوج والد وجدة من امرأة ثانية فتشتري لها بعدها أمها الدراجة في خطوة مفاجأة بعد أن رفض الجميع مطلبها، لكنها مشحونة بالمعاني: للمرأة دور في قمع المرأة –ونرى ذلك عبر التنظيم المدرسي-، ولكن للمرأة دور رئيسي إن لم يكن الوحيد في تحريرها. وهي دعوة واضحة من المخرجة للنساء أن تتحررن بأيديهن.
وقالت هيفاء منصور لفرانس 24 إنها استلهمت وجدة من عدة أفلام أثارت إعجابها كدروس في السينما منها “سارق الدراجة” للإيطالي فيتوريو دا سيكا و”تسلل” للإيراني جعفر بناهي، و”روزيتا” للأخوين الفرنسين داردين.
فلنسمح لأنفسنا أن نضيف لقائمتها الفيلم “فاندا” الذي أخرجته الأمريكية باربارا لودن عام 1970 والذي كتبت عنه الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس “أعتبر أن فاندا أنجز معجزة. فعادة ما توجد مسافة بين التشخيص والنص، والموضوع والفعل، لكن في هذا الفيلم تنعدم المسافة، فهناك توافق فوري ونهائي بين باربارا لودن وفاندا”. وما أجمل توافق هيفاء منصور بوجدة…