كل مياه البحار،لاتكفي
لغسل
نقطة دمٍ واحدة
تسقط من
كاتب..
بول أيلوار
(*)
الى النجف الأشرف، في أربعينات القرن الماضي يتوجه فلاح فقير،من قرية(حداّثا) الرابضة في جبل عامل،يتخصص هذا الفلاح في حراثة الفقه الاسلامي/وفق المذهب الجعفري..وفي الوقت ذاته لايجعل من تخصصه الدراسي.تنورا لأرغفة عيشه..وفي النجف يلتقي القائد الشيوعي حسين محمد الشبيبي، ومن الشبيبي تندلع الشرارة الاولى..لتكون لهبا في وعي الفلاح الفقير الباسل (حسين مروّة) ،فمن خلال الشبيبي،يطّلع مروّة على(البيان الشيوعي) الوثيقة الطبقية الخالدة التي طرزها عقل البروليتاريا كارل ماركس ورفيقه فريدريك أنجلز.وماجرى بين الشبيبي ومروّة أدلى الأخير به في حوار أجرته جريدة السفير بتاريخ(21/2/ 1980)..(2)
(*)
كتاب (كلمات حيّة) مبادرة وفاء من الأستاذ قاسم بركات ،الذي قدم لها
وجمعها..وهكذا تأرشفت في كتاب بعض مقالات المفكر الشهيد،بعد ان تضوعت بعضها في الجرائد اللبنانية،وبعضها ينشر للمرة الأولى..
ويشهد بركات..(ولسنا ندّعي في هذه الامة القدرة على الغوص في بحر
حسين مروّة الذي يمكن القول إنه(فيلسوف عصره) على نطاق الأمة العربية والأسلامية،ومادليلنا على ذلك إلا أعماله الفكرية التي شغلت الكثير من المفكرين والباحثين والأسطع منه موته بيد من قتلوه/8)
نعم..فالأغتيال ليس بطاقة التعريف بمفكر فذ ..مثل حسين مروّة
حفيد المعتزلة وأخوان الصفا والزنج والسهروردي المقتول وغيلان الدمشقي والشيخ بدر الدين والحلاج…ثم يبرر الأستاذ قاسم بركات
مبادرته المعرفية قائلا..(نعم،هذا هو حسين مروّة،وماهذه المقالات الواردة في هذا إلا لتبيان مدى سعة المعرفة عنده في كافة المجالات السياسية والفكرية والادبية والدينية،الخ،وقد عمدنا الى أختيارها لنكشف
عن جوانب عدة في حياة فيلسوفنا الكبير وعن تعلقه بالمبدأ الذي أختاره
ولعلها خير دليل على ذلك/ص10)….يبدو ان الوفاء سجية لبنانية خالدة ،فقد أصدرت دار الفارابي عام 1992 كتاب للمفكر الشهيد
حسين مروّة بعنوان(دراسات في الأدب والفكر) قام الناقد الكبير محمد دكروب بجمع الدراسات وتنسيقها وكتابة مقدمة لها(3)
يتوزع كتاب (كلمات حية) من المفاصل التالية:
*مقدمة بقلم قاسم بركات
*لهج الحصار والصمود
ويتكون هذا المفصل من باقة مقالات هي:
*أيها التاريخ شكرا
*نافذة على الفرح
*الحزن القاتل..والحزن المقاتل
*صمودنا..سيهز صخور العالم
*المستثفيات الميدانية..سلاما
* أطباؤنا ملائكة الرحمة وحضنة القتلى والجرحى..
تستوقفني هذه الوحدات السردية الصغرى،المشحونة بالفرح الجماعي
المقاوم )أن نحترق ثم نبعث،أن نموت ثم نعيش،ليس ذلك شيئا من المعجزات،ليس ذلك أختراقا لطبائع الامور،في وجودنا،ليس ذلك كسرا
لقوانين النظام الكوني..إن ذلك حقيقة عادية من الحقائق الدهرية التي
تصنعها أنت أيها التاريخ/ص 14)
ثم يلي هذه الباقة اليانعة من المقالات المفصل الثاني،وهو بعنوان
*كأنه الشعر..
إذا كنا نلتقي في المفصل الاول بحسين مروّة المقالاتي..فنحن في هذا المفصل نلتقي بالمفكر الشيوعي وهو يشعرن سرده..وهكذا نكون في
حضرة نصوص شعرية مسرودة بتلقائية لذيذة ..
*هذه قامتي أيها الحزب..
تستوقفني هذه الشذرة الكريمة، التي تكتنز دلالات كبرى من أرق المفكر الكبير مروّة..(عند الوصول إليك،عرفت أن الكثيرين الذين يظلّون أسرى الأنغلاق في دائرة أحد القطبين النقيضين،إنما يظلّون هكذا لأنهم في الأصل،أسرى الأجهزة المعرفية السائدة الساكنة،لايستطيعون التحرر،
أو لا يجرؤن على التحرر من سلطانها، أو سلطان عادة الخضوع لأدواتها القمعية/ص 49)..ويختتم الشيخ الأحمر،داعية الاشتراكية
مروّة مناجاته الصوفية مع سنديانة الشيوعي الكبير الشهيد فرج الله
الحلو،مناشدا الحزب الشيوعي اللبناني في عيد ميلاده الخامس والخمسين قائلا..(عيدك الخامس والخمسون،يدفع قامتي ارتفاعا الى مدى قامتك العملاقة،حتى أراك في عام مولدك،وحتى أراني في العام نفسه أرحل أليك،عيدك…يدفع قامتي أرتفاعا الى مدى قامتك العملاقة ،حتى أجدك منتشرا في ذرات كياني ووجداني..حتى أجدني منتشرا في مفاصل تاريخك ككائن شيوعي يحس بعمق الأمانة لحزبه بقدر مايحس بعمق شرف الوفاء لشعبه/ ص51) وأنا اقرأ مناجاة شيخنا الشهيد مروّة.. هذه أشعرني في محراب الصوفين الكبار كالسهروردي والحلاج ..يلي ذلك الشذرات التالية :
*من مذكرات…(حدّاثا)
*في عرس جعفر
*ترابك الجنوبي ياوطني
*من السبعين الى…مابعد السبعين
*موت الشهيد الشيوعي..
بعينين غائمتين قرأتُ وأعدت قراءة هذا المفصل الاشد وجعا..وكلما قرأته..أرى شيخنا الأحمر أكثر أزهرارا وجمالا وضوءً..ثم أراه وهو يعيننا في فهم تاريخنا العربي الاسلامي بذلك الجهد الاسطوري(1800) صفحة من القطع الكبير(النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية).. الذي أنتجه لوحده،هذا الجهد الموسوعي الذي يحتاج الى فريق عمل معرفي ولسنوات طويلة.وحسب قول المناضل جورج حاوي
وهو يخاطب مروّة قائلا..(وإذا كنت قد أستطعت أن تحقق هذا الأنجاز لوحدك وهو عمل لاتقوم به سوى المؤسسات،فلانك أردت أن تعطي بعملك الفذ هذا،نموذجا للشيوعي بالمطلق،الذي تهون أمام إرادته الصعوبات مهما عظم شأنها وللمفكر الشيوعي بالخصوص،الذي يعرف
كيف يستخدم في أقسى ظروف العمل وأشدها تعقيدا سلاح النظرية منهجا
في البحث ومرشدا،ويستند الى عمق الرؤية وصحتها،من أجل الوصول الى استكمال المهمة الفكرية السياسية الموكلة إليه والمكلّف بإنجازها/ص98-99)
.ان الفيلسوف الكبير لايتوقف عن أعانتنا معرفيا،فهو في هذا النثر المرّكز الباذخ العمق وهو يرثي شهيدين في الحزب الشيوعي اللبناني، يجعلنا نقرأ النص نفسه في رثائه هو:
(موت الشهيد الشيوعي موت آخر…إنه ليس موتا.أنه موت الموت..
موت الشهيد الشيوعي هو التقمص من النوع الآخر.. إنه يتقمص الحياة
توا..لكنها الحياة الأوسع والأعمق..حياة كل الناس الطيبين في كل شعوب العالم..حياة كل الذين يحلمون بسعادة الإنسان الكائن على سطح هذا الكوكب/ الأرض/ ص71)
* المفصل الثالث للكتاب، عنونه الاستاذ قاسم بركات ب:
*حول…(النزعات المادية…)
مع بدايات الثلث الثالث من القرن العشرين..أشتعلت موجة عالية في العودة الى تراثنا العربي الاسلامي،إستقراء وإستنباطا ومحاولات متنوعة
في تقديم وصفات ناجعة لأمراض عصرنا من خلال تنشيط الخلايا المهمشة او الخلايا السالبة من تراثنا فقدم الفكر التنويري قراءاته
المتنوعة ،شارك في هذا الحراك المفكر محمد عابد الجابري في(نحن والتراث)، اما محمود أمين العالم فقد أصدر (مواقف نقدية من التراث )كما شارك الناقد غالي شكري في(التراث والثورة) وقدمت الناقدة يمنى العيد قراءة متقاطعة مع كتاب شكري ونشرتها قراءتها في مجلة(الطريق) اللبنانية يومها ،وشارك المفكر العراقي هادي العلوي في مجموعة رصينة من مؤلفاته،منها( التعذيب في الاسلام) و(الاغتيال السياسي في الاسلام) و(شخصيات غير قلقة في الاسلام) أما المفكر والمترجم محمد عيتاني فقد أصدر(القرآن الكريم في ضوء المادية الجدلية) في حين تصدى المفكر الشهيد(مهدي عامل) للندوة الفكرية التي انعقدت في الكويت في 1974،وأصدر عنها كتابه المعرفي الخالد(أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية) تصدى فيها لأطروحات تعيق سيرورة حركة التحرر الوطني،وشخصيا كقارىء متتبع للمفكر الشهيد ..ماتزال مقولته المعرفية التالية،نابضة في ذاكرتي :
(فكل نقد لايدلوجية طبقية معينة بالضرورة باطل،ان كان نقدا لها من موقعها الطبقي نفسه/ص11)
يتكون مفصل ( حول (النزعات المادية )من مقالة للناقد الكبير محمد دكروب..نلتقط منهاهذه المعلومة التاريخية (والمبادرة هذه تدخل في أطار التغيير التجدّدي والانعطافي الذي كرسه المؤتمر الثاني للحزب عام 1968والذي ضمن مهماته ((الارتباط الوثيق بقضايا شعبنا القومية والاقتصادية والاجتماعية)) ففي العام نفسه 1968 كلّف الحزب الرفيق حسين مروّة بمهمة إنجاز كتاب في تراث الفلسفة العربية الاسلامية وأتاح له إمكان التفرغ الكامل لهذا العامل في موسكو ضمن أحد المعاهد العلمية الاستشراقية الكبرى،وأنصرف حسين مروّة الى انجاز هذا العمل فترة عشر سنوات من الدراسة والبحث والمناقشات المستمرة/ص93)
تلي مقالة دكروب،مقالة للمفكر الكبير حسين مروّة عنوانها
(نُفذَت المهمة وهذا((تقريري الأول)) ) تليه مقالة عنوانها
(تلقينا تقريرك بفرح واهتمامٍ واعتزاز)
نلتقط من تقرير المفكر مروّة هذه الفقرة (الرحلة بدأت..بدأها الحزب رائدا،وسيواصلها رائدا،عبر قوافل مجيدة من الرفاق يجهزّون للغد..
الحزب هو الذي غرس،وهو الذي تعهّد الغرس ورعاه لحظة لحظة والتربة..هذه التربة الفكرية،التي حملت الغرس بأمانة..حتى أزهر وأثمر هي أيضا أعدّها الحزب وتلقاها،وأمدها بأشواق الخصب..حزبي العزيز
منك الهبات كلها: التربة والغرس والرعاية..فهل إلا إليك إذن أول القطاف؟ شرفي الابهى،وفرحي الاعمق،أن تتقبله)في هذه الكلمات المتأرجه بالوفاء كله والمحبة كلها والتواضع الذي لامثيل له..قي
هذه الكلمات يهدينا مفكرنا الكبير: درسا تربويا مطلقا…لاأدري لماذا قادني هذا الوفاء المطلق للحزب لموقف ضديد،لشاعر عربي أرسله حزبه الشيوعي للدراسة في موسكو..وحين عاد وبعد فترة وجيزة
من عودته..كافىء حزبه الشيوعي،با لانتماء للحزب الذي كان يقود السلطة؟!
(تلقينا تقريرك بفرح وأهتمام وأعتزاز) مابين القوسين يشكل مفصلا في الكتاب وهوتقرير بقلم جورج حاوي الأمين العام المساعد في الحزب الشيوعي اللبناني..نلتقط من هذا الحجر الكريم،الجوهرة التي صاغها جورج حاوي يومها بأسم المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني
(مرحى لك أيها الرفيق العزيز،لأنك قبلت المهمة التي كلفك بها الحزب،بشرف الشيوعي،ولأنك جازفت بكل مالديك من جهد عبر عقد كامل من الزمن لتحقيقها..هذا الكتاب الذي يملأ مكتبة الحزب والمكتبة العربية بأثر فكري فريد من نوعه/ ص100)
أما المفصل الرابع فهو
*قيل فيه…
قالوا في الجريمة
في هذا المفصل الختامي..اللقطة الموجعة والغضب العارم ..
(في السابع عشر من شباط 1987 الساعة الرابعة عصرا بعد الظهر،باتت بيروت بدون حسين مروّة. دخل القاتل المحترف غرفة نوم
الشيخ وأغتاله بمسدس كاتم للصوت على مرأى من رفيقة عمره /ص103)..بعد هذه اللحظة الدامية..هذه الجريمة ،يطمئن المأجور بالقتل او من له شراكة في الجريمة..(في أجهزة اللاسلكي قال واحدهم
للآخر: قتلنا لهم رأس !فردّ الآخر: ماتحكي !/ من تعزية رشاد أبو شاور ص138)..وبعد نيف وثلاثة أشهر وتحديدا ف18/آيار من السنة ذاتها
ستغتال قوى الظلام الفيلسوف اللبناني الشيوعي مهدي عامل…
(*)
المهزومون أمام الفكر الانساني ..يتوهمون ان القتل نوعا من الانتصار الجدلي المطلق لهم..!! ويتوهمون أيضا ان القتل درسا نموذجيا في أجتثاث حرية التفكير.. القاتل المأجور محض آلة صماء،لم يتصفح جريدة يوما،وهذا شرط مهم بالنسبة لمن يستأجره،أعني العمى شرط أساسي واجب توفره في القاتل،اذ لو كان القاتل واعيا،ما اقدم على القتل..الذي قتل الدكتور صبحي صالح،لم يرع شيخوخة هذا المفكر وطبعا لم يقرأ لا(فقه اللغة) ولا(مباحث في القرآن)، والذي قتل المفكر الشيوعي مهدي عامل،لم يقرأ (في التناقض )أو (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازية العربية) و(في الدولة الطائفية)والذي أنتهك حرمة المكان وتسلل الى منزل المفكر الفذ مروّة ليس شجاعا..أي شجاعة ان تقتل رجل في الثامنة والسبعين من العمر؟!
وأين الشجاعة وانت تقتل رجلا أعزلا،وعلى مرأى رفيقة عمره؟!
القاتل ذات القاتل..قتل صبحي صالح وقتل مهدي عامل وقتل حسين مروّة..وحاول قتل نجيب محفوظ وقتل فرج فودة. وناجي العلي..
..كما قتل كامل شياع ..لاتهم الأسماء، الاصح لاتليق بالقتلة الاسماء انهم محض أرقام..الفعل هو الأهم..الفعل الذي يكبدنا باهض الغياب لمن نحتاج سماع أصواتهم ورؤية وجوههم المضاءة بالمعرفة والمحبة..ونحتاج حضورهم العياني معنا ،لنزداد حياة بهم ومنهم..
(1)حسين مروّة: كلمات حيّة /قدم لها وجمعها : قاسم بركات/ دار الفارابي/ بيروت/ط1/2012
(2)أستفدنا من بطاقة التعزية المرسلة من قبل الصديق الروائي جنان جاسم حلاوي/ ص130-131 من الكتاب
(3) محمد دكروب/ تساؤلات أمام الحداثة والواقعية في النقد العربي الحديث/ دار المدى/ط1/ 2001/ أنظر…ص111 جديد حسين مروّة النقدي…. بعد غيابه.