سوف نستهل سردنا للتأريخ الديني (لحران) بقصة، ولو أنها على الأرجح غير حقيقة، ولكنها مع هذا تعليمية.حيث أورد “إبن النديم” (الموسوعي الإسلامي من القرن العاشر الميلادي)، في الفصل التاسع من مصنفه (الفهرست)، ان الخليفة العباسي المأمون وفي طريقه لمهاجمة التخوم البيزنطية، مرَّ، عبر وادي الرافدين، بمدينة (حران) القديمة و ذلك عام (830) ميلادية وهناك شاهد مجموعة من الرجال يرتدون جلاليب قصيرة ولهم شعور طويلة وتتدلى على جانبـي وجوههم جدائل ملتوية، فسألهم: (( من أي أهل الذمة أنتم؟ هل أنتم يهود؟ هل أنتم نصارى؟ هل أنتم مجوس؟)) وكان جوابهم ((كلا)) على جميع هذه الأسئلة. فعاد ليسأل: ((هل لكم كتاب أو نبـي؟)) فلم يحيروا جواباً، فقال المأمون: ((إذاً أنتم من غير المؤمنين وإنكم عبدة أوثان ومن أتباع أشعب الرأس الذي عاش في أيام أبي، الرشيد، لذا فقد حق عليكم سفك دمائكم لأنكم لاتملكون عهداً أوموثقاً يعصمكم من ذلك.)) فأجاب الحرانيون: ((سندفع الجزية))، ولكن الخليفة رفض قائلاً: إن الجزية تُقبل من غير المسلمين والذين ذكرهم اللّه، تعالى إسمه العظيم، في كتابه والذين لهم كتاب خاص بهم وقد أكدلهم (اللّه) حسن علا قتهم مع المسلمين. ولما كنتم لاتنتمون إلى أى من هذه الجماعات، فما لكم الآن إلا إختيار أحد أمرين، فإما إعتناق الإسلام أوأحد الأديان التي ذكرها اللّه في كتابه، وإلا فسوف أقتلكم عن اَخركم. سوف أجعل لكم أجلاً إلى حين عودتي من سفري هذا وحينها إما أن تكونوا قد دخلتم الإسلام أو أحد الأديان التي ذكرها اللّه في كتابه… وبخلافه سوف اَمر بذ بحكم وإستئصال أعمالكم الشريرة” وبناء على ما أورده أبن النديم، وبعد مغادرة المأمون، فإن قسم من الحرانيين أصبحوا نصارى بينما إعتنق اَخرون الإسلام. ولكن قسم قليل منهم بقوا على ماهم عليه. مقابل مبلغ من المال، قام أحدشيوخ المسلمين، من المقيمين في (حران)، بتقديم النصيحة التالية إلى هذه المجموعة الأخيرة: (عند إياب المأمون من سفره، قولوا له” نحن صابئون” لكون هذا إسم دين ذكره اللّه، تعالى إسمه، في القراَن. إدعوا هذا تنجوا به) وربماكانت مشيئة اللّه، إن المأمون مات بعد زيارته (حران) بقليل، وقد ذكر إبن النديم أنه عندما وصل خبر وفاته الى حران فإن من أخذ بنصيحة الفقيه و كذلك أولائك الذين تحولوا إلى النصرانية، عادوا إلى سابق حالهم، وحتى من إتخذ الاسلام ديناً، و بالرغم من عدم قدرتهم على الإرتداد، فقد عادوا الى ممارسة طقوسهم الدينية السابقة سراً. ويتضح من أسئلة المأمون، إن الخليفة نفسه لم يكن على يقين من وجود اُناس يسمون الصابئون، حيث لم يردوا ضمن من ذكرهم من أهل الكتاب(1). ومن المرجح، نظرياً على الأقل، وإستناداً إلى التركيبة المكونة للذميين، فإن أتقياء نصارى (إيديسا) والذين تدعي كنيستهم أن تأسيسها يعود إلى ماقبل عهد الحواريين، سوف يحصلون أخيراً على إنتقامهم من المكان الذي يسمونه ((مدينة الهيلينيين)) (Hellenes) أى الوثنيين. لقد أصبح بمقدور النصرانية أن تنال البقاء، ولو بشكل منقوص، في (إيديسا) بينما اُجبر الآن وثنيي (حران)، الذين قاوموا بضراوة الجهود الإمبراطورية (البيزنطية) لجعلهم يعتنقون النصرانية، على الإختيار مابين التحول إلى الإسلام أو العبودية أو الموت، وتغدو حران حينئذ مدينة قديمة أُخرى من مدن الشرق الأدنى حيث تكون معتقداتها و ممارساتها الوثنية قد إختفت تحت وطئة مجموعة أقوى من التقاليد. ولكن ماحصل، بدلاً عن ذلك، إن حران إنصهرت ضمن جغرافية الإسلام المقدسة. وبالرغم من عدم عودة المأمون إلى حران، للتثبت من أن أوامره قدأتُّبعت، فإن الأسئلة عن من هم؟ وما هم؟ الصابئون المذكورون في القراَن، وكيف تم ربطهم بحران؟ وما الدور الذي لعبوه في كل من تأريخ المعتقدات والممارسات الدينية للشرق الأدنى، وتطور بحوث الثقافة والفقه الإسلامي؟ بقيت، منذ عهد هذا الخليفة العظيم وإلى ما بعد دمار المدينة نفسها بوقت طويل، مسائل ذات طابع جدلي قاسي، ولولبعض الوقت على الاقل. إن حكاية إلتقاء الحرانيون بالخليفة، حسب ماورد في ((الفهرست)) تدلل على صعوبة محاولة تفسير طبيعة معتقدات سكان (حران) والذين، حسب إبن النديم، إتخذوا إسم “الصابئون” لنيل مكانة طيبة في ظل حكم الإسلام، حيث لم ترد أية إشارة لاحقة عن الصابئين في القراَن أو أي مصدر اَخر معاصر له، والتي قد توضح من المقصود، في القراَن، تحت هذه التسمية. إلى أى مدى قامت مختلف تفرعات الإسلام بتقبل أو إعادة تشكيل أو إعادة تفسير تأريخ (حران)، بتعدد أديانها و تقاليدها الثقافية، هوموضوع هذه الدراسة.
الكتاب موجود في مركز تحميل المجلة بامكانك اقتناؤه مجاناً.
الكتاب موجود في مركز تحميل المجلة بامكانك اقتناؤه مجاناً.