
من أكثر لوحات فان غوخ شهرة، وقد رسمها بعد أن خرج من المصح العقلي، بالمقارنة مع أغلب لوحاته فإنه قد رسم هذه اللوحة من ذاكرته عن سماء – سانت ريمي – بالمستشفى وليس من وحي الطبيعة، وقد ألهمت كثيرا من الكتاب الأدبيين وكانت غذاءا لنصوصهم الشعرية وأعمالهم الموسيقية وأغنية دون ماكلين الشهيرة” فنسينت او ستيرى نايت” كانت من وحى تلك اللوحة الشهيرة. فبإمكانك أن تشعر بالحالة النفسية لفان غوخ في هذه اللوحة التي تتعلق العينان والنفس بها حال رؤيتها .
من لون الكآبة الأزرق إلى الأصفر المُشع كالروح، وضربات الفرشاة التي تتخذ نمط الدوائر والإنحناءات، كما لو أنها تتبع النفس في متاهاتها, النجوم والسماء تشكل مساحة كبيرة من اللوحة، ما يقرب ثلاثة أرباع اللوحة شغلته السماء الزرقاء ونجومها الوضاءة بضربات الفرشاة التي صنعت الإنحناءات والتموجات فتبدو السماء وكأنها في أحد الأحلام، وتختلط تموجات السماء التي يتعلق بها نظر الرائي بتموجات النجوم المضيئة وكأنها كلها تسبح في بحر من الأفكار التي تلتف على رأس المرء وتحاصره. والمشهد بأسره يجعل المرء في حالة ما بين البهجة والعزلة، الهدوء والكآبة، وسرّ هذا الشعور بالعزلة والكآبة هو في الجزء الأسفل من اللوحة والذي يشكل ربعها، في القرية الممتدة تحت السماء، تبدو القرية بأشكال بيوتها واللون الأزرق الذي يطغى عليها وكأنها في حالة من السكينة والعزلة، الجبال الزرقاء حول القرية وكأنها تلفها بوحشتها وتحيطها بأسوار من العزلة المخيفة، وهناك إلى الجانب

القريب منا، نجد هذا المشهد الأسود الداكن، وكأنها تفرعات لشجرة، يتخد هذا التفرع الأسود كالدخان المتصاعد مساحة كبيرة من اللوحة، ليضفي على سماء النجوم شعوراً بالكآبة ، ولكن النجوم البيضاء والصفراء بالتوهجات التي تحيطها، والهلال القمري المشعّ صفرة تسيطر على عينيّ المشاهد وتشعره بالبهجة والحب، فتتعلق عيناه بهذا الجمال، وكأنه في حلم جميل، إنني أجد أن لوحة ” ليلة مرصعة بالنجوم” هي لوحة نفسية تصوّر لنا شعور فان غوخ النفسي، فقد كان متعباً ويشعر بحزن عميق بسبب إجباره على دخول المصح، و أحواله الفقيرة، فالفنان لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة والآن تقدر لوحاته بالملايين، فأتت هذه اللوحة لتصوّر النفس التي تلفها الكآبة ولكنها ورغم ذلك تتوق إلى السماء، والحب والحياة، ورغم بؤسها وعزلتها تتوق إلى البهجة الروحية، وهذه النجوم المتلألئة تصور ما تحتاجه النفس وتطلبه، ورغم هذا, فإن الحزن المتصاعد كفروع الأشجار لابدّ وأن يمس هذه السماء الروحية ويصل إليها كما الدخان المتصاعد، ولكن مع كل هذا فهذه السماء المضيئة بالنجوم تضيء بالوهج وتمتد بجمالها الساحر والبهيج لتغطي القرية البائسة بجمالها، إن جمال هذه اللوحة في نظري هو في خلاص فان غوخ، فالفن واللوحات والعمل كان بالنسبة لفان غوخ خلاصه، وهو هنا يصوّر لنا آماله وأحلامه ونفسه وروحه وكل ما قد انطبع في نفسه بهذه اللوحة التي تأسر نفس كل من يراها،
وبالرغم أن ليلة فان غوخ المرصعة بالنجوم ليس فقط عمله الأكثر شهرة، لكنها اللوحة التي نالت كثيرا من التفسيرات والقراءات على مرّ السنين، العديد من المدارس النقدية الفنية حاولت تخمين المعنى المتضمن في تلك اللوحة وأهميته.-
عبد الإله بوبشير , فنان تشكيلي و باحث