بدءا هذه المقالة ليست دفاعاً عن صاحب مشروع (المونودراما التعاقبية) وهو المخرج الذي لا تنقصه قدرة الدفاع عن مشروعه ولكن سأتحدث باعتباري صاحب أول نص مونودرامي تعاقبي (أسئلة الجلاد والضحية) المنشور في صحيفة العالم بأعدادها الثلاثة 1074و1075 و1076 لعام 2014 وفي بعض المواقع الالكترونية المتخصصة بالمسرح وغيرها، والذي يشتغل عليه الآن تطبيقياً المخرج الفنان فاروق صبري، والمتبوع بنص تعاقبي آخر هو (القاص والقناص) المنشور في الجريدة نفسها. وهنا أثبت رأيي الذي لا يتعارض مع رأي بعض الأخوة ممن حاول تذكيرنا بتعريف المونودراما التقليدية سواء بهيئة رد، أو تعليق على صفحات الشبكة العنكبوتية معتبراً إيانا قد خرقنا قانون المونودراما المركزي، وخرجنا عن وحدانيتها وفردانيتها، والذي جاء فيه “انها العرض المسرحي الذي تمثله شخصية واحدة”. مؤكدين على أن القانون الأول الذي يحكم النصوص والعروض المونودرامية هو الفردانية وهذا القانون غير قابل للنقاش أو المداولة، وله حصانة كبرى ضد الخرق مهما بلغت درجة حداثوية هذا الخرق أو ذاك. وهو العمود الفقري الذي لا يمكن كسره لأن النصوص والعروض قائمة عليه، ومن دونه يتهاوى بناء المونودراما المرصوص متحولا إلى بناء تقليدي لمسرحية متعددة الشخوص. وقد حافظت وأنا أكتب نصوصي التعاقبية الجديدة على قداسة هذا القانون. فالمسرحية تبدأ بشخصية واحدة مستحضرة ماضيها وما حدث لها وتأثير ذلك على حياتها آنيا وبشكل حيّ على خشبة المسرح. ولم أدع الشخصية تتوقف عن بثّ شفراتها النفسية والاجتماعية والفكرية المضادة لأسمح لشخصية أخرى بالدخول إلى الخشبة لتفعل ما فعلته الشخصية السابقة ثم أعود ثانية وثالثة لأكرر الحالة حتى نهاية العرض بل، تركت الشخصية الوحيدة تكمل بوحها على خشبة المسرح (داخل النص)، وتنتهي إلى حيث ينتهي معها الفعل الدرامي مجترحاً خاتمة النص أو العرض الذي تسدل الستارة على أحداثه وعلى شخصيته الوحيدة.
إن ما طرحته الشخصية (نصياً أو تطبيقياً) يمثل رؤيتها، وتعارض هذه الرؤية أو تقاطعها مع رؤية شخصية غائبة ومسببة لأزمتها، ودافعة إياها إلى حضن الفردانية والوحدانية التي ينبثق عنها العنصر الأكثر أهمية وهو الصراع الدرامي الذي يتجسد من خلال حدة التناقض بين الشخصية ونقيضها، وبينها وبين نفسها، وبينها وبين الضواغط الخارجية من جهة أخرى ولكن دون أي تواجد حيّ للشخصية النقيضة على خشبة المسرح من شأنه أن يخرق الوحدانية، أو أن يخرج منها دافعا إياها إلى التعددية.
عند هذه النقطة، نقطة النهاية واسدال الستار بالمعنى المسرحي الخالص تبدأ التعاقبية حركتها منطلقة وعارضة وجهة النظر الأخرى للشخصية التي عاملتها الشخصية الأولى كشخصية متهمة في تسبب الأزمة التي أوقعتها في حبائل الوحدانية المدمرة.
الشخصية الثانية إذن لا تتصل بالأولى إلا من خلال كونها ضحية لها، ونتيجة من نتائجها، ومسببا رئيساً لأزمتها. وهي تبدأ مشوارها المسرحي بعرض ما لها وما عليها مدافعة عن وجهة نظرها واختلافها عن الشخصية الأولى ضمن نسق مسرحي واحد غير خارق لقانونها العام (الفردانية). وما تقدمه يشكّل رؤية مستقلة هي رؤيتها الخاصة والمختلفة في خصوصيتها عن الشخصية الأولى. إن لها نصها أو عرضها الذي لا علاقة له بالعرض السابق إلا من خلال ما بينّاه من نقاط الاتصال، وهي تأتي ترتيبياً بعد انتهاء المنودراما السابقة لتغدو المونودراما اللاحقة ومن هنا جاءت تسميتنا لها بـ(التعاقبية).
أما الرأي القائل بتسمية العرض الجديد بـ(عرض الحضور والغياب) فإننا نعترض عليه أولا لكونه مبني على أساس التعددية، وثانيا لإمكانيته على أن يكون أحادياً في نص مونودرامي واحد تجسّده شخصية واحدة على الخشبة من خلالها نضع أيدينا على فعل الحضور الذي تمارسه الشخصية المونودرامية، وفعل الغياب الذي يصل الينا من خلال أزمتها ومحاكمتها للشخصية الغائبة المتهمة والمحكوم عليها غيابياً.
التعاقبية إذن تفترض وجود شخصية فردانية للمونودراما الأولى تمثل مسرحيتها ثم تغادر الخشبة بعد اكتمال كلَ شيء. وتفترض شخصية أخرى للمونودراما الثانية كانت موجودة في ذهن الشخصية الأولى كندٍ لها ونقيض مستقل. ولا اعتراض على كون الممثل التعاقبي يقوم بدورين مختلفين اختلافاً تاماً تتحكم بإظهار مهارته الفنية، وتقنيته، وقدرته على تمثيل أكثر من دور واحد في أمسية مسرحية واحدة. وتفترض أيضا أن الفعل حدث على خشبة المسرح وانتهى ليبدأ بعده فعل آخر يتضمن على العناصر المونودرامية كاملة وهذا هو السبيل السليم الذي تقفو عليه خطى العملية التعاقبية.
وتأكيداً لسلامة العملية التعاقبية فقد وضعنا عنوانات النصوص بشكل يتلاءم مع مزدوجة التناقض الشخصوي فالنص الأول تشكّل من مفردات ثلاث (أسئلة الجلاد والضحية) فاذا استبعدنا المفردة الأولى فان المفردتين الباقيتين تعطي انطباعا أوليا على وجود شخصيتين متناقضتين (غالب ومغلوب) ضامنتين للصراع المباشر بينهما كحوارية ثنائية محكومة بالاتصال ولكنهما في مسرحنا التعاقبي محكومتين بالانفصال. وما ينطبق على النص الأول فانه ينطبق على النص الثاني (القاص والقنّاص) والمركب من شخصيتين منفصلتين أيضاً، ومتناقضتين جوهريا فالشخصية الأولى (القاص) موكّلة للدفاع عن الحياة وجمالياتها بينما الثانية (القنّاص) موكلة لقتل الحياة وتدميرها.
المونودراما التعاقبية عملية تسعى إلى الخروج عن التقليدية في الكتابة والعرض، وعن الشكل والمضمون، وتسعى إلى تثبيت منهج درامي خاص يتجاوز القديم، ويجترح الجديد. وإذا كان الفنان فاروق صبري قد وضع الخطوة الأولى على طريق التبشير بالعملية التعاقبية فإننا توازيا معه وضعنا الخطوة الأولى على صعيد التطبيق النصي الذي سيعقبه بالتأكيد اشتغاله عليه تعاقبياً على وفق منظوره الفلسفي، ورؤيته الفنية والفكرية. ومن الجدير الإشارة هنا إلى وجود مشتركات عامة بين مؤلف النص التعاقبي وبين مخرجه. مشتركات فكرية تلغي الكثير من الحدود، وتقرّب الكثير من وجهات النظر وإن لم تلغِ الاختلاف بينهما. وتثبيت افتراضاتي في هذا المقال لا تعني بالضرورة الغاء ما افترضه الأستاذ فاروق صبري من أسس عامة لهذا المشروع مرتبطة بالعرض المسرحي. ثمة فارق بسيط يتجسد في نوعية الاشتغال على هذا المشروع. فالفنان فاروق صبري يشتغل على جانبه التطبيقي اخراجياً بينما اشتغل أنا على جانبه التطبيقي نصياً. هو يشتغل على الخشبة كمساحة للعرض بينما اشتغل أنا على الكتابة كمساحة للنص، وعليه فإن افتراضاتنا أخذت جانبا تخصصيا مشتملا على جانبي العملية المسرحية تنظيرا وتطبيقا منذ بدء الاعلان عن التعاقبية كمشروع ابتكاري متجاوز للتقليدية بحدود محسوبة ومحدودة فنحن لا نزعم أننا كسرنا حاجز التقليدية وهدّمنا جدار التقليد بشكل تام بل أكدنا مراراً على أننا سعينا من وراء هذا المشروع إلى تحقيق ذلك بكل ما نملك من قوة الابداع المتواضعة، وتركنا الباب مفتوحا على مصراعيه لمن يأتي بعدنا فيضيف من عندياته لبنة جديدة، أو افتراضات جديدة، أو ابتكارات داعمة ومعززة لطبيعة المشروع التجديدية.