عصام القدسي :
(1) التاسعة تماما :
اعتادت أن تجلس في المطبخ ، وعيناها تتطلع بقلق إلى الساعة أمامها ، وسكون المساء يلف المنزل ، بينما يجلس هو، هناك خلف باب موصد ، منكبا على ملفات يقرأ فيها . عند التاسعة تماما موعد شربه الشاي، وقد حاولت مرة أن تذهب به إليه قبل هذا الوقت ، فغضب وكرر عليها القول بعصبية . وبرغم ما حصل فهي لا تحمل في نفسها أية ضغينة تجاهه ، بل هي التي من يقع عليه اللوم ،إذ يجب عليها أن تعي ما يريده جيدا..حتى العام الماضي كانت تظن أن زواجهما خطأ فادح . وفي أوقات سابقة تمنت لو يفترقا ، ولكنها تجفل لمجرد التفكير على هذا النحو، فتطرد الفكرة من رأسها ، وتنزوي تذرف الدموع، ولكن قناعتها تغيرت فيما بعد ، وأحست أن من السعادة أنها تعيش معه تحت سقف :واحد. ولا تعلم سببا لهذا التغيير..منذ ليال وهو يوليها ظهره وينام ، ولم يكن كذلك من قبل، وبرغم ذلك فلا شيء يدعوها لأن تقلق . ثم صار يتأخر مساء ، بالعودة متذرعا بمشاغله في المكتب،حتى ما عادت تعرف له موعدا محددا لوقت رجوعه إلى البيت . اجل يتأخر ، ولكن ليس لحد الساعة التاسعة وهذا لا يقلقها أيضا فهي تجد له مسوغا، بأنه دليل نجاحه المتزايد وهو ما يسعدها. كما أنها تعودت أن لا تتدخل بعمله فلا تسأل عن سبب تأخره أو القضايا التي يتوكل بها ولا أسماء زبائنه رغم علمها إن بعض زبائنه من النساء الجميلات اللواتي اختلفن مع أزواجهن وجئن يطلبن الطلاق..
مازالت تجلس ساكنة ، وصوت التلفزيون الصغير،أمامها،في ركن من المطبخ يوشوش سمعها ، وما يعرضه يصافح بصرها دون أن يلامس أحاسيسها . إنها متوترة الآن تترقب ، وهذا شأنها في مثل هذا الوقت ..الساعة الآن هي التاسعة إلا عشر دقائق ومن باب الدقة إلا تسع ، وكل شيء سيكون جاهزا فالإناء يغلي ببطء شديد ، وسترفعه عن النار بعد ست دقائق ، وتجهزه قبل دقيقة واحدة أو دقيقة ونصف وتضعه أمامه بالوقت المحدد تماما . وعادت تنظر إلى الساعة . وتوهمت أن عقرب الثواني قد توقف ومالت برأسها قليلا ، ثم أدركت إن الضوء المنعكس على زجاجتها سبب توهمها . فهذا المارد النحيف يدور نشيطا، وعقرب الدقائق يزحف للأعلى ، وان بدا عقرب الساعات نائما ، غافلا عما يدبره له العقربان . وتفكر برفع صوت التلفزيون، ولكنها تخشى أن تكدر عليه خلوته . وتذكرت أمنيتها ، التي ألحت على نفسها في الأيام الأخيرة ، وهي أن يشتري لها زوجا من طيور الحب ، في قفص لتكتمل سعادتها . ذات مرة باحت له برغبتها هذه، ورأته ينزعج ولم تعد تجرؤ أن تكرر طلبها خوفا على مشاعره أو ربما إنها لم تجد الفرصة المناسبة ، فوقته موزع بين العمل في المحكمة والمكتب والنوم ودراسة الأوراق التي يجلبها معه ، ولا فرصة لها إلا وقت الغداء ، ولكنه يجلس على المائدة ساهما وما أن ينتهي حتى يذهب إلى النوم، فترى من الحماقة أن تفضي له بما تفكر به عموما . وتنتظر دقائق ليدعوها إليه فلا يفعل ، فتشعر بفطرتها الأنثوية انه نام ، وهذا أمر لا يسبب لها الإزعاج مطلقا، فتنصرف إلى غسل الصحون وترتيب المطبخ ، بعدها تستلقي على أريكة في الصالة تغفو عليها بعض الوقت ، وما أن تفيق حتى تهرع بعد خروجه عصرا ، لرفع الملابس التي غسلتها ، عن الحبل وقد جفت لتكوي ما يحتاج للكي ، وترتب الآخر وتضعه في الدولاب ثم تتهيأ بعدها لجولة العشاء ، عندها يكون قد عاد من مكتبه ودخل إلى غرفته وشرع بمراجعة أوراقه في الغرفة ، وبعد العشاء ـ ولطالما عزف عن تناوله بحجج واهية ـ تنتظر الساعة التاسعة تماما لتحضر له الشاي وتذهب به إليه وهي تسير بحذر شديد كي لا تحدث صوتا وهاهي الساعة الآن تشير إلى التاسعة إلا خمس دقائق، ومشاهد رومانسية تتحرك أمامها على الشاشة ، فتتذكر المصادفة الرائعة التي جمعتهما .. حين تقدمت للعمل في مكتبه كانت مهمتها الاهتمام بكل ما يتعلق بالمكتب فهي من يستقبل الزبائن وحينما يتأخر أو يغيب تكون الوسيط المهم بينهما. كان عملها يتطلب الحرص والانتباه ، فهي تقوم بالحفاظ على القضايا وترتيبها في خزانة المكتب ، وتدوين مواعيد المرافعات الجديدة بدفتر، وإبلاغها لذوي الشأن. كما عليها إعداد الشاي والوجبات السريعة له في بعض الأوقات ، وتنظيف المكان. ومرت بخاطرها صور جميلة من الأيام الأولى لزواجهما ، وتتحير بين أن تقول كم كانت هي حمقاء تلك الأيام ، أو تعزو ذلك لقلة التجربة . فهي لم تفهم يوما ما كان يرمي إليه بكلماته القليلة المتوددة ، ولا تجد معنى لاهتمامه غير الواضح ولم تع كل ذلك إلا حين طلب منها الزواج صراحة . وتذكرت صديقتها سلمى ، وكيف تضحك حين تروي لها ما يجري بينهما ، وكيف كانت تحاول مساعدتها . لقد تزوجت سلمى وزارتها مرتين فلم تجد ترحيبا من زوجها ، فكفت عن المجيء . وأحست بالشوق إليها ، وتساءلت وهي تتطلع إلى الساعة ، فيما إذا ستعاود زيارتها ثانية . وانتبهت من شرودها ، على قلق يباغتها . لم يبق على التاسعة سوى ثوان ، وشعرت بوخز الضمير ، فهاهي تخطيء تقدير الوقت ثانية . وشرعت على عجل تسكب الشاي في القدح ، ثم تحمله وتتوجه إلى الغرفة الموصدة ، بخطوات حذرة . عند الباب وقفت مترددة وراحت تصغي . لعله يلحظ الوقت فينادي عليها. وأحست بالخجل لوقفتها بهذا الشكل . طرقت الباب بهدوء ، فلم تسمع ردا ، ضغطت على مقبض الباب وانتظرت لحظات. ثم أشرعتها ووقفت وسط الغرفة تجيل البصر بأرجائها فاكتشفت انه لم يزل خارج البيت.
(2) الفــأر :
لم أكن رأيته من قبل. كان يجلس بالقرب مني في المقهى ، ولم أكن منتبها لوجوده.ولما هممت بإشعال سيجارتي ، بادرني بإشعالها لي . وقبل أن اشكره ، نظر إلي ّوقال هاتفا:ـ سأطلقها . نعم سأطلق زوجتي.. سأرتاح أخيرا.
تأملته ، كان في الخمسين ، أي إن عمره مقارب لعمري . كان ضئيل الجسم ، حجم رأسه كبير، مما يبدو غير متناسق مع جسمه . يرتدي ملابس بالية. كانت شفتاه ترتعشان وهو يصرح بذلك ، وعيناه تتقدان بغضب يثير الضحك ، وأذناه تنتصب كأذني ثعلب مطارد قلت له وقد استهوتني اللعبة:ـ وهل تجرؤ على فعلها.؟
فالتهب حماسه وراح يقص لي والزبد يخرج من فمه ، عن رجولته . وكيف هي تنقاد لأوامره دون نقاش. و.. و.. فلم أتمالك نفسي من الضحك طويلا.وهكذا أصبحنا ، منذ اللحظات الأولى ، أصدقاء . ورحنا نلتقي كل يوم في المقهى ، ونجلس معا على (التخت ) نفسه حتى ألَف الجميع وجودنا . وتساءلوا إذا ما رأوا واحدا منا ، دون الآخر. بعد فترة طويلة مرت على صداقتنا قال:
ـ يدعوني الجميع نمر. أما اسمي الحقيقي فلا حاجة لك به ، فأنا شخصيا نسيته كما نسيه اقرب الناس إليّ .ولم يعودوا يعرفونني إلاّ بهذا الاسم.
قلت باسما : ـ اسم على مسمى.
ولم يترك لي فرصة ، لأعرفه باسمي. كان يناديني بـ (يا أستاذ). وإذا ما كنّا في موقف يستثير ألفة أكثر يقول لي (أخي) ، ثم يشرع بحديثه الشيق . كان يختلف عني تماما في كل شي . فهو مندفع متوثب لا يعرف السكون أو الصمت ، يفعل ما يحلو له ويصرح بما يفكر به دون تردد . أما أنا فأنني جُبِلت على أن لا أتفوه بشيء قبل أن أفكر ولا أتصرف قبل أن أتدبر ، وهذا الاختلاف الذي بيننا هو الذي دفعني للحرص على صداقته ، فقد وجدت فيه ما افتقر إليه، وما أحب أن يكون لي من الصفات.
كانت له أفكار غريبة، مرة قال لي:
ـ أن بعض الناس لهم هيئة الطيور ، أو الحيوانات ضحكت ، فقال بإصرار:
ـ إلا تصدقني..؟ خذ مثلا عامل المقهى الذي يقف هناك . انظر إلى رأسه المدور الصغير، وكيف يستقر فوق رقبته النحيفة .تأمل كيف يلتفت يمنة ويسرة. إلا يذكرك ذلك بالطيور ..!!
وأردف مثله هذا بأمثلة أخرى لأشخاص يجلسون من حولنا ، وأيدها بحجج دامغة . لقد ذهلت لهذا الاكتشاف الذي لفت انتباهي إليه .وعجبت كيف إنني لم الحظ ذلك بنفسي من قبل . كان يتحدث كثيرا ، وغالبا ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات:
ـ سأطلقها ..نعم سأطلقها.
ودون أن يتحدث بشيء عن زوجته ، يشرع بأحاديثه الممتعة .كان هو يتحدث ويتحدث وأنا أصغي دون ملل .يحدثني بمواضيع شتى ، عن حال الدنيا ، وعن المال الكثير الذي كسبه ثم أضاعه بطيشه ، وعن النساء اللواتي عاشرهن، والأولاد الذين تضج بهم الأزقة ويفتقر بيته إلى واحد منهم ( وتلك حكمة الله) . كان يحدثني عن قوته التي ليس لها حدود. وعن الرجال الذين غلبهم في معارك عنيفة .
كنت أتلمس الكذب في بعض أحاديثه أو المبالغة ، ولكنني كنت أتغاضى عن ذلك ، كي لا تفوتني متعة الحديث. كنت اسمع منه أحاديث لم اسمعها من أحد ، من قبل ولم اقرأها بكتاب .كان يتحدث بطريقة تأسر السمع وتشيع البهجة في النفس . أحيانا كان يتلكأ في حديثه ، أول معرفتي به كنت أظنه يعاني من مشكلة ما أو انه في مزاج سيء .ثم اكتشفت انه يصاب بمثل هذا الإعياء حينما يكون( مفلسا) فأسعفه ببعض المال ، فيعود مواصلا حديثه ولكن بحماسة ليس لها مثيل …
ذات يوم غاب عن المقهى . انتظرته . وطال انتظاري له، لكنه لم يأت ، فغادرت المقهى والحسرة تخنقني .وفي اليوم التالي، لم يحضر أيضا . حينها أحسست بالتصدع وأدركت أن الخيط الذي يربطني به ينقطع ، وربما إلى الأبد . كنت اجلس في المقهى ونظري مشدود إلى مدخلها أراقب الداخل إليها ، حينما اقترب مني عامل المقهى ووضع الشاي أمامي ثم همس قائلا:
ـ لعله مريض . ؟ فهو يرقد أحيانا في الفراش أياما عدة .
قلت: ـ ولكنه لم يخبرني بذلك يوما.
واستطرد العامل : ـ وقد يكون في مشكلة مع زوجته ..؟
سألته : ـ أين يمكن أن أجده .؟
فدلني على بيته . قمت مسرعا ، وتركت ورائي الشاي الساخن في مكانه وعامل المقهى الطيب القلب الذي نسي إساءة صاحبي له ذات يوم ، ودلني على مكانه دون تردد ، وهو يقلب كفيه استغرابا.
أمام الدار القديمة ، المتصدعة الجدران، وقرب الباب الذي تجمعت عنده الأزبال وقفت .كنت أخشى أن لا أجده ، أو يكون قد نفذ وعيده ، فطلق زوجته وساح في ارض الله الواسعة . أو يكون مريضا حقا كما ذكر عامل المقهى. طرقت الباب. لحظات ، وخرجت لي إمرة بدينة سمراء متوسطة العمر تدل هيئتها على اللامبالاة وعدم الانتباه .سألتها عنه فأجابت بلهجة مجافية:
ـ تقصد الفأر.!!.
لم اجبها. واتخذت منها موقفا كي لا تتمادى في الإساءة لصاحبي . ولما لمست المرأة تصلب موقفي من خلال صمتي ، ووجهي الذي لم ينبسط للحظة ، قالت مازحة :ـ هكذا أنا ادعوه .. فهو فأري العزيز.
فلم أرد عليها. ونحن نجتاز الممر المظلم ، برغم ضوء النهار، لمحت في باحة الدار فوضى و قذارات وحاجات عديمة الفائدة، فتصورت المأزق الذي يعيش فيه صديقي المسكين ومدى تفاهة هذه المرأة التي يعلن دائما رغبته بتطليقها .في نهاية الممر وعلى يمينه مباشرة ، أشارت إلى الغرفة التي هو فيها. في داخل الغرفة كانت الجدران قذرة وقد ألصقت عليها صور ممثلين وممثلات تألقوا في سماء الفن قديما ، ثم انطفأوا وانمحت أسماؤهم . وعلى الأرض سجادة ذابت وبقيت خيوطها المتهرئة وبعض حوافها .ورأيته أخيرا ، يرقد على سرير قديم ، فراشه رطب متسخ . كان مغمض العينين شاحب الوجه ، بملابسه التي الفتها عليه. في البدء خلته ميتا ، وحينما أحس بوجودي ، انتبه ، فتح عينيه ثم لم يلبث أن أغمضهما. كلمته فلم يرد، لبثت واجما ، ثم انحنيت ووضعت تحت وسادته بعض المال وقبل أن أغادره همست في أذنه :
ـ أما زلت تريد تطليقها . ؟ ثم غادرت .وقبل أن أصل إلى باب الغرفة سمعته يهتف بصوت متعب : ـ نعم ..سوف أطلقها ، وسترى ذلك بنفسك .
—