مسرحية صامتة مهداة اإلى المدينة التي لم تفلح الجرذان السود في اغتيال شمسها البيضاء
المِصمَت الأول
المسرح مظلم تماماً.. يتوهّج الضوء مع الموسيقى شيئاً فشيئاً من خلال معلم طولي معلّق في فضاء المسرح.. إضاءة رأسية تسقط على الجسم المتوهّج فنميّز فيه شكل مسلّة حمورابي بقوانينها التاريخية الرائدة.. يزداد ضوء المسلّة توهّجاً، مع الموسيقى، فيمتلئ به فضاء المكان كلّه.. يستمر الضوء بالتوهج حتى يتحول المكان إلى كتلة من نور ثم تطفأ الأضواء وتتوقف الموسيقى.
تشعّ من منتصف المكان، مع الموسيقى ثانية، هالة من الضوء الوهّاج ثم تسلّط عليه دائرة ضوء رأسي فتتبين لنا ملامح الملك آشور بانيبال وهو يقف حاملاً بيمينه أسداً كدليل للقوة، وبيساره رقيماً طينياً كواحد من آلاف الرقم التي ضمّتها مكتبته الشهيرة كدليل على رعايته للعلم والمعرفة.. دائرتان من الضوء تسقطان على جانبيّ المكان فنرى، من خلالهما، الثورين المجنحين الكبيرين.. تتقدم من جانبي الكواليس مكتبتان ممتلئتان بعدد كبير من المصادر، والمراجع، والمجلدات المذهّبة والرقم الطينية إحداهما مكتبة آشور بانيبال والأخرى مكتبة دار الحكمة.. تتحركان ببطء مع الموسيقى لتحتلا مكانيهما بين الثورين وتمثال الملك آشور بانيبال.
تظهر على الخلفية مجموعة من العمارات بطرزها المعماري العربي تشهق في وسطها المئذنة الحدباء وهي تصعد من الأسفل إلى الأعلى مع تصاعد أنغام اسحاق الموصلي حتى تستقر تماماً مشكّلة خلفية للمكان.. تتقدم من عمق المكان امرأة بزي آشوري.. تخطو بقدها الميّاس على هدي الموسيقى العربية بضع خطوات لتقف أمام إحدى المكتبتين كتمثال من الرخام.. تتقدم امرأة أخرى بزي بابلي تستعرض بغنج كسابقتها لتنتهي عند المكتبة الثانية وهي كسابقتها غاية في الأناقة والجمال.. تتقدم الثالثة بزيها العربي لتأخذ محلها قرب تمثال آشور.. تظهر على الشاشة الخلفية نقطة صغيرة لطائر تكبر كلما تقدّم إلى الأمام.. وإذ يصل منتصف المسافة نراه كجسم آدمي بجناحين كبيرين محلقاً فوق الأبنية.. يخرج من الشاشة الخلفية ليحطّ على مكان قريب من المكتبة اليمنى.. يتوقف عن الحركة قبل أن يضمّ جناحيه كما هو حاله في تمثال عباس ابن فرناس.. يمر من أمام ابن فرناس رجل بملابس عربية موشومة بأرقام وخوارزميات على مساحة ملابسه كلّها.. يأخذ طريقه إلى الجانب الآخر ليقف مثل تمثال إلى جانب المكتبة اليسرى.
يدخل رجلان بالزي الآشوري الحربي.. يقفان على جانبي تمثال الملك بانيبال ولا يتحركان.. تدخل على هدي الموسيقى مجموعة من راقصات آشور وهن يرفلن بأجمل الثياب وأرقاها.. يرقصن، وينثرن الزهور على تمثال بانيبال، وعباس ابن فرناس، والخوارزمي حتى تمتلئ الأرض زهوراً.. تشرق في الوقت نفسه فوق الخلفية شمس بلاد ما بين النهرين مشعة بأجمل الأضواء الملونة.. تزداد أشعتها ألقاً حتى تغمر المكان كلّه محولة إياه إلى بقعة من نور.. نور فياض حسب.
المِصمَت الثاني
نسمع أصوات جلبة وضوضاء آخذة بالازدياد شيئاً فشيئاً.. تتحوّل الجلبة إلى عزف على الطبول متبوعة بصرخات غزو همجي.. تقترب الصرخات فتهرب الراقصات بارتباك إلى جميع الجهات وقد ملأ الخوف نفوسهن الرقيقة والشفيفة.. تتحرك على الخلفية بعض الغيوم السود.. تغطي بحركتها شمس بلاد ما بين النهرين.. تقترب الأصوات أكثر وأكثر حتى يخيّل لنا أنها تحيط المكان من كلّ حدب وصوب.. تنقضّ على المكان مجموعتان من المحاربين الهمج.. يتصدى لهما المحاربان الآشوريان ببسالة فيقتلان المجموعتين.. تدخل مجموعة أخرى وأخرى فيحدث قتال ضار يجرح فيه المحاربان لكنهما يستمران على الوقوف بتحد كبير.. يحيط بهما الهمج من كلّ جانب.. يتقدمون نحوهما فيقاتلان بعناد شرس.. يثخنان بالجروح فيتمكّن الهمج منهما.. يطعنون الاثنين بوحشية فريدة.. يمثلون بجسديهما، يرفعون بعض أشلائهما على رؤوس السيوف ثم يقذفونها في الهواء مبتهجين.
تنطلق أصوات الأبواق معلنة عن دخول القائد الهمجي.. يتنحّون قليلاً ليدخل الموكب برهبة هائلة.. يقف القائد أمام تمثال الملك بانيبال.. فينحني المحاربون جميعاً حتى يأذن لهم.. يعطيهم الإشارة بالتنحّي عن المكان فيفعلون وهم مستمرون في انحنائهم، وبإشارة منه تدخل راقصات آشور.. يجبرن على الرقص وهن يرتجفن خوفا وهلعاً.. يتحرك الخوارزمي معترضاً وفي اللحظة نفسها تتوقف حركة الراقصات، ويطعن أحدهم الخوارزمي طعنة قاتلة.. يقف قائدهم.. يشير لهم كي تستقيم أجسامهم، وبإشارة منه ينقضون على الراقصات فينهشوهن نهشاً واغتصاباً ليتركوهن جثثاً دامية وسط قهقهة قائدهم الماجنة.. يتوقف عن القهقهة فيتوقف رجاله وهم ينتظرون منه أمراً.. يهمّ بمغادرة المكان ولكنه يتوقف قليلاً.. يستدير نحوهم ثم يشير إلى مكتبة دار الحكمة ويخرج.. تتوقف الحركة، بعد خروجه، لحظات يسود خلالها الصمت المطبق، وعلى نحو مفاجئ تنطلق صرخاتهم الهمجية وهم ينقضّون على دار الحكمة.. يقلبونها.. يجعلون منها دكة للقتل (مقصلة).. يتبارون بقطع الكتب إلى نصفين بضربة واحدة.. أحدهم يضع كتابين معاً فيقطعهما آخر بضربة واحدة.. أحدهم يبكي من أجل موت الكتابين ساخراً فيقهقه الآخرون.. يضعون أربعة كتب بعضها فوق بعض فيقطعها آخر بضربة واحدة.. يستمر التباري وسط صرخات الحماس، والسخرية، والقهقهة العالية.. يثابرون على تنفيذ الإعدام حتى آخر مجموعة من الكتب، وإذ ينتهون منها يحمل بعضهم أنصاف الكتب ليقف على حافة النهر، الممتد مع امتداد المكان، ويقذف بها بعبث وجنون إلى النهر.. ومع طرطشة كلّ كتاب ينفجرون ضحكاً، وسخرية، وسفالة.. ينظرون إلى جمهور النظّارة باستفزاز واحتقار وهم يقهقهون ساخرين، ومغادرين بهرج، ومرج، وعبث همجي.. تتركز الأضواء على حجم الدمار الذي خلّفوه وراءهم مع تصاعد موسيقى الناي التي تثير جواً من الحزن والاكتئاب في فضاء المكان الذي بدأ النور فيه يخبو شيئاً فشيئا.
المِصمَت الثالث
دائرة من الضوء تسلّط على المئذنة الحدباء.. تشرق شمس الرافدين على مجموعة من التماثيل الحجرية المرتبة بعناية كبيرة بين ثورين مجنحين.. مجاميع من الناس تدخل إلى المكان للتمتّع بمشاهدة التماثيل، والتعرف على الحضارة التي انتجتها.. بعضهم يلتقط صوراً لها، وبعضهم الآخر يدوّن، على أوراقه، معلومات عنها.. أحدهم يجلس قبالة تمثال وهو يرسم بقلم الرصاص نصف التمثال الأعلى.. آخر يصور بكامرته السينمائية لقطة بانورامية للمكان كلّه.. تتوقف اللقطة قليلاً عند كلّ تمثال تمر به.. تظهر اللقطات على الخلفية البيضاء:
لقطة (ترافلينج) تصور شمس الرافدين حتى يمتلئ الكادر بها متحولاً إلى اللون الأبيض الخالص.
لقطة عامة تظهر فيها مدينة آشور التاريخية وقد شنّ الغزاة عليها هجوماً كاسحاً.. يسيح الدم الآشوري في كلّ مكان وتتلطخ به جدران المدينة.
لقطة بعيدة شاملة لما يحدث تتحول إلى لقطة (ترافيلنج) نحو بقع الدم الكبيرة على أحد الجدران حتى يمتلئ الكادر بها محولاً لون الشاشة إلى لون الدم.
تعود الأضواء إلى المكان ثانية.. لا يزال الزوار يتوافدون للمشاهدة أو الاستزادة من المعلومات عن تاريخ مدينة آشور.. ثلاث طرقات على المايك تجتذب انتباه الحضور.. ينقسمون على قسمين: يتّخذ الأول الجانب الأيسر مكاناً لجلوسه، ويتّخذ الثاني الجانب الأيمن مكاناً لجلوسه.. تصدح الموسيقى بنغم هادئ.. يخترق المكان من أبعد نقطة فيه (أعلى وسط المسرح) إلى حافته الأمامية ممر متحرك ، مع الموسيقى، تستعرض عليه فتيات وفتيان آشور أزياءهم التاريخية.. يبرز من نهاية الممر رأس جرذ أسود كبير جداً.. ينظر ذات اليمين وذات الشمال وهو يتشمم بارتباك مدخول ببعض الخوف رائحة ما.. يتحرك مقترباً من تمثال بانيبال.. يشمّ قاعدته عدّة مرات ليتأكّد من هويته.. تتركّز عليه دائرة من الضوء تعزله عن بقية أجزاء المكان وهو يقرض باشتهاء قاعدة تمثال بانيبال.. يطفأ الضوء ويسود الظلام التام بينما يستمر صوت القرض مع استمرار العتمة.
المِصمَت الرابع
نشاهد على الشاشة الخلفية المئذنة الحدباء شاهقة في منتصف المكان.. تتقدم نحوها نقاط سود بسرعة هائلة.. تنقضّ النقاط السود بهيئة جرذان ضخمة جداً على المئذنة الحدباء.. تتكوّم عليها.. تتحرك بشهوة عجيبة للقرض.. تتزاحم.. تتدافع.. ينحّي بعضها بعضه الآخر ليستأثر بقدر أكبر من القرض الشبقي، والاشتهاء السادي.. تتحول المئذنة إلى كتلة سوداء.. يتعالى صوت القرض حتى يصمّ الآذان.. تتوقف الحركة على الشاشة البيضاء بينما يستمر صوت القرض في ازدياد هائل حتى تمتزج معه أصوات صرخات شبقية، وتنهدات، وأنين، وصرخات اغتصاب واستغاثة.. تشتدّ الأصوات المتداخل بعضها ببعض شيئاً فشيئاً مغطية على صوت القرض.. يدخل عدد من المسلحين وهم في حالة مزرية من الذعر بملابس ممرغة بالتراب، ووجوه لا تخلوا من آثار الكدمات.. يتخبطون خبط عشواء.. يفرّون باتجاهات مختلفة.. يصطدم بعضهم بعضه الآخر.. يسقط بعضهم على الأرض.. ينهض بسرعة وارتباك شديدين.. يندفع بلا هدي إلى مختلف الجهات.. يظلّ، المكان جامداً بضع لحظات قبل أن يبرز من وراء الكواليس رأس جرذ كبير.. يتقدم نحو منتصف المكان.. يتشمم هنا وهناك.. يتوقف عن الحركة.. ينهض واقفاً فتتحوّل هيئته من جرذ إلى رجل يرتدي الملابس السود.. يبدو مخيفاً وهو يشهر سيفه بيد، ويمسك لحيته الشعثاء بيد أخرى.. يرفع سيفه إلى الأعلى ويدور حول نفسه دورة كاملة وكأنه يؤدي رقصة طقوسية في نهايتها يتخذ وضع الانقضاض ثم يغرز السيف في الأرض بحركة تدل على العنف، والقوة، والشراسة.. يشير بيديه للجهة التي جاء منها فتدخل مجموعة الجرذان السود وهي تصرخ صرخات مخيفة.. تتحوّل كما تحوّل أولهم إلى رجال بملابس سود، ولحى شعثاء، وشعر طويل، وعيون ذئبية، ووجوه شيطانية مكفهرّة.. يؤدّون مع الأول رقصة فيها الكثير من الشهوانية، والفحولة، والاغْتِلام.. يسمعون صوت رصاص قادم نحوهم فيتوقفون عن المرح.. ينظرون صوب القادم الجديد.. يدخل مع ثلّة من حمايته بملابسه السود، وساعة يمينه الثمينة.. يعدّون له منبراً من أجسادهم.. يتسلّق أجسادهم نحو المنبر.. يقف.. يشير لهم فينقسمون على قسمين.. تدخل امرأة ربطت يديها خلف ظهرها وهي تجرّ جرّاً من قبل اثنين من أتباعه.. يجبرانها على الركوع، وينسحبان.. يشير لأحدهم فيقف خلف المرأة الراكعة.. يسحب من منتصفه سلاحه الشخصي.. يسحب القادم ورقة يلوّح بها ثم يتركها لتسقط على الأرض، وحال ملامستها الأرض يطلق المسلح عياراً نارياً نحو رأس المرأة الراكعة فتسقط ميتة.. يتقدم منها الرجلان نفسهما.. يسحبانها إلى الخارج.. يدخلان ومعهما امرأة أخرى.. يطرحانها أرضا.. يغطيانها بعباءة سوداء.. يمسكها الأول من قدميها بينما يمسكها الثاني من يديها.. يسحب القادم ورقة.. يلوّح بها ويتركها لتسقط من يده وحال مسّها الأرض يأتي أحدهم ليجلد المرأة عدد من الجلدات القاسية وإذ ينتهي منها يسحبانها إلى الخارج.. يدخلان ومعهما مجموعة من نساء آشور مقيدات بالحبال.. تترك المجموعة الأولى محلها وتنضم إلى المجموعة الثانية كي تخلي المكان لمجموعة النساء.. يشير القادم إلى أجملهن وأكثرهن شبابا ونظارة مع ضربة صنج مفزعة.. يتقدم واحد من أفراد حمايته ليسحبها بقوة إلى جوار القادم.. يكرر القادم إشارته لأخرى لا تقل جمالا عن الأولى وربما فاقتها أنوثة وبراءة.. تسحب عنوة لتقف إلى جانب القادم أيضاً، وبأمره أيضا يأخذ كلّ فرد من أفراد حمايته امرأة.. يسقط ورقة، على اثرها، ينقض كلّ واحد منهم على المرأة التي صارت ملكه الشخصي.. يقبّلها ما شاء له التقبيل.. يعضها بوحشية.. يلحس وجهها بقرف.. يضربها يركلها.. يطرحها أرضاً ليرمي جسمه عليها بشبق وجنون (هذه الحركات كلها تصمم على شكل رقصة تعبيرية).. يضحك القادم مبتهجاً بهستيريا.. يتوقّف عن الضحك.. ينتبه أفراد حمايته لما يريد.. يطلق إطلاقة من مسدسه فيتوقف الجميع عن الحركة، ويسود الصمت.. يرفع كلتا يديه للدعاء.. يتمتم كلمات غير مفهومة.. يهمّ بمغادرة المكان.. يتوقف في منتصف المسافة.. يستدير.. يشير إلى مجموعة التماثيل ويخرج.. يطبق الصمت على المكان لحظات بعد خروجه.. وبصرخة موحّدة يهجمون على التماثيل بالمطارق الثقيلة.. يكسرون أرجلها.. يدفعونها لتسقط أرضاً بشكل جماعي.. ينتهون من التماثيل.. ينظرون في آن واحد إلى شمس الرافدين.. يصنعون من أجسادهم سلّماً.. يرتقي أحدهم السلّم وهو يحمل مطرقته الثقيلة ليسقط شمس الرافدين، ومع أول ضربة له يتهدم السلم البشري ويهوى إلى الأرض بينما تظلّ شمس الرافدين مشعة في سماء آشور.. تتقدم الشمس إلى الأمام في لقطة سينمائية (ترافلنج) حتى تغطي مساحة الشاشة، وحتى يمتلئ الكادر بالنور.. بالنور الباهر فقط.
أديلايد آذار 2015
—