ابراهيم عثمان :
عندما أيقن أن السماء لن تفتح أبوابها في وجهه.. قرر أن يرحل بعيدا، حاملا معه سعفة نخيل ومجموعة من كتب الفلسفة والتصوف وعلم الكلام والعقيدة.. الى جانب مجموعة من الاشرطة والسيمفونيات وأغاني الحب والآهات.
كانت نيته أن يتفرغ لدراسة الصحراء وعلاقتها بالنبوة تاريخا وحضارة، لعلها تساعده على اجتياز شعابها وفجاجها وفهم أسرارها الصوفية.
تراءى له شيخ من بعيد .. عندما بدأ يتوغل في فجاجها وشعابها..أخذ يحث الخطى.. اقترب منه قليلا..حاول أن يلفت انتباهه ، لكنه تجاهله.
كان أول درس تعلمه من هذه الرحلة هي هذه الصفعة التي تلقاها من هذا الشيخ المسن الذي كان يقف عاري الجسم فوق صخرة ملتهبة وسط الصحراء ، وينادي :
– الي بالمنون فأنا المفتون بالعشق والجنون ولوعة السجون.
– من تكون حتى تزعم بأنك مفتون ؟!.
قال وهو يهز جذع نخلة مثقلة بالثمار:
– لقد جئت الى هنا طمعا في النبوة ، لان جميع الانبياء بعثوا من الصحراء.. وأنت ؟
– تركت المدينة لاني أحسست بالغربة بعد أن طلبت النبوة في الاسمنت فلم أنلها.
– اذا واصل رحلتك فأنت لا تدخل في دائرة اختصاصي.
– وأين أجد من أدخل في دائرة اختصاصه؟!.
– أنت تريد الدنيا وتتطلع الى الآخرة .. وهذا الامر من اختصاص الفقهاء.. أما اذا كنت تريد رب الدنيا ورب الآخرة فعليك بأنثى متصوفة!!.
قي الطريق اصطادته امرأة فارعة الطول آسرة الجمال وساقته أمامها حيث البحر وطلبت منه أن يغطس لتمتحنه.
قالت وهي تداعب خصلات شعرها الخروبي :
قبل أن ترحل بي أمواج البحر بعيدا.كنت تلك البنت التي تدللها أعين الرجال الملفعة بالشهوة والنفاق الغزلي.
بدأت أحلامي تكبر وتكبر حتى تجاوزت حدود قريتي الصغيرة. عندئذ بدأت أفكر في غزو مساحات أخرى من هذه الارض التي أعطتني من جمالها ونضارتها وثورتها الكثير الكثير.
كانت نيتي أن أصبح نجمة تأتيها رسائل الاعجاب من كل جهات المعمورة ، قبل أن يسرقني ذلك الجني ، ويركبني موجة عاتية.. جاب بي المحيطات والبحار.. غرسني نبتة صبار في شرايينه وعروقه.. دفعني بدمائه نحو مساحات جديدة .. ناشدني أن أفتن غروره بأنوثتي الراكضة في مساحات من الجمال والدلال .. قايضني بأن يعطيني من ماء البحار والمحيطات ما لا تسعه كنوز الارض والسماوات.
وعندما رفضت حرمني من رحمة الماء ولظى النار والنيران وبنى حول جسدي ألف جدار وجدار.
هكذا أنا أيها الرجل الذي تفوح من جسده رائحة الاسمنت والتلوث.. وهذا شرطي الوحيد لكي أكون دليلك في رحلتك هذه:
أريدك أن تضرم النار في جسدي دون أن تضر بي.
كيف لي أن أرتقي الى هذه المرتبة وأنا الفار من الضر وبرودة الاسمنت والاسفلت ؟!.
هذا هو شرطي أيها القادم من مدن المسخ والاسمنت قبل أن أنتقل الى الشرط الثاني والثالث.
لقد قبلت بالشرط الاول..فما هو شرطك الثاني ؟.
أن تعيد لي احساسي ببشريتي.. وأن تجعلني أنجب مرة في كل شهر بدلا من الانتظار تسعا كاملة.
ربما ستندهش لشروطي التعجيزية .. أو ربما ستقول هذه أنثى مغرورة أو مجنونة.. هكذا هم الرجال دائما.. وأنا لا ألومكم بقدر ما أحس بالعظمة والخيلاء.. لكن وهذا أيضا أعتبره شرطا خارج الشرط ..خاصة عندما أتذكر ذلك المشهد الذي عشته وأنا عروسا.
كنت شابة في العشرين عندما تقدم شاب لخطبتي . كان ينتمي الى أسرة فقيرة من الريف الجزائري، وبفضل تفوقه الدراسي ، تمكن من الحصول على منحة للدراسة في أوربا.
كنت أراسله ويراسلني باستمرار . وكنا نتقابل في الاجازات والعطل.أناقشه ويناقشني.. كان يحدثني عن كامي وعن الاطروحة التي يعدها عن هذا الاديب الفيلسوف الذي ولد في احدى مزارع المعمرين الواقعة في تراب بلديتنا.. وعن نصيحة مشرفه بالابتعاد عن الحفر في مواقف كامي من الثورة الجزائرية .. مواقفه التي أدانتها الانتلجنسيا الفرنسية قبل المثقفين الجزائريين ، مما جعله ينكفئ على نفسه ويصمت نهائيا الى أن وافته المنية في ذلك الحادث المشئوم .
قال.. “حاولت أن أناضل من أجل اقناع مشرفي بقبول الاطروحة كما هي ، لكنه رفض وكانت حجته أن المجلس العلمي قام بشطب الاطروحة نهائيا ، لانها تمس بعبقرية اللغة الفرنسية وآدابها ومفكريها ، وبكرامة فرنسا الحرة التي غيرت ثورتها وجه العالم بغرس مجموعة من القيم الفكرية والسياسية والجمالية، لذلك عليك أن تختار بين ما نختاره نحن أو العودة الى وطنك بخفي حنين “.
كانت ضربة قاسية أفسدت صورة المشهد الذي تفنن في رسمه بالكلمات.. الشيئ الذي دفعه أن يكتب لي في احدى رسائله: “لقد حاولت جاهدا أن أقيم مشروعا فكريا يجمع بين النظرة الابداعية من ناحية ، وبين المنهجية الاكاديمية من ناحية أخرى ، لكن الثورة التي دفعني الى التمرد على ثورتهم التي انتهت الى ثورة استعمارية فاشلة انسانيا وأخلاقيا ، جعلتني أفشل بدوري في مقاومة مشروعهم الاستعماري الفاشل، واستسلم لاغراءاتهم.. لقد عرضوا علي كرسي التاريخ الذي شوهته أقلام مؤرخينا الاعزاء دون أن يفكروا في الاجيال التي سوف تأتي بعدهم.
وربما هذا ما جعلني أفضل الانتحار الفكري على الانتحار السياسي..لذلك قررت أن أسقطك من حياتي ، وأن أتجنس نكاية في تلك القيم التي لم تستطع أن تبدع وطنا يتسع للجميع”.
“أعرف أن هذا سيؤلمك كثيرا ، خاصة عندما تعلمين بزواجي من تلك الفرنسية التي أحضرتها معي في احدى العطل الصيفة، لتزور مزارع أجدادها، وتستمتع بجمال طبيعة المنطقة.. كانت تقول لي ان الارض التي ألهمت أندري جيد قوت أرضه ، وكامي أعراسه لهي أرض جديرة بالحب والاحترام، كما أنت جديرة بخيانتي التي لا أجد لها مبررا ، سوى شعوري بالقهر .. هذا القهر الذي حولته أنظمتنا الديكتاتورية الى تاريخ تتباهى به، وتذل مواطنيها باسمه. لقد حولونا الى أمة تعشق الرداءة وتنتجها بامتياز.
” لذلك فاني لست نادما على خيانتي لحبنا الكبير.. هذا الحب الذي باركه وادي سيبوس العظيم ، وتلك الجبال التي تعرف بجبال بني صالح وايدوغ وهوارة.. وتلك السهول والحقول والبساتين التي لونت حبنا بألوان غاباتها ومياهها ونباتاتها.
لقد كنت دائما أرى في وجهك الباسم الضاحك صورة ايدوغ المكلل بالثلوج وأشجار الصنوبر والبلوط.. وفي اصرارك على مقاومة الخيانة والنفاق وقوف هوارة الى جانب الثوار في مقاومتهم للاستعمار.. لقد كنت دائما نموذجا للانثى التي يتجلى جمالها من خلال جمال تلك الاماكن التي تنضح حبا ورقة وتصوفا واغراء لا يقاوم”.
” آه أيتها الريفية المسافرة في دمي.. ها هي أوجاعي التي سكنتني منذ أن كنت طفلا يتردد على مجالس الذكر وحلقات الدرس التي كان يعتمدها شيوخ ذلك الزمان لمقاومة الاغتراب والارهاب. وها أنت بقامتك الفارعة وأوجاعك المتلاحقة تعيدين لي أمل النبوءة من جديد.
—