الجمال مفهوم واضح المعالم خفيُّ الاصطلاح ، يرسخ في النفس و يكوّن شعوراً داخلياً و إحساساً يثير ردة فعل قوية من البهجة و الدهشة و الاضطراب و الارتباك ، و هو مسألة بحث فيها الأقدمون كأفلاطون الذي يجده قيمة ذاتية في النفس ، أو الانسجام الحاصل من خلال وحدة تجمع في داخلها التنوع و الاختلاف في كل منسجم كما يعتقده أرسطو ، و نرى في المشرق أصداء ليست بالبعيدة في المسألة ذاتها ، فالتوحيدي تعرض لها و حدد بداياتها المتضمنة في الاستيحاء من الطبيعة و محاولة التفكير بركائز أخرى تتكئ عليها ، و أي كانت الرؤية فإنه يُؤرَّخ بوجود الإنسانية على ظهر هذا الكوكب ، فقد رُدّت عطية قابيل في رداءة قربانه ليحس بحرب على المقاييس الجمالية لتطوّع له نفسه قتل أخيه .
يعتمد المقياس الجمالي على رؤية المختصين لذلك النمط المستهدف من إطلاق الأحكام ، و ما يرتبط بعوامل الزمان و المكان المحدديْن بناء على ظروف خاصة به ، و هو بذلك ليس سمة في الصنعة و المنظر المادي فحسب ، بل يحدد وفق الشروط الخاصة بالمقياس الجمالي ، مثل مسابقات الجمال ، و العديد من الأقوال و الصور و المشاهد التي يتحكم الإنسان فيها و يديرها ، كالشعر و الرواية ، و أهداف كرة القدم ، و المنشآت الحضارية المقترنة بالطبيعة ، و لذلك تنوع الجمال إلى قسمين رئيسين هما : المادي و المعنوي ، و تفرع عنهما عشرات الأنواع مشكّلة مقاييس جمالية قد تشترك فيما بينها ، فالإنسان قد خلق في أبهى صورة من بين الكائنات الحية ، و لا يستطيع أحد أن يقارن جماله بأحدها ، ثم إننا لا نشك في جمال الأطفال فينا ، فهم يستلهمون قلوبنا و عقولنا في الجمال بنوعيه ، فلا تكاد ترى طفلاً قبيحاً ، و حتى سكان الجزء الجنوبي من قارة إفريقيا كدولة جنوب إفريقيا التي عانت من سياسات التمييز العنصري فيصنفون على سلم التقدير الجمالي دون أدنى ريب ، لأنهم يشكلون نمطاً في التاريخ الإنساني لا يجوز إنكاره ، و لا ينبغي أن يُحاصر الجمال بمقاييس النزعة الفردية القائمة على الأيديولوجيات ، و إنما يرتسم على أبعاد إنسانية عالمية مشتركة و هذا الذي أدى إلى تفوق لوحة ” الموناليزا ” على غيرها ، و الفلاسفة مهما اختلفوا في تحديد مفهومه و مقوماته إلا أنهم سخروا جهودهم لخدمته و ترقيته من بعده الفردي إلى تكوين رؤى فكرية تقوم على دراسة النماذج الجمالية لإرسائه في معالم الفلسفة ، و تكوينه في النفس من منطلق فلسفي فيصبح قادراً على التغيير في أدواته دون تغيير أهميته و مثالياته في الحياة .
تكمن حقيقة المقياس الجمالي في بُعدنا عن حرم الأيديولوجيات الفكرية ، و اعتبار قطاعات الأحداث السياسية و العسكرية و الاجتماعية و الاقتصادية من مُلابسات عصرنا التي تزيد الصراعات تفاقماً مبيناً ، و يقوم على نقد القديم من نواحٍ عدة ، و رفض التطرف المبني على العولمة و طمس معالم الآخر ، و هذا العالم الذي عانى من حبل الدماء و هو يُجرّ من عاصمة لأخرى بات في حضارته يتجاوز قضية موت الإنسان ، لتقوم فكرة موت المؤلف عند الفرنسي رولان بارث معبرة عن منظور جديد من البنيوية القائمة على عزل النص عن ظروف إنتاجه ، و ينظر إلى الأدب بوصفه كياناً لغوياً و منظومة تركيبية وفق معايير محددة ، ثم وصل الجمال عند الألماني فريدريش نيتشه إلى موت الآلهة في إشارة إلى تحرر الأدب من أية قيمة يحتويها الكلام و ألا ينظر فيه إلى معايير خلقية أو دينية أو قيم نفعية ، لأن مهمة الأدب هو نحت الجمال و رسم الصور و الأخيلة الباهرة بعثاً للمتعة و البهجة في النفوس ، و ليس خدمة للأخلاق أو الدين أو مجتمع ما ، بل هدف مقصود بحد ذاته ، فنحن أمام موت حقيقي إما الجمال أو الفناء ، فالعالم الذي تبنى فكرة الجمال لحداثة النصوص قد رفع من مستوى الجمال في الأدب ، بينا نحن في العالم العربي لا زلنا نحتفي بحدود موت الإنسان سواء في الأحداث السياسية و ما يرافقها ، أو الحروب المدمرة التي نشنها على أصناف من الإبداع كقصيدة النثر و ما يرافقها من إحداثيات تولد الشعر من النثر ، كما نحاول أن نخفي بكل كبرياء تلك الحدة اللاذعة التي تملكها القصة القصيرة جداً في تملّقها ، و حيازتها لفنون قتالية في التعبير عن الجمال ، واصفين صاحبها بمكنونات الفشل عند كتابة رواية أو قصة قصيرة ، كما يقودنا الحديث عن الجمال في ذكر أعدائه الذين صادروا دواوين محمود درويش صاحب التجربة الشعرية النوعية في معرض الرياض للكتاب في العام الماضي 2014 م متذرعين باحتوائها على عبارات كفر و إلحاد ، و كيف اعتذر الدين للجمال في نهاية المطاف ، فحريٌّ بهذه المجتمعات أن تنبذ الثقافة بأكملها ، فتنتهي عن صناعة المعارض الثقافية تبعاً لهوىً نفسي الذي سيقودها حتماً إلى الإنعزالية و التقوقع حول الذات ، بل و يزيد طينتها بلة ذاك الرضوخ إلى الصهيونية العالمية العدو الأكبر للجمال – في محاولتها الجاهدة لطمس معالم المدينة المقدسة – فقد بيع كتابها المترجم للعربية ” السعودية و المشهد الاستراتيجي الجديد ” لمؤلفه الإسرائيلي جاوشاوا تيتلبام و الصادر عن دار مدارك في ازدواجية المعايير المخصصة للنهي عن المنكر الذي لا يشمل التطبيع ، و هذا الحال من محاربة الجمال كما حصل لكتب درويش قد تكرر مع كثير من المبدعين الذين عرضت نصوصهم على نقاد حاذقين لتتم تبرئتهم من التهم المنسوبة إليهم في جلسة المحاكمة الأخيرة بعد سنوات من المثول أمام محكمة قد تحد من إبداعه ، فينبغي عليك كمبدع أن تفسر لهم تلك الكنايات و الاستعارات التي تتسلح بها ، و أن تطلب إذناً في تعلم ضروب البلاغة و البيان و البديع كي لا تأخذك براثن الشرك و الإلحاد ، أو عليك أن تتصنع اللغة القريبة من عقولهم و أن تخاطبهم بلسانهم الذي يروقهم ، أو أن تصنع كتاباتك بلكنة الوحي الذي ينزل عليهم .
سيبقى الجمال وفق مقياسه الذي وضع له أداة لصناعة الأجيال ، فلا تتزوج المرأة رجلاً يفوقها في الجمال خوفاً من انتقاد الصديقات ، و لا يقترن الرجل بامرأة جميلة تخفي في جمالها خلاف ما تظهر فيصعب التوافق في الحياة ، و لكي يحافظ الجمال المادي على رونقه لا بد أن يزينه جمالاً معنوياً يتوافق مع الفطرة الإنسانية ، و يجعلنا نراه من زوايا متعددة فتقل النسبية مهما تعددت الأفكار و المعتقدات ، فتتحقق سعادة الإنسان عن طريق طائر الجمال بجناحيه الشكل و المضمون ، و لا يمكن لطائر أن يرتفع بأحدهما ، و لذلك قيل : كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً .
———-
*كاتب فلسطيني .
—