قصيدة متعددة الاصوات ( بوليفونية تعبيرية )*
د أنور غني الموسوي :
ظلّ انا و مرآة شاحبة ، أنثر ألمه المرّ في كلمات غريبة ، ذلك النحيل الذي تدمي الصخور ركبتيه ، لقد اعتاد السير عليهما نحو البركة الجريحة . في الطريق تلقاه الأعمدة الحجرية القديمة ، تحدّثه عن الذين مرّوا من هناك ، و ايضا عن الارواح التي ملأت أعماق البركة بالنداء و الأغنيات الشجيّة ، و عن صندوقها الخشبي ، الذي تخرجه كل مساء و بحبرها الاحمر تدوّن جراحها ، ما فعلته أيدي أبنائها الغالين .
لقد كان ذلك النحيل كثير الابتسام ، لا يهتّم كثيرا للنزيف اليومي من قلبه و ركبيه ، لا يريد أن يتوسّل عطف العالم الواسع و لا كلماته الحماسية . ليتك تراه و انت تطلّ من تلك التلّة على كذب العيون الباردة ، تقول في نفسك : يا لشعره الأشعث ، يا لثيابه الرثة ، ايها القارئ يا أنا ، متى ترى جراح ركبتيه و قلبه اليائس ؟
· البوليفونية (polyphonic ) مصطلح ابتكره باختين في الادب ، اساسا لمعالجة العمل الروائي استقاه من فن الموسيقى ، و اساسها تعدد الاصوات المتجلية في النص . عند التعمّق نجد ان للبوليفونية بعدين في النص ، بعد رؤيوي و بعد اسلوبي ، البعد الرؤيوي يدعو الى تحرير النص من رؤية المؤلف و سلطته فتتعدد الرؤى و الافكار و الايدولوجيات و تطرح بشكل حر و حيادي ، اما البعد الاسلوبي فيتمثل بتعدد اساليب التعبير و الشخوص بل حتى الاجناس الادبية في النص الواحد .
من الواضح ان الفهم البوليفوني للنص يماشي عصر العولمة و ما بعد الحداثة و الدعوة الى الحريات الواسعة و الديمقراطيات الشعبية ، فيكون النص انعكاسا لهذا الجو و الفكر السائد . و قد يعتقد ان الاسلوب البوليفوني يتعارض مع التعبيرية التي تعكس الفهم العميق للمؤلف للاشياء و رؤيته المتميزة تجاه العالم ، وهذا لا يتناسب مع الحيادية الرؤيوية و تعددها ، الا انه يمكن فهم الكتابة على مستويين مستوى بنائي و مستوى قصدي ، فتكون البوليفونية و تعدد الاصوات و الرؤى في مستوى البناء ، بينما تكون رؤية المؤلف الخفية التعبيرية في مستوى القصد تتجسد بشكل عالم ايحائي و رمزي لكلمات النص و بناءاته و رؤاه و اصواته المتعددة .
هذا و من الظاهر ان البوليفونية تحتاج الى حد ما الى السرد ، وهذا يعني انه في الشعر يكون من خصائص السردية التعبيرية لقصيدة ما بعد الحداثة ، و لا تناسب كثيرا الشعر التصويري للقصيدة الحرة .كما ان تعدد الاصوات و الرؤى كما انه يمكن ان يتحقق بتعدد الشخوص و تعابريهم ، فانه يمكن ان يتحقق باسلوب تداخل الاصوات ، بان تطرح رؤية الغير على لسان المتكلم او ان يعطى نعت يناسب رؤية الاخر و ليس المتكلم . فمثلا في قصيد الموت و الحياة الطويلة للدكتور انور غني الموسوي مقطع جاء فيه
( ليس لي ألا أن أحتضر . و ليس للحضارة الغالية ألا أن تسأم كل قطرة صفراء في المحيط . للشمس إشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف شيئا عن الخلود . هكذا تكذب الحضارة ، تتكاثر في أوردة غادرتها الاجراس ،تتمدد شارعا قديما ، أثلجه قلّة السائرين .)
بينما يكثر انور غني في تلك القصيدة من وصف الحضارة بالميتة و الغاربة نجده يصفها هنا بالغالية ( و ليس للحضارة الغالية ألا أن تسأم كل قطرة صفراء في المحيط .)
و لا ريب ان الحضارة ليست غالية عنده و انما غالية عند الاخر ، و بهذا تجلى صوت الاخر و رؤيته بكلام المتكلم و تعبيره وها تداخل صوتي تم بشخصية واحدة .
ثم يقول
( للشمس إشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف شيئا عن الخلود .)في النظر النوعي الذي تتبناه كل ذات يحب الاشراق و النور ، و انما هذه نظرة من لا يرغب بالنور و الحرية اي انه صوت الاخر الا انه جاء بلسان المؤلف ، و الذي يصرح بعد ذلك ان هذا القول هو قول الحضارة الكاذبة و مريديها ( هكذا تكذب الحضارة )
وهنا في نص ( البركة الجريحة ) ايضا يستخدم التداخل الصوتي في عبارة (ما فعلته أيدي أبنائها الغالين . ) اذ لا ريب ان النظرة النوعية و منها نظرة المؤلف الى هؤلاء الابناء الذين يجرحون امهم انهم قساة و خطاؤون ، لكنه عبّر بصفة ( الغالين ) وهذا يعكس نظرة البركة الأم التي تحنّ على أولادها رغم قسوتهم و خطأهم . و كذلك في عبارة (ايها القارئ يا أنا ، متى ترى جراح ركبتيه و قلبه اليائس ؟ ) فان الذات لا ترى نفسها هكذا و انما هذا صوت الاخر النوعي الذي يلوم ( انا ) المتكلم و القارئ ، فيكون تجلّ لرؤية الاخر بلسان المتكلم وهذا تعدد صوتي طرح بشخصية واحدة فيكون تداخلا صوتيا .
—