تنفتح دلالة النص بعمق كبير نحو مولدات الشعرية التي ارتبطت إلى حد كبير بمستوى يوضح العنوان بوصفه عتبة نصية على دلالات ثانوية تحيل على شكل إبداعي آخر يتمثل بالعديد من المرتكزات الشعرية المتداخلة مع الأنماط الأخرى، ومنها الجانب الكنائي الذي شكل المرتكز الأوسع ضمن الدلالة الثانوية، وهو مرتكز مهم وطويل إذ ظهر مرافقا للقراءة النخبوية على طول تلك الحالة الدرامية الشعرية وحتى الذروة. لقد تأطر النص بدلالاته على فكرة تداخل الأجناس الأدبية مما شكل منحدرا آخر نحو الغموض المُنتِج، وقد اغترف هذا الغموض شخصيته النرجسية على مستوى من الحضور الأنثوي إذ تجلى هذا الحضور واضحا من العنوان وهو(السمكة) في الدلالة الأولى وعلاقتها الروحية بالرجل المتمثل (بالصياد) في العنوان أيضاً.
لقد مثلت المرأة عنصرا مكملا للرجل منذ قديم الأزمان، ففي العراق القديم رسمت لنا ملحمة كلكامش صورة نمطية تطورت إلى المثالية بين الرجل والمرأة في النهاية، وقد ظل العقل البشري يعترف بالمرأة لأكمال الصفات الإنسانية في الرجل، وفي النظرة العامية لدى المسلمين فإن الارتباط الأسري يمثل نصف الدين، هذه الفكرة وإن كانت خاطئة من الجانب العقائدي(الآيديولوجي) إلا إنها وليدة إرهاصات الشعور بحاجة الرجل الملحة للمرأة في تصحيح مسارات حياته اليومية، وهذه الحاجة إنما هي وليدة الشعور الغريزي لدى الرجل.
كان المقطع الأول من قصيدة الدكتورة أسماء غريب يحمل في طياته أدبيّة التكامل بين الجنسين؛ إذ مثل هذا المقطع وصفاً لتحوّل الحالة الإجناسية من خلال صورة بانورامية شاملة كانت مُقدمةً لوضع انطباع لافت للنظر لروح التعالق الإجناسي بين الرجل والمرأة لما هو بين الرواية أو القصة القصيرة من جهة وبين الفن الشعري بأشكاله الأخرى من جهة ثانية، أو هي حالة إبداعية تعكس توجهات الكاتبة في المعالجات النفسية لمشاكل الإنسان من خلال الجنس الآخر ومن ثم تقديمها للقارىء عبر تداخل الأجناس الأدبية والتي أبدعت الكاتبة فيها عبر العديد من مجموعاتها القصصيّة منها والشعرية.
لقد مثل البكاء رمزا كنائيا آخر على تلك الحاجة العمياء لعنصر التقابل الدلالي بين (السمكة والصياد) أي الرجل والمرأة والذي سيتحول في مكان آخر من النص إلى فضاء فكري شاسع تعمقه القراءة النخبوية وتستدل عليه بدلالة البحر الذي ظل يمثل العنصر الأكبر والأعمق شكلا ومعنى.
إن لعبة التورية والإيهام كانت حاضرة في ثنايا النص ولعلها تمثل مفاتيح للمقاطع الشعرية أو هي رموز تحيل من جانب أبعد إلى مفاتيح النص، وهنا تتمركز أدبيّة الإبداع الذي يستند إلى حد كبير على الغموض المُنتِج؛ لأن هذا التعبير الأدبي في الحقيقة ما هو إلا إنتاج يحيل إلى إبداع أدبي قد ينفرد بهذه التجربة الشعرية.
كان حضور المصطلحات الغرائبية عنصرا آخر من عناصر التكوين الإبداعي في نصوص الدكتورة أسماء غريب الشعرية؛ إذ نجد مصطلح(اليوم الثاني) في بداية المقطع الشعري الثالث ليحيل إلى وجود يوم أول، أو أن النص الشعري المرتبط بجنس أدبي آخر قد اعتمد نظام الأيام لكي ندرك أهمية عنصر الزمن من غير ما يذكر في أماكن أخرى وهذه خصيصة أخرى من خصائص النص الشعري لدى الدكتورة أسماء غريب، لقد تمحور هذا اليوم حول فكرة الطفولة التي ظلت ملاصقة للبطل بعدما رأى ما رأى ليخاطب البحر بعد أفول نجمه وضياعه في عالم الأضداد كما توقعها هو؛ لذا فقد ظل الرمز الشعري حاضرا لكنه يتوارى في شكل الاستعارة التي تلهم النص ذلك الوصف الآسر، فتشكل السيقان غابة ويرسم البحر وجهه وتطل الشمس بجمالها الأخاذ لينطق البحر في مشهد آخر ويصور رحلة الحياة وجني الأعمال التي تمثلت بصيد الصياد ونصائح البحر الذي تعرى أمامه من كل سلاح يدافع به عن نفسه لأنه نسي صنارته في بيت المرآة، ثم شرع الصبي بالبحث عن قدره على سعة المكان وكثرة الحيتان وبكاء الصبيان الذي لازمه طوال رحلته هذه.
ثم عاد الفجر ليسمع بكاء الصبي الصياد ويسدي له النصائح التي تمحورت حول حل واحد تمثل بطعم الصنارة الذي مثلته الطبيعة والحياة مقابلا للغناء والقصائد والأشعار..
الآن وبعد أن عرف الصياد الصبي الطريق إلى القلوب طفق يغرد ألحانا ذهبية تأسر السمكة بخيوط سحرية، ثم يعود عنصر الإحباط في المقطع الشعري العاشر ولكنها صورة مستمدة من الواقعية وما أشعارنا إلا من مخاض الحياة، ثم يعود ليجد ما يبحث عنه في مكان السؤال وأن ما يبحث عنه من ضرب الخيال (فالشعر هو ماء زلال).
*
—