في زمنٍ أدبيٍّ يميلُ غالبًا إلى التشظّي والغموض، تأتي تجربة الشاعرة المصرية إيمان الكاشف في مدونتها الشعرية الممتدة (1995-2020)، لتعيد الاعتبار لـ “متافيزيقا العاطفة” وللغنائية العذبة التي تنهل من التراث لتبني عليه لا لتقف عنده. نحنُ أمام تجربة لا تقدم الحبَّ بوصفه نزهةً عابرة، بل بوصفه “معراجًا” للروح، ومحاولةً مستميتةً للقبض على الزمن الهارب.
إنَّ قراءةً متأنيةً في نصوص الشاعرة، تضعنا أمام استراتيجية شعرية فريدة يمكن تسميتها بـ “عكس الأسطورة”، حيثُ لا تكتفي الشاعرة بدور “المُلهمة” الصامتة، بل تنتزعُ القلم لتكتب هي سِفرَ خلودِها، مشتبكةً بوعي حاد مع رموز الذاكرة الشعرية العربية.
مانيفيستو “ليلى الجديدة”.. قلبُ الطاولة على التراث
لعلَّ العتبة الأولى التي تستوقف القارئ هي تلك النزعة التمردية الناعمة على الموروث الكلاسيكي لقصص الحب العذري. ففي قصائد مفصلية مثل “لا تعشقني” و”رسالة من ليلى الجديدة”، تقوم الكاشف بتفكيك أيقونة “ليلى العامرية” – تلك المعشوقة السلبية التي خلّدها شعر قيس – لتعيد تركيبها بصورة فاعلة.
تقول الشاعرة في نبرة واثقة:
“لستُ كليلى / … / أنا روحٌ، قلبٌ، حبٌ / لستُ بصلصالٍ بين يديكم يتشكل”
هنا، تقلبُ الشاعرة الطاولة؛ فالمرأة هنا هي “الذات الشاعرة”، والفارسة، وهي التي تمتلك “الأكثرية” في الشعور (“إن كنت تحب / أنا أكثر”).
إنها تقدم “ليلى” التي ترفض أن تكون مجرد موضوع للغزل، بل ذاتاً مبدعة للنص وللحياة، وتملك الجرأة لتقول لمعشوقها: “أنا ليلى الجديدة، أنت قيسي / وما وردٌ سأقبله ويزهر”.
حوارٌ مع العمالقة: التناص كأداة كشف
لا ينفصل صوت الكاشف عن أصداء الماضي القريب، فهي تقيم حواراً نصياً ذكياً مع قامات الشعر العربي الحديث. ففي قصيدة “لا تعشقني”، تستدعي الشاعرة بوضوح قاموس نزار قباني في قصيدته الأيقونية “قارئة الفنجان”، وقاموس الأخطل الصغير في “جفنه علّم الغزل”.
لكن هذا الاستدعاء ليس للمحاكاة، بل للمشاكسة؛ فهي ترفض الرقص على “فنجان نزار” أو الاستسلام لغزل “الأخطل”، مؤكدة أن تجربتها وعاطفتها تتجاوزان النماذج المعدة سلفاً، لتخلق مسارها الخاص الممزوج بالكبرياء والندّية.
“الزيزفون” ونوستالجيا البدايات
وإمعاناً في تأصيل الرومانسية النقية، تعود بنا الشاعرة في قصيدة “كتابنا الأول” إلى أجواء الأدب الرومانسي المبكر، مستحضرةً رواية “تحت ظلال الزيزفون” (ماجدولين) للأديب الفرنسي ألفونس كار، التي عرّبها المنفلوطي.
هذا التناص ليس استعراضاً ثقافياً، بل هو توظيف دقيق للحنين إلى زمن “الحب العذري” الذي لم تلوثه المادة، لتؤسس عالمها الشعري على قاعدة من الطهر والمثالية المفقودة.
الحلول الصوفي: ما وراء “العين والأين”
يتجاوز الحب في نصوص الكاشف البُعد الحسي، ليدخل في منطقة “الحلول” الصوفي.
يتجلى هذا بوضوح حين يتلاشى “الآخر” ليصبح جزءًا من “الأنا”.
فالمحبوب ليس كياناً خارجياً يُزار، بل هو ساكن في الروح.
في قصيدة “لا عين ولا أين”، نلمس ذروة هذا الاتحاد الروحي:
“وكأنا روحٌ في جسدين / … / لا توجد عينٌ أو أين / وزمانٌ ومكانٌ في الكون”
هذا الاقتراب من المعجم الصوفي يمنح النصوص كثافة دلالية، حيث يصبح “الغياب” الجسدي هو المحفز الأقوى لـ “الحضور” الروحي الطاغي، مما يجعل الألم وسيلة للتطهر والارتقاء لا للانكسار.
قمرٌ وعصفور: المعادل الموضوعي للروح
توظف الشاعرة الطبيعة بذكاءٍ لافت لخدمة حالتها الشعورية، مستخدمة ما أسماه الناقد ت.س. إليوت بـ “المعادل الموضوعي” (Objective Correlative)، حيث يبرز “القمر” و”العصفور” كقطبين رئيسيين:
القمر: هو الرمز المركزي للمحبوب؛ المتعالي، النوراني، الذي تخاطبه الشاعرة في قصيدة “قلب القمر” بوصفه كائناً سماوياً (“قلتُ: يا منيتي / أنتَ قلبُ القمر”).
العصفور: هو الروح الشاعرة، التواقة للانعتاق، والمقيدة بأسوار الواقع. في قصيدة “يا عصفور”، يتجلى العصفور كرمز للهشاشة والقوة في آنٍ واحد، يطلب منه البقاء كشاهد أخير على الحياة (“يا عصفور / ابقَ مكانك / فوق السور”).
الرؤية النقدية النهائية :
إن تجربة إيمان الكاشف الشعرية ليست مجرد بوحٍ عاطفي، بل هي وثيقة إنسانية لامرأة اتخذت من الكلمة محراباً.
إنها تجربة تجمع بين جزالة اللغة العمودية وانسيابية التفعيلة الحديثة، لتقدم لنا “ليلى” المعاصرة؛ تلك التي لا تنتظر الخلود من أحد، بل تصنعه بدمعها وحبرها، مؤمنةً أن الشعر هو “الحبل السري” الوحيد الذي يبقي الروح على قيد الحياة.
هوامش وإضاءات:
النص المصدري: استندت هذه القراءة إلى نصوص مختارة للشاعرة تغطي المدة من 1995 إلى 2019، متفرقة في دواوينها: “نور من السماء” (2018)، “نصف روح ضائعة” (2021)، و”تأويل رؤياي” (2023).
الشاعرة في سطور:
إيمان الكاشف، شاعرة ومترجمة مصرية (مواليد 1979)، خريجة كلية الألسن، وعضوة اتحاد كتاب مصر. تُرجمت أعمالها ولها إسهامات نقدية وثقافية متعددة، وتُعد صوتًا يجمع بين الأصالة والمعاصرة.