Oplus_131072
1. الكاتب في سطور:
من تدريس اللغة الإنجليزية إلى بلاغة الريف
يُمثّل الأستاذ ناجح جاد الكريم عبد الرحيم، كبير معلمي اللغة الإنجليزية بإدارة ديروط التعليمية بمحافظة أسيوط، نموذجاً للأديب الذي يجمع بين التخصص الأكاديمي والالتزام تجاه البيئة الثقافية المحلية. تتجلى علاقته الوثيقة بالحركة الأدبية في ترأسه نادي أدب ديروط للفترة (2023 – 2025).
ويتركز مشروعه الأدبي على توثيق التحولات الاجتماعية والتاريخية في صعيد مصر، وهو ما يتضح في أعماله السابقة مثل رواية “سقوط الضرغام” (الحائزة على النشر الإقليمي عام 2000)، ومجموعتيه القصصيتين “المرود” (2023)
و”الطاحون والساقية” (2024).
وتُعد رواية “الوحمة البغيضة” 2025م
أحدث إسهاماته التي تُزاوج بين الواقعية والرمزية في تحليل تفكك السلطة التقليدية.
2. الإهداء:
مفتاح الدخول إلى جدلية النص
يُعتبر الإهداء في “الوحمة البغيضة” بمثابة عتبة نصية مضيئة تحدد المنظور الفكري للعمل، حيث يوجه الكاتب تحيته إلى “كل مواطن مصري ريفي صعيدي”.
هذا التخصيص الجغرافي والديموغرافي يُعلن التزام الكاتب بالبيئة الصعيدية كمسرح وحقل للدراسة.
لكن الأهم هو التوازن الذي يفرضه الإهداء على رؤية الماضي، فهو مُهدى لمن “ذاق شهد الحياة القديمة أو عانى شظف العيش فيها”.
هذا التجاور بين “الشهد” و”الشظف” يؤكد أن الرواية لن تكون محض رومانسية للماضي، بل دراسة لجدليته المزدوجة التي جمعت بين الخير والشر، الوجاهة والشقاء.
كما يلتقط الإهداء دلالات أخلاقية عميقة عبر توظيف صور بلاغية ريفية أصيلة:
رجال لهم “قلوب بيضاء كجمار النخيل”: تشبيه يُحيل إلى النقاء والصلابة والأصالة المتجذرة، متجاوزاً بذلك الانقسام الطبقي إلى وحدة جوهرية.
نسوة لهم “أجنحة طرية من الرفق”: كناية عن الحنان والرأفة والحماية الأنثوية.
بهذا الإهداء، يُحوّل الكاتب الرواية من مجرد حكاية إلى ذاكرة جمعية مُهداة “لكل من عايش ذلك الزمن أو جزءاً منه أو سمع عنه”، مؤكداً دور الأدب كوعاء لحفظ التاريخ الشفوي والمحكي للمجتمع.
3. دراسة نقدية:
تقنيات التجاوز السردي في “الوحمة البغيضة”
تتجاوز “الوحمة البغيضة” وظيفة التأريخ الاجتماعي البسيط لتصبح نموذجاً للملحمة السردية المُكثّفة التي تعتمد على تقنيات فنية عالية في بناء الزمن وتوظيف الرمز، وذلك بهدف رصد مرحلة “التذرر الحداثي” التي أعقبت العصر الإقطاعي.
أ. تقنية التكثيف الزمني وانهيار البناء
يُعدّ “التكثيف الزمني” التقنية المهيمنة في الرواية.
فالنص لا يسرد الأحداث بتدفق خطي ممل، بل يقفز عبر أيقونات زمنية محددة (وفاة العمدة سليمان 1920، الثورة 1952، زواج الأبناء في السبعينات)؛ مُحوِّلاً كل فصل إلى “وحدة زمنية ثيماتية” تُعلن عن طور جديد من الانكسار الطبقي.
يُظهر الكاتب ببراعة كيف يؤدي هذا القفز الزمني إلى تلاشي الأيقونة القديمة:
أيقونة المكان:
يتحول الديوان العتيق من مركز للسلطة والوجاهة إلى مجرد “وظيفة رمزية” خاوية، ثم إلى أرض تُقسَّم وتُباع. هذه الجمالية التهديمية للمكان تُعلن أن البناء الاجتماعي القديم قد انتهى صلاحيته.
أيقونة التكنولوجيا:
تمثل ماكينة الري “روستون”، رمز القوة والحداثة في عصر العمدة سليمان، الأيقونة التكنولوجية التي تتلاشى؛ حيث ينتهي مصيرها إلى الصدأ والسكوت الأبدي، ليدل على انتهاء النظام الاقتصادي الذي كانت تخدمه.
ب. الأنساق السردية للوصم والتحول الجدلي
يُشكّل النسق السردي لرمز “الوحمة البغيضة” الذروة الفنية في الرواية.
إنها ليست مجرد تشوّه جسدي، بل هي وصمة اجتماعية تُطبع على عنق الجيل الجديد من الأعيان (شاهندا).
وبشكل لافت، تأتي هذه الوصمة بدلالة طعام الفقراء (“سمكة الفسيخ”)، وكأن النظام الإقطاعي يحمل في داخله بذور ضعفه وشوائبه الطبقية.
في المقابل، يظهر النسق السردي المُضاد في شخصية الدكتور مصطفى خلاوي (حفيد حسنية الجلاوية). هذا التناقض الجدلي يُفضي إلى معادلة سردية عميقة: “العلم كقوة خلاصية”.
لا يمكن محو وصمة الطبقة العليا (الوحمة) إلا بـ “مشرط الطبيب” الذي جاء من رحم الطبقة الدنيا (الجلاوية) التي ناضلت وتعلمت.
هذا المشهد الختامي، حيث يترجى الأعيان طبيباً من أصول كادحة، يمثل أعمق صور الانتصار السردي والتحول المجتمعي الهادئ.
ج. جمالية التباين في الشخصية المرتدّة
يُوظف الكاتب تقنية التباين الجيلي بين العمد كأداة لفهم التذرر.
فإذا كان العمدة سليمان يمثل “الملحمة البنائية” للنظام الإقطاعي، فإن العمدة البغدادي يمثل “الشخصية المرتدّة” أو “المُفككة”.
عبر البغدادي، الذي يعيش في حالة انفصال عن البيئة الريفية، يتم تمرير قرار تدمير المُلك (بيع الأراضي وهدم الديوان) بشكل غير مألوف، معلناً أن الفناء لم يعد يأتي من الخارج (الدولة أو الثورة)، بل من الداخل (ضعف الجيل الوراثي).
بناءً على التحليل العميق للأنساق السردية والتقنيات الفنية التي وظفها الكاتب ناجح جاد الكريم في رواية “الوحمة البغيضة”، يمكن تحديد نقاط القوة والضعف في العمل على النحو التالي:
نقاط القوة والتميز في رواية “الوحمة البغيضة”:
تكمن قوة الرواية في بنائها الهيكلي المتقن واستخدامها للرمزية العميقة لتأريخ التحولات الاجتماعية.
1. الإحكام في البناء الرمزي (الرمزية المادية)
الوظيفة المزدوجة للرمز: نجاح الكاتب في استخدام عناصر مادية بسيطة كرموز حاملة لدلالات تاريخية واقتصادية ضخمة. فـ “ماكينة روستون” ليست مجرد آلة، بل هي رمز لاحتكار القوة الرأسمالية القديمة، بينما “الوحمة البغيضة” ليست مجرد عيب خلقي، بل هي وصمة طبقية تضرب الأعيان من الداخل.
المعادلة الرمزية المبتكرة: تقديم “ترياق الجلاوية” (الطبيب من الطبقة الفقيرة) كحل لمشكلة الأعيان (الوحمة) هو ذروة رمزية عميقة تؤكد انتصار الكفاءة العلمية على النسب الإقطاعي.
2. التكثيف الزمني والتحقيب السردي
الشمولية والتركيز: قدرة الكاتب على تغطية قرن كامل من تاريخ مصر الريفي (1888-1993م) دون الوقوع في الإطناب أو الترهل، عبر تقنية القفزات الزمنية المركزة. هذا سمح للرواية بأن تكون بانوراما واسعة وموجزة لتغير الهياكل الاجتماعية.
تأريخ عبر التلاشي: نجاح الكاتب في جعل تلاشي الأيقونات المكانية (الديوان، المحلج، الزريبة) جزءاً أصيلاً من السرد، حيث يمثل تدمير هذه الأماكن إعلاناً فنياً عن فناء النظام الذي كانت تمثله.
3. الجدلية الاجتماعية والعمق الثقافي
التوازن الجدلي في الإهداء: الإهداء نفسه يعكس نظرة متوازنة للماضي (“شهد الحياة القديمة” مقابل “شظف العيش”)، مما يجنب الرواية الوقوع في فخ الحنين المفرط أو التجريم المطلق للماضي.
الاحتفاء بالهوية المحلية: الاستخدام الدقيق والمناسب للمصطلحات الريفية الصعيدية (مثل “الفسيخ”، “الجلة”، “الحردة”) يُضفي أصالة على النص ويُعمّق من واقعيته الثقافية.
* نقاط الضعف والتحديات المحتملة
قد تظهر بعض نقاط الضعف من طبيعة العمل نفسه أو من تقنيات السرد المستخدمة:
1. مخاطر التكثيف الزمني على تطوير الشخصيات
عمق الشخصيات: قد يؤدي الاعتماد على التكثيف الزمني والقفزات السردية الطويلة إلى عدم منح بعض الشخصيات مساحة كافية للتطور النفسي العميق، فتظهر كأيقونات أو نماذج طبقية (Types) أكثر منها شخصيات فردية ذات طبقات نفسية معقدة. فالعمدة البغدادي مثلاً يخدم بشكل أساسي هدف “الشخصية المرتدّة” أكثر من خدمته كشخصية مكتملة الدوافع.
السطحية العاطفية: في ظل هذا المدى الزمني الواسع، قد يطغى التحليل الاجتماعي على التطور العاطفي للشخصيات، فتصبح العلاقة بين الأفراد ثانوية مقارنة بالعلاقة بين الطبقات.
2. الإسقاط الرمزي الصريح (قد يكون مفرطاً)
المباشرة الرمزية: رغم جمالية الرمز، قد يرى بعض النقاد أن الربط بين “وحمة الفسيخ” وبين “وصمة الطبقة الدنيا” جاء صريحاً ومباشراً جداً في دلالته، مما يقلل من الغموض والإيحاء المطلوب في الرمزية العالية، ويجعل القارئ لا يبذل جهداً كبيراً لاكتشاف المغزى.
3. الاعتماد على المشهد الختامي كخلاصة
الاعتماد على الذروة: يرتكز ثقل الرسالة الاجتماعية للرواية بشكل كبير على المشهد الختامي (علاج الطبيب للجلاوية). هذا التركيز قد يجعل الأحداث السابقة تبدو كـ “مقدمات تاريخية” تخدم الهدف النهائي المعلن للرواية (انتصار العلم على الإقطاع)، بدلاً من أن تكون كل حلقة لها ثقلها المستقل.
4. المراجع الأساسية المقترحة للدراسة:
لإثراء أي دراسة نقدية معمقة لهذه الرواية، يُنصح بالرجوع إلى المصادر التالية:
في النقد البنائي والرمزي: دراسات حول “الأنساق السردية” و”نظرية التلقي” التي تشرح كيفية فك شفرة الرموز المادية (Metonymy) ودلالتها العميقة في النص الروائي (مثل توظيف الأطعمة، الأدوات، والآلات).
في تاريخ الرواية المصرية: مراجع نقدية متخصصة في تحليل “رواية القرية” في مصر ما بعد 1952، وكيف تحولت صورة العمدة من رمز للقوة إلى أيقونة للتآكل والتلاشي.
في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي: كتب ترصد التطور السياسي والاقتصادي للريف المصري، وخاصة تلك التي تتناول أثر قوانين الإصلاح الزراعي على تفتيت الملكيات وتكوين طبقة الفلاحين المتعلمين (مثل الجلاوية).