عبد الكريم العامري كاتب مسرحي و شاعر و روائي عراقي من مواليد البصرة 1958. له العديد من الاعمال الادبية التي أثرت الادب العراقي. في هذا الحوار, يجيب العامري عن تساؤلاتنا فيما يخص روايته “عنبر سعيد” التي صدرت في البصرة 2013, و تحديدا رؤيته للمراه التي جسدها بشكل مثير للتساؤل.
– كونك فنان متعدد المواهب, كتبت شعرا, و رواية كما انك اعلامي و مخرج و كاتب مسرحي, كيف تختلف تجربة كتابة الرواية كفن مستقل عن تجربة ممارسة الفنون الاخرى؟
لكل جنس أدبي كما معروف مبناه واسلوبه في الكتابة، وهو يدور في فلك ما يمكن ان نسميه بالابداع، وربما تختلف الرواية عن باقي الاجناس الادبية في المبنى السردي الذي يتحدد في زمكانية الحدث وتعدد الشخصيات واختلافهم ومستويات السرد والخطاب الذي يشغل الحبكة والفكرة وغيرها من الامور التي تخص كتابة الرواية. وفي تجربتي المتنوعة اجد فرصة في التعبير عن الذات في الرواية قلما اجدها في الاجناس الأخرى، واحاول عبر كتابة اطمح في ان تكون مغايرة ان اضع بصمة في فن كتابة الرواية وهذا ما اشار له النقاد سواء في روايتي الاولى “الطريق الى الملح” (الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام ( 2001 او في روايتي الأخيرة الصادرة في البصرة عام 2013 “عنبر سعيد ” وكذلك في مخطوطتي “غزو” التي اتناول فيها الواقع العراقي ما بعد عام 2003 بطريقة تختلف عن الروايتين الاخريتين. اما عن علاقة الرواية التي اكتبها بالفنون الاخرى التي أزاولها فلا اجد الا علاقة واحدة وهي انتماؤها للمكان والزمان الذي اعيشه فقد تتقارب الرؤى في التعبير عن حدث ما فتنتج نصا مسرحياً أو قصيدة أو رواية فما دمت قادرا على الامساك بالخيوط الاولى فذاك يعطيني الحافز للمضي بالمنجز الادبي الذي اكتبه.
– كيف ابتدأت و ترسخت و تطورت حبكة رواية “عنبر سعيد” في ذهنك؟
من الصعوبات التي يعانيها أي أديب هو الامساك بالفكرة وهذا هو التحدي الاول الذي يؤرقني، في عنبر سعيد وغيرها أجدني منتظراً الفكرة أياماً، اترقبها، فقد تباغتني في اية لحظة، وما ان تبدأ بالنفاذ الى عالمي، وعادة ما تكون خيوطاً متداخلة، اقتنصها واسجلها في دفتري ومن ثم تبدأ العملية الأقسى وهي رسم الفكرة العامة ومن ثم المضي بالكتابة. وهنا لا بد من القول ان الشخصيات الثانوية التي ترد في متن الرواية هي التي تفرض نفسها في العوالم التي ارسمها وربما لم اكن قد فكرت بوجودها من قبل، تدخل دون استئذان وترسم مساراتها. في رواية عنبر سعيد كنت أسعى لرسم صورة المرأة التي تعيش صراعا داخلياً، صراعاً ما بين الطهر والعهر، وهو صراع قديم في النفس البشرية، ومقابل ذلك قدمت نموذجين للرجل من خلال شخصية) عنبر( وشخصية الشيخ )مقطوف ( والشخصية الاخيرة تحمل كثيرا من الازدواجية فيما تحمل الأولى عمقا في الطرح والرؤية للحياة بعامتها.
– اجواء الرواية واقعية الا ان جموح خيالك أطرها بتفرد أخرجها عن المألوف, كيف تفسر ذلك؟
في كتابتي للرواية لا يتجلى الواقع بشكله المعروف، هو موجود بمتعلقاته والأمكنة التي أرسمها، المدينة لا تشبه المدن التي نعيشها، والأمكنة فيها هي مزيج من أمكنة شتى، وهنا لا بد من اقتران الخيال لتخرج الرواية من ثوب الواقع الذي لم أجد فيه جمالية ما أبحث عنه. ربما هي قريبة من الواقعية السحرية الا انها لا توغل في الفانتازيا بقدر ما احتاجه لتقريب الشخصية من القارئ، وهنا اذكر ان الروائي ماركيز كان قد سئل عن إمكانية تصديق أحداث روايته “الحب في زمن الكولير ” فأجاب بأن على القارىء أن يدرك أن في الرواية قدرا من السحر والخرافة يوازي قدرا آخر من الواقعية. وهذا ليس جموحاً في الخيال حيث ان الشخصيات التي اقدمها هي شخصيات مركبة في كل شيء وليست بسيطة وتحتاج الى جرعة من التخيل من أجل ان تأخذ حيزا كبيرا في صنع الحدث.
– لا تبدو “عنبر سعيد” و كأنها تتحدث فقط عن احداث مرت بحياة شخص و انما تتوغل عميقا و تلامس ابعادا اخرى سياسية و أجتماعية, ما تعليقك؟
نعم، هذا ما ذهبت اليه، بدأت مع شخصية عنبر سعيد وموته، وانطلقت الى العالم الذي عاش فيه والشخصيات التي التقى بها وخلقت صراعا يمكن أن يجده القارئ المنتج على مستويين: داخلي، وهو صراع الشخصية الرئيسة “عنبر” ومثله باقي الشخصيات حتى الثانوية منها، ومستوى خارجي وهو صراع الشخصيات مع بعضها. من خلال كل ذلك حاولت أن أضع الفكرة الرئيسة من الرواية وهي ان الدين والتقوى هو أمر شخصي ولا يمكن لأحد أن يجبر الآخرين على التمسك بهما.
– الراوي في عنبر سعيد شخص خارج مضمار الأحداث, يروي لنا الاحداث تارة بموضوعية و تارة أخرى يدخلنا الى عالم اللاوعي لعنبر سعيد و بعض الشخصيات الرئيسية الاخرى, و لكنك أخترت المراه الوحيدة بروايتك و التي لم تسمها, لتروي بعض الأجزاء من الرواية, لم شخصية المراه بالتحديد؟
في الكتابة الروائية وبصراحة لم اضع امام نفسي خطة للكتابة فيما يتعلق بمستويات السرد او الخطاب، ومتى ما وجدتني احتاج الى تغيير المستوى في فصل ما من فصول الرواية اعمل به واعتقد ان تنوع مستوى السرد يعطي القارئ فرصة للتعرف على ما تفكر فيه الشخصيات ومن ثم المشاركة في الاحداث، فالسرد بدأ بالرواي العليم ومن ثم للمروي عنه “عنبر سعيد” وفي الاحداث المتعلقة بالمرأة كان السرد يمضي على لسانها، اختلاف الروي ربما اعطى الرواية حيويتها فضلا عن اني حاولت توليف الاحداث المتشظية وجمعها في فصول الرواية.
– تبتدا الرواية بموت عنبر سعيد, و بتقنية الفلاشباك, سردت حياته, ما الحافز لتبدأ الأحداث من حيث أنتهت؟ و كيف عمل ذلك على أضفاء التشويق و الأثارة على العمل الأدبي ككل؟
بدأت رواية عنبر سعيد من نهايتها، أي موت الشخصية الرئيسة في الرواية او ما يعبر عنه بالبطل، ويجد القارئ ان اول كلمة كتبت في الرواية هي )مات عنبر سعيد( . طريقة وجدتها الانسب للاستمرار بها والتي ربما تدفع القارئ للبحث عن سبب موته والتعرف عن حياة الشخصية التي وجدها وحيدة منعزلة في مستشفى حكومي. هذا البدء جاء لكسر المتوقع خاصة وان عالم عنبر سعيد هو عالم التناقضات.
– من هي المراه بالنسبة اليك كروائي؟ أي من جانبي المراه تفضل ان تشخصه, الأنوثه و الضعف ام القوة و ألمواقف الصلبة؟
عكس ما يراه الآخرون في ان المرأة انسان ضعيف اجدها قوية، وهذا وارد في روايتيّ” الطريق الى الملح” و “عنبر سعيد”، قد تبدو في بعض المواضع ضعيفة ومستلبة الا أني لم ارها كذلك فهي قادرة على تجاوز كل العقبات، وهناك امثلة كثيرة في التاريخ الانساني عن قوة المرأة وقد يقول قائل انها مجرد اسماء ذكرها التاريخ وهي قليلة، بالعكس في مجتمعاتنا العربية هناك كثير منهن لكن الرجل الشرقي لا يريد ان يقر بقوة المرأة كي لا تضعف هيبته!
المرأة بالنسبة لي هي بستان الحياة دونها لا يمكن ان نتحسس جمالية ما نعيش، دونها لا يمكن ان اعيش ككاتب وانسان.
– هل تستنزف المراه طاقاتك حين تهم بوصفها و تشكيلها في أعمالك الأدبية؟
– في كل كتاباتي لا توجد امرأة واحدة في الشخصية، احاول ان اشكّل المرأة من خلال عدة نساء، من كل امرأة انتقي خصلة وصفة، أحاول ان اضعها في مكانها المناسب ولا اخفي سرا ان قلت احياناً اتحيّز لها بكتابتي الروائية واذا ما اوقعتها في مصيدة ما فسرعان ما اخرجها منها لتعاطفي معها.
أمرأتك في “عنبر سعيد” بقيت مجهولة الأسم, ما هدفك من تجاهل تسميتها؟
المرأة هنا بلا اسم كي تكون تعميما لآخريات، لم اضع اسما صريحا لها في رواية “عنبر سعيد” كي تكون صوتاً لكل النساء، هي نجحت في خاتمة الرواية وهو نصر لكل النساء اللاتي يعانين من اضطهاد المجتمع لهن، قد تكون النهاية ليست بالطهر الذي نبغيه الا انه اشارة واضحة لسخف مجتمعاتنا التي تنظر للمرأة كجسد دون ان تنظر لفكرها وروحها.
وعكس ذلك فأن الرجل في الرواية حمل اسماً “عنبر سعيد ” و الشيخ” قطوف” وكل منهما له وضعه الخاص كما في الشخصيات الأخرى وغاية ما ذهبت اليه هو ان تلك الشخصيات تعبر عن بعض ممن في المجتمع مثل شخصية الشيخ التي عبرت عن شواذ المتدينين.
– لم جعلت “المرأة” شخصية ضائعة, منطوية, تعاني من صراع شخصيتين متناقضتين و كأن المراه تجسد, بطريقة أخرى, واقع الحال الذي تطرحه الرواية من أزدواجية المواقف و زيف المظاهر؟
فكرة الرواية هي التي قادتني لاضع المرأة في هذه الخانة، لم تكن ضائعة بالمعنى المعروف انما روحها هائمة في ازدواجية واقعها، واقع يدعو في النهار للطهر والحشمة وما الى ذلك مما يدعو اليه رجل الدين وآخر يدفعها لاشباع رغبة ذات الشخص في الليل، المرأة هنا وقعت بين متناقضين وسط ضغط الأب الذي لا حول له ان ترتمي في احضان من يراه الاب محرابا طاهراً الا انه في الحقيقة غير ذلك.
– تبدو المراه في الرواية و كأنها قد خسرت النزال و أنحدرت الى ما كانت تخشاه, هل هي كذلك بالنسبة اليك؟
لا، ليست كذلك، المرأة بالنسبة لي كانسان هي التي توازن ما بين عقلها وقلبها، وما اكتبه في الرواية او المسرح غير ذلك، انا اطرح تساؤلات وربما اجيب عن بعضها في النص واترك بقية الاجابات للقارئ، اخلق شخصيات قادها قدرها لما لا ترغب فيه واعالجها لتكون قريبة من القارئ.
في رواية عنبر سعيد عالجت الازدواجية وهي احدى ما يعانيه بعض ممن هم في مجتمعاتنا وخاصة فيما يتعلق بموضوع الجنس، المرأة في الرواية سقطت في هذه الازدواجية بسبب ظروف احاطت بها، ظروف خاصة بمجتمعاتنا التي ترفع عصاها في وجه من يحاول التمرد على التعاليم الدينية، هي ليست مذنبة قدر ما يمكن توجيه الاتهام لمن هم يشعرون انهم عرابو مجتمعاتنا.
– ربما كانت نهاية المراه في “عنبر سعيد” من أكثر النهايات بؤسا, فقد رضخت الى فرضيات الواقع و عاشت حياة غير مقتنعة بمواصلتها و لكن, و رغما عنها, انحدرت اليها!
النهاية كانت انتصارا لها لكنه انتصار منقوص أدخلها في دائرة ما سقطت فيه شخصية الشيخ مقطوف، ربما لم يكن القارئ يتوقع ذلك وهو ما عنيته في كسر المألوف واستخدام اللامتوقع في الرواية وهي طريقة غالبا ما استخدمها في كتاباتي المسرحية وهناك امثلة كثيرة لمن يتابع منجزي المسرحي والادبي.
– عمدت في أحيان كثيرة الى تصوير مواقف و مشاهد حميمة ربما تكون من أكثر ما يرسخ بذهنية القارئ حين يتذكر “عنبر سعيد”, هل وضفت ذلك لخدمة فكرة ما؟
– ساستعير من زميلي القاص عزيز الشعباني نص ما كتبه عن رواية “عنبر سعيد” وهو يخوض فيما سألتيني عنه حيث يقول”: في رواية عنبر سعيد ارّخ العامري لثقافة جنسية اقصت تابو الحياء المفتعل من خلال تنوير الذات عن بعض خبايا الجسد والوجدان المتاصلة في الذات البشرية المتمثلة بثلاثة اجساد” ذكران وانثى” ، بنى منها العامري هيكل الرواية ، لدرجة انه لايمكن الاستغناء عن احدها دون الاخلال بنظم القيم المستبطنة في النص. هذه الاجساد وهي موضوع السرد والوصف والاستذكار والاستباق والاستيهام ، وهي موضوع اللغة ايضا ، والتي منها يخلق الكاتب تركيبات جديدة من خلال مايتوالد من هزات وايماءات واهات”.
المشاهد التي اسميتيها بالحميمية هي مشاهد رئيسة في الرواية ولا غنى عنها كي تصل الفكرة للقارئ وقد استخدمتها بطريقة تختلف عن الكتابات الايروتيكية التي تصل الى حد الابتذال، وفي هذا يمكنني ان اعود لصديقي الشعباني الذي كتب عن الرواية قائلا: “نحن نعرف ان الحركات والايماءات عندما تقع داخل دائرة المحظور والممنوع والمحرم ، الذي يخدش الحياء ، فانها تتحول الى شكل رمزي ويكون الكاتب عندئذ مضطرا لاستعمال استعارات منوعة ، الا ان الكاتب في نص عنبر سعيد ، وهذه احدى مزاياه ، يخلق طاقة وصفية داخل البناء الروائي تقود الى فعل ينزع منها بعدها الرمزي ويجعل منها ، عنصرا يُدرك باعتبار حقيقته لا باعتبار مجازه لذلك فان الغريزة الجنسية في نص العامري كانت هي الممر المباشر نحو نقل الوضعيات من حالتها البسيطة الى حالتها المركبة في انتاج دلالات تستوعب الفكرة ضمن بنية حقيقية واحد”.
– أذا كانت المشاهد الحميمة رئيسية في الرواية, فهل يعني ذلك انك تقدمها الى نوع معين من القراء؟
في تجاربي الكتابية لا اضع قارئا معينا، لا اكتب للنخبة مثلا دون عامة الناس، انا اخاطب العقل والعاطفة البشريين ولا اضع في الحسبان جمهورا معينا لهذا ما جاءني من آراء ممن قرأوا ما اكتبه جعلني اكثر قناعة في ان ما كتب يمكن فهمه بسهولة، لا اتجه الى التعقيد في الكتابة والوصف ولا انتقي مفردات لا تصل بيسر الى المتلقي لهذا فأن جمهوري متنوع ما بين النخب والعامة.
—
المصدر: جريدة الزمان/طبعة العراق
—