المفضل أكعبون شاعر وباحث ومؤلف تربوي مغربي نحت وينحت في صمت وهدوء الحكيم قصيدته ولغته الخاصة التي ينصت فيها أكثر مما يتكلم لأن الكلام يفقد اللغة أحيانا جاذبيتها وشعريتها من كثرة التداول أصدر أخيرا ديوانه الأول الذي جاء تحت عنوان ” لا قول إلا ما قالت مهذبتي … ” بعد تهيب من النشر دام لعقود رغم نشره للكثير من النصوص الشعر والمقالات بصحف مغربية فكانت فرصة لنا للاقتراب من عالمه الشعري ومحاورته حول الشعر والأدب والمدرسة والتربية فكان الحوار التالي :
س 1 : نرحب بك د المفضل أكعبون ونشكرك على قبول الدعوة إلى هذا الحوار وقبل الانطلاق في هذه الرحلة الحوارية نريد أن نعرف إلى أي المجالات يميل المفضل أكعبون هل إلى الأدب والشعر خصوصا أم إلى عالم التربية التي بصمتم فيها بصمة بارزة تدريسا وإشرافا وتأطيرا وبحثا ؟ .
ج 1 : أود في البداية أن أشكر محمد العزوزي على هذه الاستضافة وأنوه باهتماماته المتنوعة فهو المفكر والأديب المثقف الألمعي الذي يجمع بين الشعر والقصة والرواية والنقد ويواكب عن كثب كل المستجدات الثقافية. ولا أشك في أن هذا الحوار سيكون ماتعا من خلال أسئلته.
في مسألة الميل للأدب والشعر أو عالم التربية أقول بصراحة أن الشعر كان أسبق لانني بدأت نظم الشعر بسبب صدمة حب وأنا تلميذ بالسنة التاسعة إعدادي وكنت أعرض ذلك على أصدقائي ويستحسنونه وأنا بمرحلة الثانوي دعمني أحد أساتذة اللغة العربية وقال لي أمام التلاميذ إن كتاباتي جميلة وانه ينتظر مني أن أكون أديبا يوما ما وحين ولجت كلية الآداب بالرباط عام 1978 كان معي رصيد شعري أغلبه في الحب وكان بعض زملائي – الذين أصبحوا أساتذة جامعيين فيما بعد يعجبون بذلك وينصحونني بتنويع القول الشعري وأنا ما زلت أحتفظ بملاحظاتهم الجميلة وعملت فعلا بنصيحتهم لتطوير تجربتي أما التربية فكانت لها قصتها حيث كنت أستاذا يعشق مهنته وأحب تلاميذي وأتفاعل معهم باحترام كبير من خلال الاطلاع على مشاكلهم ورغباتهم وكنت أحرص على ان آتي بالجديد وان أكون القدوة مع التلاميذ والأساتذة فيما بعد عندما أصبحت مشرفا تربويا بل انخرطت في الجمعية المغربية للمناهج التربوية التي كانت تصدر مجلة الدليل التربوي وكان لهذه الجمعية تأثير كبير في الاهتمام بالتربية خصوصا مجال التأليف المدرسي الذي كان لي شرف المشاركة في ثلاثة من كتبه: كتاب الأولى علمي والثانية علمي و كتاب التعليم الأصيل بالإضافة إلى بحوث عديدة استفادت منها أكاديمية فاس بل أكاديميات أخرى. رغم ظروف كل اتجاه اقول الشعر أحب إلي من نفسي.
س 2 : بدأتم الكتابة مبكرا ولكن يلاحظ عليكم نوع من التهيب في النشر هل هو زهد من جانبكم أو رغبة في إنضاج تجربتكم بهدوء بعيدا عن ضجيج الوسط الثقافي ؟ .
ج 2: هناك فعلا تهيب من النشر لأنه مسؤولية كبيرة جدا.كنت لا أريد أن أنشر أي شيء. رغم ان قصيدتي الأولى نشرت شهر يونيو عام 1987 والتي لاقت استحسانا وتنويها من طرف أصدقائي الشعراء والأساتذة عموما فإني تريثت كثيرا في النشر لأنه بصراحة عندما تكون قدوتك شامخة لا تحب أن تكون أنت دونها. كان أحمد المجاطي أستاذي ومحمد بنيس أستاذي وعبد الله راجع صديقي في العمل ومحمد الحلوي كانت قصائده في كل المنشورات… وغيرهم كثير كانت الجامعة مجمعا للعباقرة بل كان الإبداع أيضا ينهمر علينا من العالم العربي عبر محمود درويش وأدونيس وأمل دنقل … كيف لا تتريث في مثل هذه الأجواء الجميلة المفعمة بالإبداع الخلاق؟ ولا أنكر أيضا أني زاهد في النشر رغم أن بعض الأصدقاء يطلبون مني قصائد للنشر. إنه البحث عن المثالية في الإبداع بل نوع من محاسبة الذات ومراقبتها مراقبة صارمة حتى لا تقول أي شيء. الشعر مسؤولية وليس قولا فقط. هناك فرق بين القول الشغري واللغط.
س 3 : يشهد لكم بارتباط ومحبة خاصين بعالم التربية الذي قضيتم فيه أبرز سنوات عمركم ومررتم في هذه السنوات من التدريس والإشراف والتأطير والتكوين إلى البحث الذي بصمتموه ببصمة خاصة كيف ترى واقع التربية والمدرسة العمومية بعد الخروج من عالمهما ؟.
ج 3 : التربية اليوم أصبحت بين أحضان عالم متطور جدا. والمشكلة الكبرى هي حين لا يعرف المرء ماذا يفعل أو يختار. كل تربية ينبغي أن تقوم على أساسين يمكن ان يتفرع عنهما الباقي:
القدوة : ما هو النموذج الذي سنقتدي به؟ هل هو قادر على الصمود؟ كيف نجعله يستطيع الصمود وتحقيق النتائج المتوخاة ؟
الهوية: من أصعب الحالات ان تجد تربيتنا بدون هوية رغم الوثائق التي تنص عليها فالمشكل ليس هو الإعلان عن مكونات الهوية التربوية فقط بل تفعيل ذلك على أرض الواقع المعيش. هناك فرق كبير بين الموجود بالقوة والموجود بالفعل. لا بد بهذا الصدد من الانتباه إلى أن التربية ليست موحدة بضوابط صارمة بل فيها مظاهر مختلفة قد تكون مرتبطة بالطبقات الاجتماعية أو بثقافة معينة داخل نظامنا التربوي العام. يعني هناك تربوي خاص وتربوي عام. ائتلاف واختلاف. وفي نظري يجب أن نعمل على أن يكون النظام التربوي المغربي في خدمة ثوابتنا الوطنية وهويتنا المغربية كدولة قوية لها شخصيتها التي تمكنها من الصمود والثبات. كل هذا يمكن تحقيقه بإعادة النظر في العلاقة بين المدرسة والأسرة والشارع لأن أخطر ما نمر به الآن هو العلاقة المتوترة بين هذه العناصر وتبادل الاتهامات حول من يتحمل مسؤولية التربية.
بهذا أخلص إلى شيء مهم هو انه يجب ان نكون مدرسا مربيا وأن نعلم الآباء كيف يربون الأبناء لأن معظم الآباء والأمهات هم في وضعية الشخصية الضعيفة التي تسارع إلى تلبية رغبات أبنائهم لتجنب كل أشكال الصراع وهذا يدخل في باب التربية الفاشلة.
س 4 : في إطار علاقتكم بالمدرسة التي سبق لنا الإشارة لها وبناء على علاقتكم بالمدرسة من جهة والأدب كشاعر كيف ترى علاقة المدرسة بالأدب هل الكيفيات والصيغ التي يحضر بها الأدب ضمن المدرسة والبرامج والكتب المدرسية فعالة لاستثمار الأدب في التدريس والتعليم خصوصا وأن القيم التي تبني عليها المجتمات المتحضرة لا يمكن أن تمرر وتربى عليها الناشئة والأجيال القادمة إلا من خلال الفن والأدب ؟
ج 4: لا نبالغ إذا قلنا إن الأدب وسيلة للتربية فالأدب لم يبدع ليكون غاية في حد ذاته بل هو حقل للقيم الإنسانية لهذا يكون تدريسه وسيلة لنشر هذه القيم للارتقاء بالفكر والنفس إلى مستوى النضج.فتدريس قصائد المتنبي ستكون فائدتها محدودة إذا حصرناها في كونها تعبر عن عصرها وانها نقديا أثارت النقاش كثيرا حتى قيل عن الشاعر أنه ملأ الدنيا وشغل الناس لأن السؤال المطروح هو: ماذا أضاف المتعلم لحياته النفسية والفكرية؟ هل ساعدته هذه القصائد على تنمية شخصيته وبلورتها؟
إن المشكل في تدريس الأدب هو أن واضعي المقررات يتوجهون إلى المتعلم وكأنه متخصص وهذا من شانه أن يثقل كاهله ويفوت عليه فرصة الدراسة المتأنية والتفاعل المثمر خصوصا وان المقررات طويلة جدا ولا حاجة لبعض محاورها.
في التدريس تطرح مسألة أخرى وهي أن المدرس الذي يكون مبدعا وعلى علم بالحقل الفلسفي يكون أكثر قدرة وبراعة في محاورة النص وتفكيكه وإعادة بنائه بما يخدم المتعلم والحقل التربوي. بناء عليه نقول إن تدريس الأدب ضرورة وليس ترفا زائدا .
س 5 : لنحرك الدفة إلى جهة الأدب والشعر يلاحظ على نصوصكم الشعرية نوع من النوستالجيا والحنين لماذا هذا الحضور للحنين مقارنة مع نصوصكم الزجلية التي يحضر فيها النزوع إلى الحكمة بشكل بارز ؟ هل هو إحساس بالاغتراب من جانبكم أو محاولة لقول أشياء مضمرة ؟ .
ج 4 : الشعر حرقة والحرقة لا تنطلق إلا من الذات التي تحمل بداخلها الآخر. الأساس في الإبداع هو المكابدة التي لا حجاب فيها بين الطرفين .فالموضوعات تتحدث عن الغربة – الهجرة- الجفاف – الشيخوخة – الموت- الفضيلة- الأحلام- الوطن- الحب – فلسطين- الثغور المحتلة- الأم- مفارقات الواقع…وكلها عناصر تتفاعل معها الذات لتشكل القصيدة الممكنة. وأعتقد بأن القصيدة هي التي تسفك دم صاحبها لتكون الأرقى والجديرة بأن تسمو إلى مقام الشعر. مع كل ذلك أكتب القصيدة وأنا أستحضر المتنبي لأنني حفظت له نصف ديوانه ونظمت قصيدة خاصة به.
في الزجل أجد شعورا آخر هو شعور المجدوب الذي خبر الحياة وأصبح معلما بمفهوم فلسفي يجعل من نفسه مرجعا للقوة الحجاجية والمناعة النفسية. لهذا يقوم الزجل على تقديم النصيحة والتحذير من مصائب الزمن وسلوكات الناس المستفزة وقد عمدت في الزجل إلى زعزعة بعض المفاهيم والتمثلات السائدة وحاولت أن أثبت عكسها مثلا:
خوك نهيه
يلا عمى سير اخليه
عارضتها بما يلي:
خوك نهيه
يلا عمى لا تخليه….
الشعر بصراحة يعشق الانزياح والزجل من وجهة نظري من الأفضل أن يكون مباشرا يرمم الواقع ويعيد بناءه بأبسط الطرق.
س 6 : من زاويتكم كقارئ ومتتبع للشأن الثقافي بالمغرب منذ سنوات كيف ترى المشهد الثقافي المغربي وماهي التحولات التي ترى انها طرأت عليه طيلة هذه المدة من متابعتكم وكيف ترى واقع القراءة ؟ .
ج 6 : باستعراض المشهد الثقافي المغربي بدءا بالثمانينيات من القرن الماضي أي الفترة التي بدات انخراطي فيه وحتى الآن ، سنلاحظ تغيرات كثيرة فيه. لقد فتحنا اعيننا كما يقولون على عالم كانت فيه القدوة الثقافية الوطنية والقومية والإنسانية هذه القدوة كانت تشكل سابقا أجيالا قوية فكريا وروحيا. اقصد ان المشهد الثقافي كان متماسكا ورؤيويا لكنه اليوم يعاني من الشتات. بمعنى أن المشهد يحتاج إلى تأطير وإعادة بناء حتى يجسد الهوية المطلوبة .وهذا لا يعني أننا لا نعترف بالاختلاف بل نجعل منه اختلاف التكامل وليس اختلاف النفي والإقصاء.
كان المثقف صلة وصل بين المواطن وواقعه أما الآن فهو لا يقوم بهذا الدور بالشكل المطلوب رغم أن وسائل التواصل تطورت كثيرا بمعنى أن أزمة الثقافة ترتبط بما حصل في الأشخاص الذين على عاتقهم إخراج المشهد الثقافي إلى وجوده الحقيقي. ولعل الآلية الأكثر تضررا في هذا المشهد هي القراءة رغم المجهودات المبذولة في هذا المجال على الصعيد الرسمي أو الفردي أو عن طريق الجمعيات التي تنشط في هذا المجال والتي تختلف أهدافها ونواياها المضمرة.
7- كلمة أخيرة :
إن أي تقدم تحرزه الأمم يكون في إطار مشروع دقيق وسليم قائم على رؤيا. مشروع هدفه بناء الإنسان وهذا يقتضي الخروج من حالة الهواية المبتذلة إلى الاحتراف المدروس والتسلح بالصرامة اللازمة لبناء الفرد وضمان استمرارنا. وهذا طبعا لن يتأتى إلا بتربية تعي أهدافها ومقاصدها، ينخرط فيه الجميع.
شكرا مرة أخرى لمحمد العزوزي المثقف الذي يحاور عن وعي مستحضرا كل الحيثيات ببراعة قل نظيرها.
المفضل أكعبون في سطور
شاعر وباحث في مجال التربية والأدب
حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب
اشتغل في مجال التعليم مدرسا ومفتشا إلى غاية تقاعده
ساهم في تأليف مجموعة من الكتب المدرسة الخاصة
أنجز العديد من الدراسات والأبحاث في مجالات التربية والأدب
صدر له حديثا ديوانا شعريا تحت عنوان لا قول إلا ما قالت مهذبتي …