
1- نرحب بك في هذا الحوار أحمد بطاح ونشكرك على قبول الدعوة. طفولة الإنسان المغربي معروفة عند الجميع. لكن بحكم أنك ابن الصحراء عشت طفولة مختلفة أكيد. تقاليد وعادات مختلفة. كيف عاش الطفل أحمد طفولته؟ وهل وعيت بأهمية القراءة مبكرا؟
-شكرا لك على اختياري لهذا الحوار الذي سيكون ممتعا بالتأكيد بأسئلته وتجاذباته. في الحقيقة الطفولة التي عشتها، كباقي أبناء جيلي، كانت صعبة نوعا ما، فأنا ولدت في آواخر الثمانينيات، بالضبط عام انهيار الاتحاد السوفياتي وما عرفته تلك المرحلة الانتقالية في العالم ككل. كما أن لعلعة الرصاص ما زالت قائمة في الصحراء ولم تتوقف إلا سنة 1991. في ظل هذا الاضطراب تنقلت عائلتي من مضارب الصحراء في الخيام حيث ولدت إلى جماعة عوينة يغمان قرب مدينة أسا ثم إلى مدينة الطنطان، وبعدها إلى مدينة بوجدور حيث عشت القسم الأكبر من طفولتي، طفولة صعبة جعلت منا جيلا مكافحا يعتمد على نفسه. وبالفعل بدأ وعيي بالقراءة مبكرا، أذكر أني في سنة الثانية من التعليم الابتدائي كنت أشرف على مكتبة القسم، وألتهم كل القصص التي كانت بحوزتي، وأحيانا كنت أجمع الخشب ونعال البلاستيك أبيعها لأشتري قصص جحا. للأسف لست سليل عائلة ثقافة، ولم أنشأ في بيت فيه مكتبة، ولم يكن لي أحد من العائلة يمت للثقافة بصلة. إلى جانب كفاح والداي فقد بنيت نفسي بنفسي.
2- أنت درست الفلسفة في الجامعة وحصلت فيها على الإجازة. وأنت طالب كتبت رواية بعنوان “سجن بلا جدران” لكن لم تنشر هذه الرواية إلا مؤخرا. حصلت الرواية على المركز الثالث في مسابقة حروف منثورة الأدبية السنوية في دورتها الثالثة سنة 2016. كيف كان تأثير الفلسفة عليك، ليس كإنسان أو طالب يبحث عن المعرفة، وإنما أيضا كأديب، وعاشق للكتابة؟
– في الحقيقة أخي إلياس، دائما ما أقول إن على الكاتب الروائي أن يكون مطلعا على الفلسفة، عارفا بالعلوم الإنسانية خاصة علم النفس وعلم الاجتماع. وذلك لم تمنح الفلسفة والعلوم الإنسانية من فهم للوجود والإنسان. الفلسفة شكلت جزءا كبيرا من وعيي إن لم تكن قد شكلته ككل، أمدتني بأدوات التحليل وفهم الواقع ونقد التصورات قبل الإيمان بها. وفي علاقتي مع الكتابة أضفت الفلسفة على كتاباتي لمسة خاصة، لمسة جعلت رواياتي تحمل خصوصية داخل روايات الوديان الثلاثة، أعني وادي نون ووادي الذهب ووادي الساقية الحمراء. ما يميز الفلسفة أنها نسقية، تشتغل داخل أنساق كبرى، الأمر الذي لا نجده في الرواية التي تفتقد النسقية. داخل رواياتي أحاول بناء نسقية، ليست مرتبطة بالتيمات المطروحة أو الحقول الروائية التي أكتب فيها، بل ما يمكن أن تمنحه قراءة أعمالي والخروج بتصور جديد عن الوجود يتجاوز براديغم القارئ.
3- في روايتك نفسها “سجن بلا جدران” الشخصية الرئيسة من الناس الذين يعيشون اللاإنتماء. هؤلاء الناس موجودون، وفي الحياة الحاضرة صاروا كثيرين. البشرية ربما تعبت من الانتماء، حيث ترى أن كل القوالب الجاهزة لم تعد تشجع على مواصلة الحياة. العالم يعاني من عدم وجود المعنى في الحياة. أنت ككاتب تواكب ما يحدث في العالم من تغيرات. كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة، أن نبني مثلا عالم ما بعد الإيديولوجيا، وهل الأدب قادر على بناء المعنى؟
– أعتقد أن فكرة اللاانتماء أتت وليدة سياق سياسي وعسكري طبع العالم خلال فترة الحربين العالميتين والحرب الباردة في القرن الماضي، هذا السياق أفرز لنا فلاسفة وأدباء مثل ألبير كامي وجان بول سارتر وصمويل بيكيث وهنري باربوس كتبوا عن شخصية اللامنتمي، وحاولوا الإجابة عن سؤال ما جدوى الوجود؟ وأعتقد أيضا أن هذا السؤال ما زال له ما يبرره اليوم إن لم تكن الدوافع أقوى في ظل هيمنة الرأسمالية وتحولها إلى امبريالية، وأيضا تحت ظل المد الصهيوني وما يقترفه من جرائم إبادة في حق الشعوب. أما بالنسبة للخروج من الأزمة فهذا أمر يستحيل من الناحية الواقعية، فالتاريخ البشري لم يسلم يوما من الأزمات، ولكن على حد تعبير ألبير كامي: “لسنا ننشد عالما لا يقتل فيه أحد، ولكن ننشد عالما لا يمكن فيه تبرير القتل”. صحيح فالأدب والفنون لها دور أساسي في بناء المعنى وتهذيب الشر الإنساني بالتأكيد، فالرواية والشعر والموسيقى والرسم ضرورية لبناء مجتمع محب للجمال ومتمسك بالحياة.
4- بطل هذه الرواية -سجن بلا جدران- يتضاعف ابتعاده عن العالم، وعدم تصالحه مع الحياة بعد موت الأب. الموت حقيقة يتفق عليها الجميع. الكثير يخاف هذه الحقيقة رغم أنه لو لم يكن الموت لما كان للحياة معنى، بتعبير الكاتب الأمريكي بول بولز. في الآونة الأخيرة كثر الخوف من الموت، إلى درجة ظهر نوع من المرض يسمى “خوف مرضي من الموت”، وفي الغرب هناك تجارب علمية ودراسات من أجل عيش الإنسان أكبر قدر ممكن من السنوات، حتى الفيلسوف الفرنسي إدغار موران تحدث عن ذلك، وصرح أن الأغنياء سيتمتعون بهذا الأمر. الكثير من الكتاب يصرحون أنهم لا يخافون الموت. أنت ككاتب كيف تنظر لهذا الحدث الذي لا مفر منه، وهل موت الأب للشخصية الرئيسة في روايتك هو متعمد مدروس من الكاتب أم أن الأحداث هي التي فرضت ذلك؟
– تماما، الموت هو الحقيقة المطلقة التي يمكن أن نتفق عليها، وسؤال الموت كان وما يزال يقظ مضجع الإنسان، بناء عليه عمدت الحضارات القديمة إلى طقوس كثيرة تصاحب عملية الموت وما بعده. كما أن سؤال الموت هو أول سؤال باعث على الفلسفة كما رأى سقراط، في حين اعتبر شيشرون أن التفلسف هو تعلم الموت. شخصيا، ومن منطلق نزعة وجودية تسكنني، دائما أكتب عن الموت، وأطرح أسئلته، خاصة في رواية سجن بلا جدران ورواية امرأة لا أثر لها تسكنني، ذلك أن الإنسان حينما يدخل مرحلة الثلاثين من العمر يسكنه هذا الهاجس الذي لا يمتلك حوله جوابا يقينيا. مشكلة الموت كتجربة إنسانية أنه تجربة نهائية ربما تقود لعالم آخر أو تقود إلى العدم.
في رواية سجن بلا جدران شكل موت الأب بالنسبة للبطل صدمة وجودية انضافت إلى باقي الصدمات الوجودية التي يعيشها، وهو حدث فكرت فيه في بناء الرواية، لما سيطرح من تأزيم للتناقضات الوجودية التي يعيشها البطل.
5- كتبت رواية بعنوان “الحب الآتي من الشرق” هذه الرواية نالت استحسانا من قبل القراء، وأنجز حولها بحث في الجامعة بسلك الماستر. الحب هو القاعدة إن صح التعبير. يجب أن يكون حاضرا في المجتمع بين الناس فيما بينهم. لكن في مجتمعات العالم الثالث نجد القاعدة هو الكره، والحب استثناء. حتى قيمة الحب غائبة. الحب له صلة قوية بالجنس في العالم العربي. لماذا الحب غائب بيننا، ثم هل ترى أن الحب مثلا يمكن أن يكون حلا وخلاصا لكثير من المأساة الموجودة في الواقع ؟
– للأسف، نحن نعيش وسط شعوب تمجد القبح وتستحسنه، وتكره الجمال أين ما كان. شوارعنا تدل على ذلك، حيث شعوبنا تنتفض بشدة حينما تمشي امرأة تلبس لباسا معينا ولكنهم يمرون أمام المزابل ومكبات النفايات التي تلقى الأزبال قربها وليست فيها دون أي إحساس بالذنب. شعوبنا تكره أن ترى مغنيا أو عازفا في الشوارع أو قبلة بين اثنين، لكنها تستحسن الفوضى التي نعيش فيها، فوضى السير على الطرقات، فوضى المواعيد، فوضى تخريب الممتلكات العامة، فوضى الأماكن المشتركة… الحب كما عبر عن ذلك نزار قباني جريمة عندنا، نحن لم نترب على الحب، لذلك نعيش أزمة في التعبير عن المشاعر، وهذه الأزمة تطفو على السطح في شكل مكبوتات جنسية يتم تصريفها بطرق متعددة. كم من المشاكل الكبرى كان يمكن أن تحل لو أن الإنسان حصل على حضن صباحي وكلمة جميلة ممن يحب.
6- لك رواية موسومة ب “رجل لا أثر له يسكنني”، ثم جزأها الثاني موسوم ب “امرأة لا أثر لها تسكنني” الرواية في جزأين. مثل هذه الروايات متعبة في الكتابة. أنت كيف عشت هذه التجربة، ثم لماذا هذا العنوانين المعكوسين؟
– في الحقيقة كتبت رواية رجل لا أثر له يسكنني بين عامي 2015 و 2016، وهي ثمرة مجهود خرج عبر منتدى الشيخ محمد لمام بالعيون، من خلال ورشة أطرتها الدكتورة زهور ڭرام بمعية الدكتورة العالية ماء العينين أشكرهما كل الشكر على ذلك. لم أفكر في البداية أن الرواية ستأتي ضمن ثلاثية، فكرة كتابة جزء ثاني لها، ثم جزء ثالث سأشتغل عليه فيما بعد، أتت بعد سنوات من كتابة الجزء الأول، ذلك أني رأيت ضرورة تطويرها إلى مشروع ثلاثية، لما تحمله من قابلية لذلك. رجل لا أثر له يسكنني رواية كتبتها بلسان أنثى، وأنت تعرف صعوبة أن يكتب رجل بلسان أنثى، رغم ذلك، وبشهادة الكثير من القراء، فقد وفقت في ذلك. بعدها رأيت أنه لا بد أن أكتب الرواية من زاوية الرجل، فولدت رواية امرأة لا أثر لها تسكنني، التي يسرد أحداثها عزيز، عزيز كان أيضا من أبطال الجزء الأول. يمكن أن نفهم من خلال الجزأين الكثير من التحولات الفكرية التي خضت غمارها. أما بالنسبة للجزء الثالث الذي اخترت له عنوان لا أحد يسكن أحد فسأبدا الاشتغال فيه حالما أنتهي من كتابة روايتي السادسة التي أعكف على كتابتها قبل مدة.
7- درّست الفلسفة لعدة سنوات. نحن نعرف أن الدرس الفلسفي حضوره محتشم، خاصة في الثانوية، وكأنه مجرد بروتوكول. حتى في الجامعة تجد شعبة الفلسفة لا يذهب إليها سوى القليل. هل الأمر متعلق بذلك اللاوعي الجمعي الذي يظن أن الفلسفة تدفع الإنسان إلى الجنون وتخرجه عن الطريق السوي؟
– أعتقد أن علاقة شعوبنا بالفلسفة هي علاقة متأزمة منذ تأسيس الحضارة العربية الإسلامية، لم تكن هذه الحضارة حضارة عقل أبدا، بل كانت حضارة دين. وحتى الفلسفة حينما بدأت في عصر المأمون مع بيت الحكمة، وظهر الفيلسوف الأول الكندي، وبعده الفارابي ثم ابن سينا وانتهاء الفلسفة في الشرق الإسلامي مع الغزالي، لتنبعث من جديد في الغرب الإسلامي مع ابن باجة وابن طفيل وتتوج مع ابن رشد، كل هذه الفلسفة لم تأت إلا لتخدم الدين، ولم تستطع بناء فلسفة عربية أصيلة تتجاوز الأرسطية، وتطرح أسئلة وإجابات عقلية مستقلة عن فلسفة اليونان. هناك محاولات قليلة لبناء صرح عقلي متكامل يعوض الصرح الديني الذي لا يجيب عن أسئلة المرحلة، لكن هذه التجارب أُجهضت، وعاش أصحابها هجوما قويا توج في كثير من الأحيان بالاغتيالات. نحن شعوب لا معرفية تحكم انطلاقا من عقل ديني مؤطر بمقولات الحلال والحرام، وعليه ستعيش الفلسفة دوما حالة نشاز ما لم نتحرر من دوغمائية العقل الديني.
8 – الفلسفة قديما كانت أم العلوم. والذي يشتغل فيها يكون صارما إن صح التعبير. في القرن الأخير تغيرت الأمور وصار الفيلسوف مثلا تتحكم فيه الشركات الكبرى، وكذلك الإيديولوجيا. فيلسوف مثل هابرماس بيهوديته يأتي جنب إسرائيل طولا وعرضا حول الحرب، رغم كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة وفي حق الشعب الفلسطيني. هل يمكن أن نصدق تلك المقولة التي تقر بنهاية الفلسفة ثم برمزية الفيلسوف؟
– أعتقد أن الفلسفة عبر التاريخ، كانت في حالة خصام مع السياسة، ولعل هذا الخصام بدأ منذ لجوء الديموقراطية اليونانية إلى إعدام سقراط، حيث شكلت هذه الواقعة بداية الخصام بين الفيلسوف ورجل السياسة. حينما أتى أفلاطون وأرسطو كانا يرفضان الديموقراطية، ذلك لأنها تتيح للغوغاء من الناس الوصول للسلطة، وبدل ذلك اقترحا حكم الأقلية الحكيمة، وهي طبقة الفلاسفة، هذا الأمر لم يتحقق وأعتقد أنه لن يتحقق أبدا. في مقابل ذلك، تراجع دور الفلسفة أكثر منذ ظهور ميكيافيلي، حيث لم يعد هاجس الفلسفة هو تخليق الحياة السياسية، وأصبحت البرغماتية هي الإطار الذي يحكم من خلاله رجل السياسة، ما جعل الفيلسوف اليوم المؤمن بالقيم الإنسانية معزولا عن المشهد السياسي العالمي، إلا إن كان سينخرط في لعبة السياسة القذرة، ويدافع عن مشاريعها الكبرى كالإمبريالية والصهيونية، وللأسف فيلسوف مثل هابرماس سينزلق في هذا المنزلق الخطير الذي يشرعن قتل الإنسان وإبادته جماعيا.
9- رغم كل ما يحدث. الفلسفة حاضرة في الغرب. في العالم العربي شيء مختلف. المشتغلون في الفلسفة لا يبتكرون أي شيء، يستوردون النقاش الغربي ويملؤون به الفراغ، مثلا في الغرب هناك نقاش حول ما بعد العلمانية، الدين كان قد اختفى عندهم بسبب العلمانية وحينما حدث نوع من الانهيار الأخلاقي، ثم ظهور الأزمات الروحية عاد الدين للمجتمع من جديد. في واقعنا الأمر مختلف. الدين لم يختف كي يعود أصلا. حتى العلمانية لا حضور لها إلا على الورق. هناك تيارات لا حصر لها تطلب هذه العلمانية وتريد تطبيقها على أرض الواقع في أقرب وقت، بينما في العمق العلمانية لا تعني دائما التقدم. أنت تعلم أن المثقف عليه أن لا يكون تابعا. لكن مثقف العالم الثالث تابع وكأنه مجرد طفل يتبع والديه. كيف يمكن أن نخرج من هذه الأزمة إن صح التعبير ؟. أزمة نخب، وأزمة تأخر وانهزام !
-إن الإجابة عن سؤال النهضة الذي يقول: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ أفرز نقاشا كبيرا على مستوى الساحة الثقافية العربية، هذا النقاش تمخض عنه ثلاثة تيارات أساسية، الأول أصولي يدعو إلى التمسك بالتراث والرجوع إلى الماضي لاستلهام النموذج الذي يمكن من خلاله بناء حضارة اليوم. أما التيار الثاني، فهو تيار القطيعة الذي دعا إلى القطع نهائيا مع الماضي، واستلهام النموذج الحداثي الغربي بكل مقوماته، بما فيها فصل الدين عن الحياة العامة. أما التيار الثالث، فهو تيار يزاوج بين استلهام النموذج الغربي، وتبيئته ليكون صالحا للنمو على أرض الإرث العربي الإسلامي. شخصيا أعتقد أن تخلف الشعوب العربية نابع من الفساد السياسي الذي نعيشه، وهو فساد يجد بيئته الخصبة في الدين، منذ الدولة الأموية فهم رجال السياسة أن الدين هو الوصفة السحرية لبناء مجتمع خاضع، ولذلك كانت المؤسسة الدينية عبر تاريخ الإسلام مؤسسة سياسية، ترعاها الدولة، ومن خلالها تمرر أيديولوجيتها. لا أعتقد أن تجربة الإسلام تختلف عن تجربة المسيحية، فإلى حدود عصر النهضة كانت الدول المسيحية تتحكم في الناس عبر الكنيسة، بل أحيانا تتجاوز سلطة البابا سلطة القيصر. لكن مع ديكارت وبدء عصر الحداثة بدأ العقل يحل محل الفكر الديني، وسرعان ما حمل عصر الأنوار شعار “رفع الحجر الممارس على العقل”، كل ذلك جعل الغرب يتحل موقع الطليعة اليوم. أما بخصوص الانهيار الأخلاقي للغرب فهذه مقولات كرستها ثقافتنا التي تختزل الأخلاق في الجسد والجنس، بينما الإنهيار الأخلاقي الحقيقي ما نعيشه نحن، ويخترق كل المجالات السياسية والإدارية والعلاقات الإنسانية والأماكن العمومية. صحيح أن الغرب وصل إلى درجة من المادية اختفت معها الروح الإنسانية، لكن الجانب الروحي يمكن ملأه بطرق متعددة ليس الدين سوى أحدها، هنا يأتي دور الفن والأدب والموسيقى والرسم. وفي الحقيقة الفراغ الروحي اليوم لا ينحصر في بقعة عن سواها في هذا العالم الذي يزحف نحو نهايته.
10- قلبك معلق بالصحراء. أنت ابن الصحراء وتعيش فيها. أتذكر أنك صرحت في أحد حواراتك أن الكتابة عن الصحراء قليلة. ربما لم يكتب عن الصحراء بغزارة سوى الكاتب الليبي إبراهيم الكوني. يصرح هذا الكاتب أن الصحراء هي أم النبوءات، ويعتبرها هي الأسبق في الوجود، وهي كل شيء، ومن خلالها يعيش الإنسان. حسب نظرك لماذا لا يوجد اهتمام بعالم الصحراء رغم أنها عالم ملهم ؟
– التقيت ابراهيم الكوني مرتين، الأولى في مدينة أكادير على هامش ندوة دولية حول الرواية والصحراء، وجمعنا حديث ودي، والثانية في المعرض الدولي للكتاب في مدينة الرباط، حيث استمعت إلى تجربته. أعتقد أن الكوني يشكل حالة متفردة في الكتابة عن الصحراء، تختلف عن عبد الرحمان منيف وصبري موسى. الكوني استطاع أن يبني صرحا روائيا كاملا توحده تيمة الصحراء رغم كونه لم يعش إلا طفولته فيها، بعد ذلك استقر في أوروبا متنقلا بين روسيا وبولندا وسويسرا، لكن عالم الصحراء لم يغادره. أعتقد أن عدم الاهتمام بعالم الصحراء هو كون أن الرواية بالأساس هي ابنة المدينة كما رأى هيغل وتلميذه لوكاتش، والروائي الذي يود الكتابة عن الصحراء بصدق لا بد أن يمر من تجربة العيش في الصحراء، وهذا الأمر صعب اليوم في ظل الزحف المديني، واستقرار الرحل. حتى في الصحراء التي أنتمي إليها وولدت فيها فهي ليست صحراء بمعنى كلمة صحراء، نحن هنا نعيش داخل مدن فيها أغلب أشكال التمدن، لذلك حتى الروايات التي كتبت في هذا المجال لم تتخذ من الصحراء فضاء روائيا لها إلا في ما ندر، هناك روايتي الحب الآتي من الشرق التي تدور أحداثها في بيئة صحراوية زمن الاحتراب، وعناوين أخرى قليلة جدا تدور في هذا الفلك، أما الباقي فكلها تدور في المدينة، خاصة مدينة العيون ومدينة الطنطان ومدينة كلميم. وهذه لا تدخل ضمن نطاق أدب الصحراء بمفهومه العام الذي يرتكز على فضاء الصحراء وجوبا، وأيضا على الكرامات والأساطير، والمرويات القبلية، وشعرية اللغة.