لم يكن حلما مزعجا ،
أو ، مناما ،
مارآه (( الراوي )) في رواية صرخة البطريق لحمزة الحسن : دبابتين أمريكيتين فوق جسر الجمهورية .
بل هي :
نهوض حتمي ونهاية متوقعة لسلسلة من أدوار التخريب والتدمير التي مورست على هذه الأرض منذ عشرات السنين ، وتحديدا منذ مايزيد على 50عاما الأخيرة من الحركات الحزبية والأنقلابات المتعاقبة وظهور التناقضات والأيدلوجيات المتصارعة .
وهي نتيجة حتمية لحالة النفي والأقصاء والتهميش والتركيع التي مورست بالسر والعلن ، بالعنف أو بالأساليب الناعمة .
وهي أيضا نتيجة ل (( أخطاؤنا التي مجدناها ورعيناها وفلسفناها كل هذه القرون والحقب والسنوات وحتى اليوم – من / رسالة منتصف الليل / )) . فقد تربصت بنا الأمجاد الزائفة ، وقادنا تأريخ مزيف من التلميع والبطولة والمفاخرة والحماسة الى منزلقات ومهاوي الجهل وسراديب من العتمة ، صرنا نفلسفها أو توفر من يفلسفها ويلقمنا اياها ، وجرتنا يمينا وشمالا وصرنا منظرين لها بقدر وبآخر ، وهي ليست الا سراديب من العتمة ، تحول فيها انساننا أما الى : الأنقياد والتنعم بالخنوع ، أو الذهاب بأتجاه حالة من الأنعدام والتشرذم .
غير ان (( خلف هذا السكون يربض ثعبان ضخم سيلتهم اكثر من جيل حتى قدوم البرابرة الذين لم يكونوا حلا – / صرخة البطريق / )) . وهنا اؤكد على عبارة (( الذين لم يكونوا حلا )) ، فحين تصورنا في غفلة من الزمن ان – قدوم البرابرة – والأحتلال هو الحل ، هذه اللعبة القذرة التي مارستها أطراف مؤثرة والتي تناغمت مع حالة التشرذم والخنوع والأنقياد التي أوصلونا اليها ومع أحلام الغوريلا والغايات المنشودة من ذلك الثعبان الضخم الذي تربى وكبر وتمدد خلف ظهورنا وبين زوايا حياتنا وظهر أحيانا من تحت أسرة نومنا ، حين تحولت نتائج كل تلك التحزبات والاحترابات والأيدلوجيات الى طريقها نحو التنكيل بأنسانية أجيالنا و (( تحويل الأنسان الى حشرة / من رسالة منتصف الليل/ )) .
وأعود مجددا الى حمزة الحسن في روايته (( صرخة البطريق )) .
لماذا حمزة الحسن مرة أخرى ؟ .
ببساطة ، لأني أبحث عن الكلمة التي أشعر بها وتشعر بي من جهتها ، أجد فيها رائحة التراب والندى والشجر وتأخذ بأصبعي لأجس مواضع العفن والتفسخ . أسمع فيها صوتي وسعال رئتي المملوء بالدخان والغايات ، وارى فيها عيون العراق في كل حالاته ، أحملها وتحملني .
فأنا لاأبحث ولاأقلب كتب الهذيان وأدب الهذر والكلام المسطح التي تسممنا بها يوميا دور النشر التجارية . ولاأجد متعة وطواعية واستجابة في أدب الألواح الخشبية الجامدة التي لاتتمايل معي حروفه ولاأتمايل معها .
ولأجله وجدتني كتابات حمزة الحسن ، فصرت أرصف حروفي الى جوارها ، لعل الحرف يجد الحرف فينتجان (( كلمة انسان )) .
صرخة البطريق ، هذا الرمز الذي اتخذه حمزة الحسن ، وهو يشعر بالرعشة ويصرخ حين وجد ان العاصفة قادمة ، والغوريلا في طريقها الى بغداد ، والثعبان الضخم نهض من بين ظهورنا . فكانت – رسالة منتصف الليل قبل الحرب بساعات – التي اطلقها الكاتب والتي حولها فيما بعد الى رواية (( صرخة البطريق )) .
فكان خان الصيراوي جزءا ورمزا لبلد كبير ، اجتمع فيه كثير من الشخوص التي تخفي وراء ظهرها صورا متفرقة من التشتت والضياع ، أو ماضيا مخفيا من الأفعال التي تتصارع في وسطها بين الأمس واليوم .
وبقدر مايكون هذا الخان هو (( خان للمشردين وعابري السبيل الأغراب والغرباء في وطنهم – / رسالة البطريق / )) ، بقدر ماهو على تماس وتلاقي ومؤشر لواقع حال محلة (( الصيراوي )) . وبقدر مايكون السيد الصيراوي صاحب الخان هو الوجيه والمتنفذ وصاحب الكلمة المسموعة في المحلة فهو بعمره في الخان والأحداث التي يطلع عليها ، المباح الحديث عنها وغير المباح ، فأنه حالة من الحالات البارزة لأغراض التشخيص والأنارة التي يريد الكاتب تسليط الضوء عليها ، اسوة بشخوص الخان الأخرين : حميد السائس المضطرب بمسافدة الخيول والحمير والذي ينطلق في مديات حياته من هذا المنظور والذي ينحرف بمفهوم العشق والهوى ويضيع وسط لهوه في هذه المتاهة بين غلام ما وبين كرجية وتكون المتاهة قد اخذت منه الكثير ويفشل بمحاولة الاستقرار والركون وتصبح حتى صفية التي عافها الموت بعيدة المنال عليه . ومصطفى الترك الجندي العثماني الذي تخلف عن الأنسحاب مع الجيش العثماني وعاش يعمل كسائق في محلة الصيراوي منذ عشرينيات القرن الماضي والذي مكنته مهنته من الأطلاع على الكثير من الحكاوي والأسرارعن المحلة وأهلها ووجهاء قومها وصراعاتهم ، والذي تنازعه لوعة العودة الى بلده التي لم يقدم عليها . وكورجية بأسمها المستعارالتي يملأ عطرها خان الصيراوي والمضطربة بين ماض مخيف يطاردها على اثر جريمة قتل لم ترتكبها بحق عشيق لها أصبح والده مسؤولا حزبيا كبيرا وبين حاضر ممزق حتى تقع ضحية سهلة لألاعيب وجلاوزة النظام الذين يجندونها لأهدافهم . ومنشي شالوم اليهودي اشهر نزاح في البلدة . وعزيز صباغ الأحذية . ثم موسى العطار الراوي لتاريخ نشوء بغداد وحضارتها .
فعالم الخان مليء بالشخوص والحكاوي التي تشخص لحالة التيه والضياع والفقد المستمر .
ومن ناحية اخرى في مكان آخر من محلة الصيراوي نجد عالم صفية التي تنهض بعد دهر وغياب طويل من تحت كومة التبن والتي نمت وترعرعت في الزريبة وسط عالم الحيوانات والعجول حتى صارت اقرب اليهم ، وصفية استقرت في هذه الزريبة بعد ان جاءت من مكان مجهول ولاتمتلك شيئا من الدنيا سوى ذلك السخام والسواد المتكدس على بشرتها وحين نهضت واستحمت واكتشفت انها تمتلك شيئا ، ظفيرة وجسد ، وان ذاكرتها قد عادت اليها وانها ستقول اشياء مصممة على قولها ، صفية الناهضة بعد صمت طويل في اشارة من الكاتب الى نهوض مشوه يأتي بعد دهر وصمت طويل وسط كومة تبن وزريبة ليس فيها غير لغة العجول ، حين نهضت صفية بعد هذا الدهر كانت الشفرة تلتمع مع الشمس والختان على يد الطرشان وحسب وصية السيد الصيراوي ورغبته بانتظارها .
ويوسف الذي يؤرقه ويهز وجدانه ذنب جريمة قتل اقترفها حين كان السراي الحكومي ضعيفا ، وصار وجه المقتول يعذبه وينغص عليه حياته وكأن (( الرصاصات التي اطلقها على عدوه انما اطلقها على الأيام القادمة – / صرخة البطريق / )) ، لتبقى جريمته تعاقر وجدانه في كل حياته القادمة ، حتى تكونت عشرة بينه وبين جريمته التي يملأ ظلها عليه بعض تصرفاته فيطيعها مستجيبا للتكفير عن ذنبه . وهذه التفاتة موفقة للكاتب في تسليط الضوء والأشارة الى القتل الذي يؤرق الوجدان ويقض المضاجع والذي أصبح يتكرر فيما بعد في محلة الصيراوي ( الرمز ) وبأشكال مختلفة وبطرق اكثر بشاعة دون ان يهتز ضمير لأحد ، فضمير يوسف الذي يؤرقه ويقض مضجعه القتل المحرم ، هو ذاته الضمير الذي كان لدى اللصوص ذوي المرجعية الأخلاقية الذين كانوا أيام زمان .
وينتقل حمزة الحسن بنقلات سهلة ولغة سلسة الى اضاءات وتنقلات جانبية على نفس القاسم المشترك للموضوع لغرض اضاءة الفكرة وتنويرها على مزيد من الأرهاصات والأوليات المؤدية للوجع ، مزيد من وجوه وسلوكيات القمع وسلوكياتنا القمعية التي نمارس بعضها نحن ونأخذ دور الجلاد . فنجد الفتاة الضحية التي تعترف تحت التعذيب بذنب لم تقترفه على رجل بريء لكي تنجو من الموت ولكنها لاتنجو وتساهم في عملية التخلص من جسدها . والمناضل سالم الدفار الذي يطارده الأنكليز ويتم اعدامه حين تم اعتقاله على ضوء وشاية احد ما .
ويتوسع الكاتب اكثر واعمق في اوليات هذا الوجع الطويل ، فبعد ان كانت البلدة بخير والجميع يتشارك كل شيء :
(( قال الصيراوي – قبل ليلة من مقتل الملك غازي حلمت بطائر أسود يحط فوق غرفة حميد السائس – / صرخة البطريق / ))
(( الملك غازي قتله الأنكليز في حادث سيارة مدبر – / صرخة البطريق / ))
(( حدث الأمر نفسه ليلة مقتل الزعيم قاسم 9 شباط 1963 – / صرخة البطريق / ))
(( منذ تلك السنوات تواصلت زيارات الطائر الأسود ولم تنقطع حتى بعد الأنقلاب الأخير ونشوب الحرب مع ايران – / صرخة البطريق / ))
(( لم يعد القمر يشرق على غابات فاتنة بل على شقق حجرية ترى من ضفة النهر الأخرى غارقة في السر والضوء والعزلة والأبراج – / صرخة البطريق / )) .
وينتقل الكاتب في اضاءاته بين تسلسل الرواية الى وقائع فرعية وجانبية في اشارات لتعزيز وجهة نظره (( نهايات قاسية لمصائر جميع سكان خان الصيراوي – / صرخة البطريق / )) –ذبح رزوقي زوجته ورماها في البئر – مات حائك السجاد – مات العطار – مقبرة الأطفال – نهر الجثث الطافية – تغير المكان والزمان والشخوص حيث الطرق الجديدة والأماكن الجديدة وتغير المكان القديم ولم يعد خان الصيراوي هو مكان الأقامة وتغير الزمان – أراضي مهجورة لهروب أصحابها من مطاردة السلطة – قدوم جنازات جديدة قادمة من الحدود الشرقية – صوت قرآن – غرق الناس في أحزان متواصلة – جيل ولد عانى السجن والنفي والحرب والكوابيس .
ويسلط الكاتب الضوء الكثيف على وجهة النظر التي أراد الوصول اليها (( من سيوقف هذا الجيش المندفع والزاحف من كل مكان نحو العاصمة العريقة عام 2003 – / صرخة البطريق / )) .
وبعد ، فأن اللغة المنسابة الطرية والعبارات التي تتمتع بأيحاء رائع هي مايميز لغة حمزة الحسن . والتسلسل في السرد لديه كان جميلا وهو ينبثق في هذه الرواية من نقطة واحدة (( رجل جالس خلف النافذة )) ويتشعب في تسلسله والتقاط صوره السردية التي مكنته من ايضاح وجهة نظره بطريقة رصينة .
ولعل بعض التشعبات والأنتقالات في الأحداث فقدت تسلسلها وبعض الأنتقالات اقتربت من التقريرية . وقلت (( بعض )) مما لايفقد الرواية نكهتها وطعمها وهدفها .
لقد أجاد حمزة الحسن في رواية صرخة البطريق وقدم لنا مرثية أخرى عن أوليات الوجع العراقي وأجاد في تسليط الضوء على رعشة ذلك البطريق الذي لازال يصرخ منذرا بالعاصفة والذي لم نسمعه في الوقت المطلوب .
كريم عبدالله هاشم
E-MAIL : kareem_pen@yahoo.com
—