(قصّة عـــــــــــدد 16)
العمّ خليفة رجل عصاميّ. انقطاعه عن الدّراسة وامتهانه البناء لم يمنعاه من التّعلّم والبحث عن الحقيقة. ذات يوم ركبت معه سيّارته من نوع كات كات باشي ليريني إبداعاته في أحد المنازل التي شيّد حديثا. السيّارة التي عمرها من عمري تقريبا أو تكبرني بسنة ونيف، كلّ ما فيها يتحرك ويحدث صوتا، تزمجر كأنّها مزنجرة عسكريّة أو كاسحة ألغام. حين دخلنا القرية الضّيقة أحياؤها، أصبحنا سادة الطّريق لأنّ أصحاب السيارات التي أغلبها شعبيّة كانوا يتفادون أي محاولة اقتراب من الآلة العجيبة التي نركب. فهذا يلتصق بيمينه ويتركنا نمرّ والآخر يغيّر الطريق تماما خوفا من أن يقبّله جنب السيّارة المصفّحة فيكون نصف راتبه من نصيب ذلك الدّكان الذّي كتب عليه: طولة ودهينة السيّارات، خصوصا وأنّ العمّ خليفة يتحدّث ويده اليسرى مشرعة من النّافذة ولا ينظر إلى المرآة العاكسة كأنّ الطّريق قد شُقّ في حديقة منزله.
بعد أن زرنا المنزل وأبديت له إعجابي بلمساته الفنّية، استدعاني على فنجان قهوة في إحدى المقاهي لنتحدّث عن إمكانيّة صفقة بناء أخرى. حين أدار مفتاح السّيارة ليسكت المحرّك تخضخض كلّ ما فيها فظننت أنّ أحدهم قد فخّخها بما طاب من الدّيناميت وأنّها ستنفجر بعد لحظات. جلسنا في المقهى فإذا بالجميع يلقون السلام على صاحبي. التفت صوبي مبتسما في إشارة منه بأنّي صحبة عَلَم على رأسه نار.
قال لي يومها: ” هل أنّ أمّك حيّة؟ قلت: “نعم أطال الله عمرها”. قال: “إذن أنت تملك دبّابة بإمكانك أن تخوض بها كلّ الحروب فتربحها”.
قلت: “هل تقصد سيّارتك؟”. قال: “لا يا ولدي، ألا تعلم أنّ دعاء الأمّ سلاحٌ لا يضاهيه سلاح؟”. ثم حكى لي قصّة أحد أبناء قريته كيف كان فقيرا بارّا بأمّه التي أسكنها معه بعد زواجه وكان كلّ صباح قبل أن يذهب إلى عمله يقبّل رأسها ويعطيها دينارا ويطلب منها أن تدعو له إلى أن جاء اليوم الذّي وجد فيه كنزا فأصبح من الأثرياء، ثمّ نادى النادل، الذي هو رجل من نفس سنّه تقريبا، وقال له: “قلّو يا حمّادي على ولد فطيمة كيفاش ولّى غني”. نظر إليّ النادل ثمّ تنهّد وقال: “صحيح، لقد كان فقيرا، المسكين، لكنه وجد كنزا واليوم هو من أعيان البلاد”.
شكرت صاحبي على نصيحته ثمّ سألته عن أحوال العرب قبل الثورة وبعدها، فسوّى جلسته واستدار ثمّ أشعل سيجارة الكريستال، ارتشف القهوة وقال:
“هَب أنّك ركبت حافلةً سائقها جبّارٌ في السّياقة لا يشقّ له غبار، يوصلك ومن معك بأمان، وفي وقت قياسيّ، كلاّ إلى البلد الذّي يقصد، لكنّه يجعل من سفرتكم جحيما تكرهون بعده السّفر وتكفرون بالتّرحال. فهو سيّء الخلق: إن قلت له صباح الخير لا يردّ وإن أعدت انفجر في وجهك كالعبوة النّاسفة. أمّا إن قال له أحد الرّكاب إنّك تسرع أو أنّك تؤذينا بالسّجائر التي تدخّن، فإنّه يتّجه به إلى أقرب مركز شرطة ويتهمه بالتّهجّم عليه أثناء أداء وظيفته فيمتثل له صاحب الشرطة، لأنّه يغدق عليه، ويأمر أعوانه فيجعلوا من يوم ذلك المشتكي يوما من أيّام زمرا يطلّق بعده الشكوى ثلاثا لا رجعة فيهنّ. هذا السّائق يفصّل المحطات حسب مزاجه، يقف في هذه ولا يقف في تلك، ثمّ إيّاك أن تقول له لماذا. إذا نزل ليشرب قهوة في الطّريق لا يترك الرّكّاب ينزلون ويقفل عليهم الحافلة تاركا إيّاهم يطلّون بأعينهم من النّوافذ كالخرفان التي تقاد إلى سوق الغنم ثمّ يصعد ومعه قرطاس لحم مشويّ يأكله وهو يسوق والأنوف من حوله تشمّ في صمت والقلوب تدعو عليه بالجوع السرمديّ.
وهب معي الآن أنّك لم تركب معه وركبت حافلة أخرى، سائقها يسلّم عليك قبل أن تفعل، لا يدخّن ويمتع ركّابه بأغاني فيروز وإذا رأى عجوزا تقف على حافّة الطّريق توقّف وأركبها، لكنّه لا يصل بكم إلى وجهتكم إلاّ بعد أن ينزل قلوبكم إلى الرُّكَبِ سبعين مرّة، بل قد لا يوصلكم البتّة.”
قلت: “ولكن لماذا؟”.
قال: “لأنّه لا يجيد السّياقة، نظره ضعيف وركبتاه ترتعشان ممّا يجعله يرتكب من الحوادث ما يجعلكم تندمون على فكرة السّفر ويخرج عن الطّريق تارة فتضع كلّ ذات حمل حملها ثمّ يعود إليه طورا فيخرج كلّ من تغدّى غداءه ويكثر رشّ الماء على الوجوه وعصر الليمون لإسعاف من أغمي عليه. أمّا إذا اعترضته شاحنة فإنّ الأعين تُغمض ويتذكّر كلّ مذنب ذنوبه فتنطلق الألسن بترديد الشّهادتين والمعوذتين وآيات الكرسي، كلّ على قدر حفظه. هل تستمع إليّ؟”
قلت: “نعم، وبكلّ تركيز.”، قلت ذلك وجسمي يهتزّ ضحكا، أمّا هو فكان جادّا مندفعا في الحديث كالخطيب النّحرير، ثمّ وضع يده على ذقنه وأمال رأسه قليلا وقال: “قلّي إذن، من تختار من السائقين لتركب معه؟”
قلت: “بصراحة، لا هذا ولا ذاك.”
قال: ذاك هو حال دولنا العربيّة، هل فهمت ما يريد أن يقوله عمّك خليفة الآن؟
قلت له: “ولكن، ألا يوجد في نظريّتك هذه سائقٌ خَلوقٌ، يجيد فنّ السّياقة ولا يدخّن؟”
عندها قال بصوت جلب انتباه جماعة المقهى: “ما ثمّـــــــــــــــــاش ، ومنين يا حسرة؟، راني نحدّث فيك بالواقع، افهمني.”
علمت ساعتها، من نبرة صوته ومن عروق رقبته التّي كادت تبرز إلينا على الطّاولة، أنّه واثق من نظريّته جيّدا وأنّها ليست وليدة ارتجال، إذ كنّا للتّوّ في أجواء الرّحلات على متن صديقتنا القابعة خارج المقهى، بل لطالما أخضعها إلى التّجربة والتّأمّل. لم أناقشه في الأمر بعد ذلك وغيّرت الموضوع فإذا به ينطلق بسلاسة في الحديث عن حديقته والأشجار المثمرة التي تزيّنها وهدأت عروق رقبته حتّى كادت تختفي.
حين ذهب إلى الحمّام فكّرت في نظريّته مليّا وعرضت من قادونا على التّشريح فاكتشفت فعلا أنّهم لسوء الحظّ، وعبر عقود من الزّمن، قد انتموا إلى زمرة عناصرها سائقان أفضلهما سيّء وأنّ السّائق الذّي سألته عنه، والذّي لا وجود له في تصنيفه، هو بالفعل غير موجود أو أنّه لم يستلم السّياقة بعد، أو أقصي عنها عمدا وظلّ إلى جانب الرّكاب يعيش معهم تجربة الجحيم أحيانا وتجربة الموت أحيانا أخرى.
ونحن في طريق العودة ظننت لبضع لحظات أنّ العمّ خليفة يعتقد أنّه هو السّائق المنتظر، لكنّ سيجارته التي لا تغادر شفتيه ويده التي يمدّها طويلة من النافذة وعدم اعترافه بالأضواء، كلّ ذلك جعلني أعدل عن تخميني وأكتفي بالاستمتاع بمشهد السيّارات الشّعبيّة، وهي تبتعد عن آلتنا البيضاء المزمجرة، كأنّها «حُمرٌ مستنفرة فرّت من قَسوَرَة».
—-