إشارة تنويهية : قد يلتبس على البعض أنني اعني بالجانب التوظيفي هو غير ما نوه عنه علم النفس الوظيفي في المدرسة التي ترى أن السيكلوجيا يجب أن تتم بما تقوم به عمليات الحياة النفسية وان لا تقصر اهتمامها على البناءات الشعورية مثل الإحساسات والصور والمشاعر على حد قول النظرية البنائية ..
وهي تختلف ايضا عن مفهوم الذهان الوظيفي و(المعروف لديكم) على انه اضطراب نفسي يصاغ أساسا بمصطلحات سلوكية دون الإشارة إلى العوامل البنائية او الفيزيولوجية .
و مفهوم الاستقلال الوظيفي والذي يعني ميل العادات إلى الاستمرار والبقاء بالرغم من زوال الحافز الذي مهد لاكتسابها .. وهو ايضا يختلف عن قوة العادة .
أحاول هنا أن القي بعض الضوء على توظيف الرمز بالنسبة للقاص الراحل كاظم الأحمدي والذي لم أجد إلى حد الآن إشارة شافية لمنجزه القصصي باستثناء بعض التنويهات القصيرة التي أكدت دوره في مجال التوظيف العام للسرد العراقي ومن هذه الإشارات شهادة قدمها القاص محمد خضير الذي سبق النقاد بجعل الأحمدي احد أهم مجددي القصة العراقية .. علما أنني لم أجد دراسات نقدية مستقلة بقص ومنجز الراحل مما اضطرني لأن أقوم بمسح سريع لما يستند على منهج نقدي بعد حاولت من خلاله رصد الجانب التوظيفي الرمزي مما أكد لي أن الراحل كان يعيش عزلتين الأولى عزلة اجتماعية أيدني فيها قبل أيام بعض المقربين من الراحل والثانية عزلة سياسية حيث انصبت كل النقود السردية على إبراز دور أدب الحرب او ما عرف بأدب قادسية صدام والذي افرز للمكتبة القصصية العراقية أكداسا من الأعمال السردية التي شجعت بعض النقاد على رصدها من باب غائي وسلطوي معروف .
من خلال وقوفي على ثلاث قصص للراحل كاظم الأحمدي وجدت ومن خلال تصديراته السردية انه استخدم التوظيف كسمة أساسية التصقت في جل طروحاته السردية لاسيما في مجموعته القصصية غناء الفواخت وهموم شجرة البمبر وطائر الخليج .
وقد تحدد هذا التوظيف في جوانب حددتها هي :
· توظيف التراث
· توظيف الرمز
يقول السياب ( وكأني هنا انتقل إلى توظيف التراث مع الشعر ) يقول في حوار أجراه معه كاظم خليفة نشر بعضه في صحيفة (صوت الجماهير ) البغدادية في العدد الثاني 26/10/1963 : ( إن الكتب التي تبحث عن الأساطير الإغريقية بصورة خاصة هي أكثر من الكتب التي تبحث عن الأساطير العربية وأنني لا أعرف إلا كتابا واحدا عن الأسطورة عند العرب للأستاذ محمد الحوت ولا تتعدى المعلومات التي فيه ما درسته في الابتدائية والثانوية إلا قليلا جدا ) . وهو الذي وظف التراث بقوة في شعره يستدرك في موقع آخر قوله ايضا : ( أنا لست متمردا على تراثنا العظيم ، وإنما هدفت إلى استغلال إمكانيات ذلك التراث لإضافة أشياء جديدة إليه ، إن كان بالمستطاع واعتقد أن الشيء الذي قمت به لم يكن إلا استغلالا لإمكانيات الوزن العربي ) .
وبما أن بدرا قد عاش في بيئة شعبية ذات صلة بالتراث الشعبي بطبيعتها وفي ملامح تكوينها غير الانتية ( النزعة المضادة للعفوية ) ( فقد فاق في توظيفه من عاصره في توظيف التراث الشعبي من أمثال حسين مردان وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وغيرهم فجاءت كلمات : بين احتقار وانتهار وازورار ..او خطية ..والموت أهون من (خطية) –غريب على الخليج- وكذلك : يتماوج البلم النحيل بنا ، فتنتثر النجوم .. من رفة المجداف كالأسماك تغطس او تعوم – من ليالي السهاد – و ابي كيف تخليني وحدي بلا حارس –رسالة – وغيرها في المومس العمياء ومدينة السندباد وكلمات أخرى : يا مطرا يا حلبي / فمن لقلبي كي ينيمه / كان نقر الدرابك ضد الأصيل / نقر الدرابك من بعيد ..يتهامس السعف الثقيل /شيخ اسمه الله ترللا …. ترللأ عرس حمادي .. والنقش صناعة بغداد وغيرها قي توظيف الرخ وبيضة الرخ وسفن السندباد وغيرها .
ولا بد لنا أن نلفت إلى أن رأي شاعرنا الكبير السياب ليس قطعا وحكرا على مساحة الرأي هذا إذا عرفنا أولا أن الرمز كان واضحا بالنسبة للتراث العربي ولقد لمسناه في ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ورسائل إخوان الصفا ورسائل الطير وعطارنامة ورسالة الغفران والزوابع والتوابع ومقامات الهمذاني وحي بن يقظان وكتب المتصوفة ومؤلفات جبران ومصطفى صادق الرافعي ومسرحيات توفيق الحكيم وغيرها مما لاتسع له السطور …. وثانيا لا بد لنا من القول إن كل الدراسات النقدية الحديثة التي عنيت بالرمز كان إصدارها بعد وفاة شاعرنا الكبير
توظيف التراث لدى الأحمدي
بداية إذا كان التراث مرتكزا للقصة ، فإن القصة هنا تقف في مواجهة الواقع عبر ارتباط جدلي ، يطل فيه القاص من مركز رؤيته المعاصرة ، أي تشكل هذه النقطة المركزية شبكة موصلة ومتأصلة بجدل الواقع الإنساني المتنامي . أما إذا كانت القصة مرتكزا للتراث ، فالقصة هنا تواجه الماضي ولا تواجه الواقع عبر مناخ زمني ، يطل فيه القاص من مركز رؤية ماضوية ،وبالتالي تشكل هذه الرؤية التسجيلية صورة منسوخة إذا لم نقل ممسوخة على الماضي الذي يعتاش عليه القاص .
ومن الطبيعي جدا أن تختلف أساليب تعامل القاص العراقي مع التراث الشعبي تبعا لاختلاف ظروف هذا التأثر وتعدد أطره ، فعالم التراث يتيح للقاص أن يتأثر بألوان شتى من جوانب التراث المتعددة ، كما أن طريقة استعانت الكاتب بالتراث – واختيار لونا معينا منه بالذات دون الآخر- تعكس بالضرورة موقف الكاتب وموقف عصره من التراث الشعبي بصفة عامة . وبخاصة عندما يكون الكاتب على وعي بذوق عصره ، وبأن ما يكتبه سيكون مقبولا او مرفوضا وفقا لمعايير العصر الفكرية والفنية .
لذلك فان عملية التأثر بالتراث واستخدامه غالبا ما تتنافى وتتبلور في مرحلة معينة ، فنجد أعمالا متتالية متأثرة بالتراث ، او مستخدمة إياه استخداما فنيا ، مما يشكل اتجاها في القصة العراقية ، وقد تمر مرحلة زمنية طويلة دون رواية تراثية واحدة مما يؤكد دور المرحلة التي يكتب فيها القاص قصته .
هذه العوامل كلها والتي تتلخص في سعة توظيف التراث وتعدد ألوانه واصطباغ العمل التراثي بنظرة الكاتب الخاصة للتراث ،وطبيعة المرحلة التي يكتب فيها القاص قصته ، وبخاصة إذا ما كانت هذه المرحلة تعكس موقفا من التراث ، هذه العوامل نوعت منهج القاص في أخذه من التراث وجعلت مهمة حصر هذا المنهج وتحديده مهمة شاقة .
والتراث بالنسبة للقصة ليس معبدا يمارس فيه القاص الطقوس الأسطورية والرمزية والتاريخية بحرية غير محدودة ، وإنما هو عالم مضغوط مفتوح بأنماط مختلفة وقيم متباينة لشخوص وأحداث ماضوية وتاريخية ، منها ما تكون عقيمة او حية ، جامدة او متطورة . … وهنا حري بنا أن نعرف : من أين تبدأ نقطة الارتكاز في التعامل مع التراث ؟
أقول: إن التراث بالنسبة للقصة هو عالم مليء بالدهشة والانبهار المألوف والغريب ، الأسطورة والواقع ، الحياة والموت ، وهنا فالارتكاز ليس لذاته .. أي أن الارتكاز مشروط هنا بالانحياز لما هو حي ودينامي من التراث .. وبعبارة أخرى فالارتكاز في هذه الحالة محكوم بوعي وإدراك سابقين يتطلب من القاص : التفاؤل وليس التعاطف ، التمييز وليس الاندماج ، التفرد وليس الذوبان : في التعامل الجدلي مع التراث .
واحتكام القاص للتراث يعني : اختبار الواقع ، ثم تعميق دلالته ، وأخيرا بلورة حركته ، كضرورة منطقية تنموية محتمة تاريخيا ، وذلك لأن الماضي لا ينفصل عن الحاضر ، وكذلك الحاضر لا ينفصل عن المستقبل . فعملية الارتباط هنا : دينامية مستمرة ، لا يمكن افتراض الفواصل والحدود بينها ، وإنما هي حقيقة حية تمت وتنمو وتتطور بحكم التتابع الزمني او المتابعة الزمنية ، وهنا فالعملية المطلوبة (( عملية وعي دقيق للقاص في التعامل مع القيم الحية من التراث والماضي والتاريخ ، وهذه العملية لا شك أنها بحاجة إلى ذهنية حية قادرة فعلا على أغناء وتعميق الواقع الحاضر بالموروث الحسي والنفسي والاجتماعي من خلال حركة الجدل الإنساني – وبالتالي هي عملية إحياء ديناميكية بين حدث ملغي سابقا في ضوء حدث قائم بذاته المعاصرة ) هذا لكاتب لا اعرف اسمه نشر في مجلة التراث الشعبي العدد 6 /1977 .
من خلال ذلك نجد أن أشكال التوظيف القصصي للتراث مازالت تثير الكثير من الإشكالات التقنية والفكرية ، وإبراز هذه الإشكالات اتخاذ بعض القيم الأسطورية او الحكائية او التاريخية الموروثة ، أشكالا غامضة او غير هادفة او ليس لها علاقة بالواقع القائم من ناحية . ومن ناحية أخرى اتخاذ البعض من هذه القيم أقنعة تاريخية او صورا إيحائية كأن تكون تفسيرا او تعبيرا عن ظاهرة من ظواهر الواقع . وبين هذه الناحية او تلك ثمة هوة فاصلة في التعامل . فالقاص يتعامل مع تلك الأشكال الموروثة برؤية مشوشة او بوعي غير ناضج ، كأن يكون توظيف الأسطورة او الحكاية او التاريخ بالتضمين والاستعارة والتشبيه ، وكأن تكون عملية التوظيف ليست مسألة اشتباك جدلية في الخلق والإبداع والاستلهام . إن الأسطورة مثلا في مباحث العلوم المعاصرة لها جوانب وزوايا مختلفة ، فهي لدى ( يونغ) : ( تعبير عن صراعات اللاوعي البشري ) . اما سوريل
فقد عمد إلى مقارنتها بالآيديولوجيا واليوتوبيا واستعمل لفظة الأسطورة للدلالة على مكنونات الوعي الجماعي غير المرتكزة على واقع موضوعي، هذا إذا سلمنا أن الأسطورة هي تعبير حي عن أحلام الشعوب ورمزا لتطلعاتها لاسيما والأحلام هي علامة على واقع الإنسان ورمزا لما يراه في يقظته وصحوه .. ولكننا نجد أن فرويد قد وجد أن الصورة الأسطورية تشكل رموزا اوديبية ومثال ذلك أن الطوطم يرمز إلى صورة الأب . … ومعنى ذلك في تفسير آخر: إن الأسطورة كنظام سيميائي على حد زعم رولان بارت لها أكثر من بعد رمزي والسؤال المطروح هنا قبل توظيفها : هل استوعب القاص الأبعاد الرمزية للأسطورة كلغة واصفة وانعكاسية لهلمسيلف ؟ وكذلك بقية أشكال التوظيف القصصي للتراث .
يتفق الأحمدي مع القول الشائع الذي يقول إن التراث والفلكلور يختلفان عن بقية ألوان الثقافة في المجتمع الحديث من حيث إننا نجده يتألف من عناصر منقولة وليست مكتسبة بالتعلم ، فهناك تفاعل متبادل بين الخيال الشعبي والتراث الشعبي أولا وهناك من يراه ثقافة انتقلت مشافهة بشكل عام وهو ما عرف بالتراث الشعبي ثانيا والذي قرنه علماء الانثربولوجيا بالتقاليد والأعراف والطقوس الدينية والمأثورات والممارسات والمعتقدلت الخرافية على حد رأي اسبينوزا وبوتكين وهرزج الذين يجمعون في موضع آخر أنه الفلكلور هو او المعرفة الشعبية هو الرصيد المتراكم لما جربه النوع الإنساني وما تعلمه وما قام بممارسته عبر العصور في شكل معرفة شعبية وموروثة تمييزا لها عما يمكن ان يسمى بالمعرفة العلمية .
لذلك يحاول الأحمدي توظيف مجموعة من الحرف والعادات والطقوس والممارسات الشعبية ضمن عالم قصه مثل : صانع القرية /الحرفي/ الحداد/ النجار/ النقاش/ صانع السلال/ صانع الحصير / النساج والغزال/ القزاز / وكذلك في استخدام آلات مثل الفروند /الزمبر/الجفجير /الشص /البلد/ المحراث/الشادوف / العكفة/ الجمري/الطوش/الخلال/الحبابوك/ومفردات شعبية لها علاقة بالنخل تال /تكريب/تزبير/تفريد/ بيبان/نكيز/تاذوع/جلة /دمن/روف/جمارة/داير/دركال/روبة/شرموخ/عذك/مكلاص/فطامة/الجراديغ/مكلاص/ طواويش/وكذلك التشاؤم من الغراب والططواء ونواح اليمام وكل ما له علاقة بالجن والنذور والسحر وغيرها .
إضافة إلى توظيف المثل الشعبي والموال والأغنية الشعبية والتشبيه والفكاهة والخرافة والألفاظ الجنوبية القروية او الريفية وكل ماله علاقة بثقافته الأولى او الأساسية والتي يقول عنها (يونغ) ) الذي يتجه في تفسيره لهذه القضية بوجهة قدرية خاصة فهو يرى أن كل إنسان مزود بميول واتجاهات خاصة منذ ولادته وهي بالنسبة للفنان تكون الدافع الداخلي الذي عن طريقه يتجه إنسان ما إلى تنمية مواهبه بقدر ما تسمح به البيئة والمؤثرات الخارجية فلا يكفي أن توجد الاستعدادات في الشخص دون أن تتاح الفرصة لتنمية تلك الاستعدادات في الشخص دون أن تتاح الفرصة لتنمية تلك الاستعدادات ومساعدتها على التعبير عن ذاتها في صراحة ووضوح ومعنى هذا من ناحية أخرى أن الإنسان المبدع يتجه إلى الفن ويبذل فيه الكثير مما يؤدي إلى طغيان اتجاهاته الأخرى .
في مقالة للناقد ياسين النصير بعنوان القاص والواقع المملكة السوداء دراسة في فن محمد خضير القصصي ينقل رأيا لمحمد خضير يقول عن عالمه القصصي : ( انه عالم مبتكر ، عالم استثنائي ، وعلاقات جديدة غير نمطية ، ولمنح هذا الواقع اكبر قدر من العمق والخصوصية كان لا بد من عزل قطاعات واقعية من التكتل البشري في أمكنة معينة ذات أجواء خاصة ومعتنى بها ، يمكنها أن تخلق توازنا مع الواقع الخارجي ، إلا أنها ليست بديلا له ، بل كشفا وإدانة ونقدا ) .
التوظيف الرمزي
دائما ما يستخدم الرمز بوصفه وسيلة فنية لتحقيق غايات موضوعية وجمالية ونفسية تختلف تبعا لأهداف الاتجاهات الأدبية وفلسفات أصحابها وميولهم الشخصية .
وقد يتخذ الاستخدام الرمزي مظهر التعبير عن المجهول كما هي الحالة في المدرسة الرمزية والاتجاه الصوفي الذي اقترب من هذا المبدأ المتجلي في إطلاق كل من الأديب الصوفي العنان لنفسه للتعبير عن حالة الإلهام وتجلي الحقيقة كما تتبدى له في حالة النشوة . وربما كان استخدام الرمز مظهرا من مظاهر ضيق الفنان بجفاف واقعه وبلادة منطقه في محاولة منه لكسر ما هو مألوف في علاقات هذا الواقع الجامد وتحقيق عنصر الدهشة ببناء عالم من الفن مثالي ، يعلو على حدود العالم المعروفة على حد قول صالح هويدي .*
وقد عزا البعض انبثاق المدرسة الرمزية كمدرسة أدبية فنية إلى فرنسا على أيدي شعراء معروفين من أمثال بودلير ورامبو ومالرميه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نتيجة لظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة أسهمت بإنضاجها عدد من الفلسفات والعقائد والاتجاهات بدءا بنظرية المثل لدى أفلاطون ونظرية الوهم البوذي في المهابهارتا الهندية وبعض الديانات السماوية الأخرى ومرورا بفلسفة شوبنهاور وهيجل وجوته وسبنسر وكانت وانتهاء بإسهامات فرويد ولانجر ويونغ وادكار الن بو وفاجنر وأخيرا جان مورياس صاحب البيان الذي نشره في الفيغارو ومنح الرمزية الذي عرفت به فيما بعد .
ولا بد أن ننوه إلى أن جماعة معروفة في صالونات أوربا الأدبية في مطلع القرن المنصرم كانت تعيب الرمزية من خلال الشعر الرمزي الذي نعتوه بأنه مليء بالغموض الرامي إلى الإيحاء والذي يصل إلى التعمية وصولا بالشعر والأدب عامة إلى مصاف الموسيقى الواضحة برحابتها وشمولها . وهو ما عرف بخصومات مالرميه وجماعة تطلق على نفسها المعارضين للرمزية .
وبما أن الرمز يتجاوز أحيانا حدود اللحظة الآنية التي التصق بها مفهوم العلامة إلى الإيحاء الرحب غير المقيد بزمن وهو الذي اختصت به المدرسة الرمزية الأمريكية من قبل ( بلاكمور) حين حدد الرمز بأنه : ( رمز ليس بالنسبة إلى ما قيل وما قرر وإنما بالنسبة إلى لم يقل وما لم يكن قوله ، فهو لا يرمز إلى شيء معروف من قبل ، ولكن السيئ يوجده الكشف ويكاد ينكشف) .*
إن الرمز السليم للرمز الأدبي ينبغي أن يظل في حدود التأثير النفسي في المتلقي وخلق المتعة الجمالية عن طريق إشاعة جو من المعاني المضببة او غير المنكشفة تماما . والتي يتم الوصول إليها شيئا فشيئا عن طريق إعمال المخيلة وتقليب النظر حيث يعطي الشعر مزيدا من المتعة حين لا يفهم إلا فهما عاما او فهما ناقصا كما يرى كوليرج .
وهكذا يتثبت لنا وبما لا يقبل مجالا للشك او الدحض أن أي وسيلة سوى الرمز يمكن للإنسان التعبير فيها عن أفكاره الغامضة المضببة وأحاسيسه المعقدة وانطباعاته وانفعالاته المتناثرة وتحقيق لذة الاستكناه والاستنباط وتصدير المخيلة وإطلاق العنان للتعبير عن المشاعر غير الواضحة أحيانا والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه ، والتعبير عن افتقاد الواقع لعلاقته المنطقية وتحقيق وسيلة التفاهم المستحيلة دونما مواضعات واصطلاحات وعليه فقد بات الرمز لغة سهلة تخترق كل الحواجز والحجب دونما ان تمر بمحطة العقل .
وعليه فهناك نمط من التعبير يلجا فيه القاص إلى إنشاء وتأسيس عالم واقعي في مفرداته وشخصه وأحداث وإكساب هذا العالم غلالة رمزية ومستوى تعبيريا يشف عن الفكرة ويشير إلى المعاني الكامنة خلف القشرة الخارجية للعمل الأدبي مثلما فعل نجيب محفوظ في أولاد حارتنا والطريق والشحاذ وثرثرة فوق النيل والحرافيش واللص والكلاب والسمان والخريف وميرمار .
ونقول هنا : إن الرمز يعني تعبيرا عن الرؤية الوطنية في زمن القسر السلطوي التي تعتمده الحكومات الدكتاتورية والذي يشجع الكاتب على توظيفه وفق دلالات متفاوتة يحفز ويثير من خلالها جماعة معينة ممن يدرك أبعاد وأهداف ذلك الرمز .. وكإشارة (مسحية ) للقصاصين العراقيين الذين اعتمدوا الرمز في نتاجاتهم نوجز هنا أسماء قصاصين أثاروا عملية الرمز بأساليب غائية اعتمدت اتكائهم على ثيمات عديدة ومتنوعة من أمثال : القاص موسى كريدي في خطوات المسافر نحو الموت وموفق خضر في الق ما في يدك وعبد الإله عبد الرزاق في السفر داخل الأشياء وغانم الدباغ في سوناتا في ضوء القمر وعبد الستار ناصر في طائر الحقيقة وطيور السماء لفهد الاسدي والقربان لغائب طعمة فرمان وفي درجة 45 مئوي والمملكة السوداء لمحمد خضير والقلعة الخامسة لفاضل العزاوي ونزهة في شوارع مهجورة لأحمد خلف ورغوة الشتاء لمحمود عبد الوهاب والهشيم لجهاد حسين وزليخة البعد يقترب لجليل القيسي والجسور الزجاجية لبرهان الخطيب …الخ . وغيرهم من جماعة المشغل السردي في البصرة وحسب ما نوه عنه الصديق الناقد ثامر العساف في دراسته الرائعة عن المشغل والتي نشرت في كتاب خاص صدر عن مهرجان المربد الشعري وتناوله الشاعر علي الإمارة في دراسة نقدية تعزيزية أخرى .
في قصة هموم شجرة البمبر للقاص الراحل كاظم الأحمدي حاول أن يجعل من عناصر المشهد القصصي ولاسيما السمكة وآلة الصيد (الشص) معادلا رمزيا لحدث التحاق الشخصية القصصية بجبهة القتال ضد العدو الإسرائيلي عام 1973 … إذ يقدم لنا القاص عناصر المشهد الرامزة تلك ، من خلال مشهد اصطياد أبي المقاتل السمك بعد ذهاب الابن وتفكير الأب به ، واستحضاره تجربة مشاركته في الحرب عام 1948 وما أسفرت عنه تلك المشاركة من نتائج في غير صالح الأمة .
ولا يكشف لنا الأحمدي عن الدلالة الرمزية لمشهده القصصي بشكل مباشر او كامل وإنما نجده يعمد إلى البوح التدريجي بها وإضاءة جوانبها ، لتنتهي إلى نقطة بدت الفكرة قد تجلت في النهاية بكامل أبعادها .
يبدو ( إبراهيم ابو العيال) في المشهد الأول من القصة وهو يفكر بابنه المقاتل الذي تركه اليوم ، إذ يحس وهو في غمرة حواره الداخلي بحركة الفلينة وهي تحاصره باهتزازها غير المتوقع ، مما لم تبد معها الدلالة واضحة أول وهلة ، ويعقب هذه اللمسة القصصية التعبير عن رؤية الأب لصورة ابنه المقاتل على سطح النهر وتنهده لمرآها من الأعماق .
يتبع
وينتقل بنا القاص في حركة المشهد الثانية إلى حيث تبدو الفلينة وقد هدأت تماما ليخرجها فيما بعد واضعا فيها طعما جديدا ، ولكن ( إبراهيم ابو العيال) حين يرمي ب(شصه) إلى النهر هذه المرة يرى صورة ابنه محمد وقد انشطرت إلى نصفين على سطح الماء وقد تباعد نصفاها وهو مشهد يبدو فيه طرف المعادل الرمزي الممثل في (الشص) أكثر إيحاء واقرب إلى التكامل الدلالي .
وتبدو الحركة التالية للمشهد القصصي في شكل تذكر الأب لفكرة عدم تزويجه لابنه ولركوبه في هذه الساعة القطار الذي سيحمله إلى الحرب مع شيء غير قليل من الإحساس بالمرارة . ومع هذا الإحساس الجديد بالمرارة لدى الأب تبدو (الفلينة ) وهي تهتز ببطء أمام ناظريه في وقت بدا فيه لعينيه سرب من الأسماك الصغيرة وهي تسبح بمحاذاة حافة النهر ملتصقا بالحشائش الخضر .
إن هذا المشهد الآن لا يبدو أن له علاقة صميمية او واضحة بالتوظيف الدلالي للمشهد السابق يمكن أن يكون خطوة نحو تقديم الطرف الثاني من صورة المعادل الرمزي (السمك) ليصبح طرفا المعادل الرمزي ممثلين هذه المرة ب( الشص والسمكة) فضلا عما توحي به حركة السمك المعبر عنها بالالتصاق بالحشائش ومحاذاة الحافة من رغبة الأب في الإحساس ببعد الابن عن مكمن الخطر والتصاقه بأسباب السلامة والنجاة ولعل ما يجعل التغريب والترميز والفنتازيا لدى الأحمدي عوالم مستساغة غير كاموية او كافكوية او ساروتية وهي خاصة بعالم الأحمدي الأحادي : ( كانت الفلينة تهتز ببطء ، وكان ثمة سرب من الأسماك الصغيرة يأخذ حافة النهر ، ملتصقا بحشائش خضراء ومن حين لآخر كانت الأسماك تتقافز وتلتمع بطونها البيضاء ) .
وينتقل الأحمدي في بعض توظيفات إحداثه إلى ما يعرف بالتوظيف الشيئي او القصة الشيئية والتي تختلف من حيث طبيعة ومستوى التكنيك والمعالجة من قاص إلى آخر فلو نقارن قصته مع من عاصره من القصاصين مثلا نجد أن القصة لدى محمود عبد الوهاب هي آلة نفسية للأشياء ولدى محمد خضير حدث اجتماعي غريب للأشياء ولكنها عند الأحمدي رؤية ميتافيزيقية للأشياء .
وتبدو صورة محمد طافية أمام عيني الأب على سطح النهر ثانية مع اقتراب اشد من الدلالة هذه المرة ، إذ تبدو الفلينة المتحركة وقد أخذت مكانها فوق رأسه ، في وقت كان يتخيل الأب فيه ابنه وهو يحدثه مبتسما ، عن الحرب وفي غير ما خوف .
إن اختيار القاص لزاوية الصورة المتمثلة في استقرار الفلينة عند رأس الابن (المقاتل) دون غيرها من المواضع لم يأت بثالث كما نظن ، إن هذا الاختيار إنما أريد له الكشف عن تلك المخاوف التي تعشش في ذهن الأب وتسيطر على روحه كلما حاول الانشغال عنها بالصيد وطردها عن ذهنه ، وهو أسلوب فني أريد له أن يضيف لمسة جديدة على طريق تعميق هذا الإحساس الذي بدا مترددا في القصة على مرمى نظر القارئ : ( صورة محمد مرة أخرى ، قد عادت طافية على صفحة الماء ، لكن الفلينة المتحركة كانت تأخذ مكانها فوق رأسه ، كان يبتسم ، لا تخف يا أبي ، إن الحرب لا تخيفني ، أنت حدثتنا عن الحرب) .
ويرتبط مشهد رؤية الأب لعدد من الأسماك المتحلقة حول إحدى ثمار شجرة البمبر الساقطة في النهر بتذكره لصورة ابنه المقاتل في الحركة التالية للمشهد . لكن الدلالة الرمزية تبدو أكثر وضوحا حينما تثور في ذات الأب الرغبة في طرد الأسماك المعدودة المنفلتة عن الثمر والمتجهة صوب الفلينة ، وهو مشهد يكشف عن مشاعر خاصة لا تتفق والمشاعر المحايدة للصياد الباحث عن صيد بأيما وسيلة ، وبما يؤكد الدلالة الرمزية للصورة – المعادل في النهاية ، ولكن صورة المشهد الأخير تأتي هذه المرة بالحوار الداخلي لإبراهيم ابي العيال ، وذلك في أثناء تفكيره بابنه ومن خلال تفجير القاص لوعي الشخصية ، مما لم يبق معه مجال للتأويل فيما بعد .
(.. ولما حدق في صنارة الشص ، لاحظ أنها خالية من الطعم قال : إن سمكة ما قد أكلت الطعم ، يا محمد ، قال أبي ورأيتها أنا ، ليست الحرب لعبة أطفال ، إنها سمكة كبيرة ، إذا لم تأكلها ستأكلك ..) .
إن القاص الواعي بطريقة التوظيف الرمزي ، المدرك لما تنطوي عليه هذه الطريقة من مخاطر ، لا يذهب بعيدا نحو الكشف عن دلالات عالمه الموحية ولا يغامر بها ، ولكنه قد يجد من دواعي الشد والتشويق أن يقف بالقارئ على أعتاب الكشف ليمسك في آخر لحظة عن ذكر تلك الدلالة او الكشف الكامل عنها : ( ..أنها جاءت ، هذه الحرب ملعونة ، أتأكلك ، أتكون أنت ! وتوقف صوته كما لو كان خائفا من فكرة مخيفة ، محمد يموت في الحرب ، يا ولدي ! كان صوته يترسب كحجارة ألقيت في النهر ، أنها محض أبعاد لهموم مبتلة بالذكريات ) .
ولن نحتاج إلى عناء كبير لمعرفة الفكرة التي امسك الأب عن التعبير عنها ومنع نفسه عن استحضار الصورة الدلالية المشابهة لأبنه (أتكون أنت) ، بعد أن شهدنا محاولة القاص رسم صورة تعادلية فيما بين الابن (المقاتل) و(الطعم) ، فكأن الأب أراد آن يقول (أتكون أنت الطعم المأكول) . وتقف بنا القصة قبيل نهايتها عند اكتشاف الأب ، خلال مدة غياب ابنه الممتدة إلى اثني عشر يوما ، إن الآثار التي كان يخلفها في مكانه شخص ما يناوبه على جذع الشجرة كلما قدم إلى النهر لممارسة هوايته لم يعد لها اثر ، وان فتاة ما كان يراها في موعد محدد من كل يوم ويسمع بكاءها الذي كان يشعل فيه الرغبة في أخبارها بأنه سيظل ينتظر ابنه محمدا .
وتنتهي القصة من غير أن تكشف لنا شيئا عن مصير الابن (المقاتل) بوضوح ومباشرة ، إذ استبدلت بذلك الأسلوب أسلوب الصورة التعبيرية الموحية بالدلالة والمتسقة مع محاولات الترميز السابقة مؤكدة إحساسنا بها .
لقد انتهت القصة عند حدود التعبير عن حالة القلق والتهويش التي بدا الأب الذي ينتظر عودة ابنه المقاتل عليها منذ اثني عشر يوما قضاها لا يعرف شيئا عن مصيره ، ولا يسمع سوى أخبار الحرب التي تشغل تفكيره في سائر لياليه ، ولكن اللحظة التي نجد فيها (إبراهيم ابو العيال) وهو يعتزم الانقطاع عن التردد على شجرة البمبر في السطور الأخيرة من القصة ، نجدها تأتي متزامنة مع حدث الصورة الموحي بالدلالة الرمزية(النهائية) في محاولة للإيحاء بالفكرة النهائية التي ظلت مختفية بطريق الرمز المعبر : ( وحينما صمم على أن يأتي شجرة البمبر ، كان قطار الحمولة قد عاد خاليا ، ولكنه ظل يصفر إلى أن اختفى تماما) .
إن قطار الحمولة العائد هذا إنما يعيد إلى الأذهان تذكر الأب من قبل لقطار الحمولة الذي حمل ابنه (محمد) إلى جبهة القتال يوم التحاقه
وإذا كان قطار الحمولة الذي حمل محمدا إلى جبهة القتال هو نفسه الذي تبدى لعيني الأب في نهاية القصة ، فان عودة هذا القطار خاليا لم يكن ليخلوا من دلالة موحية أراد القاص التعبير عنها وإيصالها إلى القارئ .
ولعل مما يعمق من الإحساس بقصدية الدلالة وتضمنها للفكرة المراد التعبير عنها ، أن القطار قد بدا من خلال وعي الأب وإحساسه في صفير دائم متصل ، ليكون هذا الصوت الصاخب المتصل أشبه شيء بصوت النعي او النداء الضاج في ذات الأب والذي بلغ منتهاه في النهاية بعد أن اتخذ على مدى القصة أشكالا من القلق والتهويش المعبر عنها بوسائل الترميز الفنية السابقة .
على هذا النحو يكون الأحمدي قد عبر عن فكرة (الاستشهاد) من خلال الصورة التعبيرية التي اقتربت من معطيات اللوحة التشكيلية في عناصر إيحائها حركة ولونا ، وفي شكل من أشكال النمو الدلالي الذي تجنب فيه القاص كثيرا من المنزلقات التي يقع فيها عدد غير قليل ممن يعتمدون طريقة التوظيف الرمزي في التعبير عن مضامينهم القصصية ، فضمن لنا بذلك مستوى تعبيرا ناجحا .
ونجد استخدام الرمز بطريقة هي اقرب إلى إشراك القاري بفك ابهامات وطلاسم العقدة في استخدامات وتمريرات من مثل : (نوافذ البيوت موصدة ، الستائر مسدلة ، ولا احد خلفها يشغل نفسه بما يمكن أن يجري في الشارع ، وبالمناسبة ، فقد ظل صديقنا مرميا في هذا العراء حتى الصبح ، وعندما مرت به سيارة الأزبال نظفت ما حوله من أوساخ تاركة إياه في رقدته الهادئة ) . وفي مقابل سر الصبي القتيل ومجهولية الجاني حيث الشكوك تطال الجميع ، نجد الإحساس بالبراءة يبدو متكررا لدى الشخصية المحورية التي تود شأن أصدقائها الصبيان جلاء غموض الحدث ومعرفة الطائر . وحين يقر الصبيان الذهاب إلى مكان الجريمة في ليلة قمرية ، يحدوهم أمل في رؤية الطائر ، تتردد حكاية جدية فيما بينهم وهم مختفون وراء الأشجار اخبرهم بها احد الصبيان نقلا عن جده ومفادها أن القتلة وحدهم يمكنهم أن يروا الطائر لجدة في بصرهم كما يمكنهم الإمساك به وحدهم لبرودة في أيديهم ، مما يحول دون أن تتسبب حرارتها في ذوبان الثلج وتلاشي الطائر .
يتبع
اما في قصته (طائر الخليج) فانها تشكل خطوة متقدمة في كتابة القصة ذات الرؤية الرمزية الواقعية من حيث الرؤيا والمعالجة والموقف ، وعلى الرغم من الإغراق في التفاصيل غير الموحية واضطراب الزاوية النفسية في رصد ومراقبة أبطاله ، في استخدام الرمز بوعي فني متقدم ، فالطائر هنا – وسيلة وغاية وهدف-بحيث لا يتحول إلى قضية ويتمثل وجودها الواقعي رغم أنها قضية مرموزة .
إن علاقة ( كريم المرزوق) بالطائر – علاقة واقعية شديدة الارتباط بالواقع ولذلك فهي تعطي عدة دلالات رمزية رغم ضعف درجة علاقة (مسؤول المعبر بالطائر) – ) فجأة شعر المرزوق أن عينيه قد امتلأتا بجسم الطائر الذي كان حضوره المكثف وتفرده ، قد أيقظا في إحساسه شعورا مفاجئا ، بحالة لم يتعرف عليها مسؤول المعبر ، بسهولة ، غير أنها أثارت ذكريات المرزوق ، وكانت قبل برهة مخبأة في أعماقه) . وهنا يقول عباس عبد جاسم في كتابه ملامح القصة المعاصرة في العراق:(
ولكن الخلل الوحيد في هذه القصة المتفردة – يكمن في عدم قدرة القاص على إدارة المراقبة حتى النهاية من خلال شخوصه ومن الزاوية النفسية بالذات ، وبذلك لم يخلق ولو بدرجة أدنى التوازن بين شخصيتي ( المرزوق ومسؤول المعبر ) إزاء مراقبة الطائر ، حيث تتحول الشخصية الأخيرة إلى شخصية هامشية وكان بإمكان القاص أن يغني هذه الشخصية لأنها تغني بدورها الدلالة الواقعية أكثر ، إلا أن القاص أفرغها من محتواها السياسي على وجه الخصوص ( ثانية اندهش مسؤول المعبر ، إذ شاهد الطائر كما لو كان في ساحة معركة تدور رحاها على الماء ) .
ومن طرف آخر تبقى العلاقة بين مرزوق والطائر مشحونة بأنفاس متنامية بفعل هذه المراقبة النفسية ( وفجأة انبعث في داخله لأول مرة ، صوت هامس خفيف ، تسلل بصوت يشبه الصمت : انه وحيد ولكن سيستطيع أن يقود سرب الطيور ) .
هذه هي الإشارة الأولى إلى أن الطائر يرمز إلى قيادة سرب الطيور في الخليج ، وهي إشارة واضحة وليست بحاجة إلى تعليل او تحليل ، ولكن ( هناك فرق بين الرمز والأشارة فالإشارة مقيدة بمعنى رمزي . اما الرمز فهو إشارة إلى شيء غير محدد ويحتوي في تضميناته على معنى الإشارة ) .
لذلك فاستخدام الرمز في هذه القصة يتداخل مابين الإشارة كرمز ذي دلالة ، وبين الرمز كإشارة لمعنى رمزي ، وبذلك يشكل الطائر إشارة رمزية مركبة ، إضافة إلى أنها ترتبط بالتشبيه ( شبه الطائر برئيس البحارة ، فتذكر على الفور وقفة الرئيس أمام بحارته ، عند صدر السفينة يتأملهم واحدا واحدا ، ثم شرع يشرح لهم خط سير السفينة باتجاه الجنوب دائما ) .
وتبلغ علاقة المرزوق بالطائر إلى درجة التوحد باعتباره الأمل والقضية .( إنني أحس كما لو كنت أنا ذلك الطائر حتما سيصل بالسرب إلى الخليج .. انه يعرف طريقه جيدا ) .
إن مهارة الأحمدي في هذه القصة : انه تناول قضية معقدة بأسلوب بسيط ، وذلك من خلال استخدام الرمز في القصة كرؤيا للتعبير عن الواقع وليس أرضية تعبيرية للواقع …. كما أن الأحمدي هنا تناول بكثافة موحية حالة إنسانية آسرة تمر عبر تداعيات سايكلوجية مشحونة بهواجس ومعاناة وهموم داخلية غير عادية بين حضور الأب وغياب الابن الذي التحق بوحدته كمعادل موضوعي لتنمي وتصعيد حدثين متنامين بقوة الشعور من الداخل والخارج .
إن الراحل الأحمدي بقصته هذه أفصح على انه أكثر قدرة على تمثيل ظاهرة الحرب بتقنية متقدمة خلافا لبقية أقاصيصه المغرقة بالوصف والتفاصيل والأحداث التقليدية المستهلكة . فالقاص يقدم لنا أبطاله وهم يتحدثون عن أنفسهم دون صنعة قصصية فجعل الأب وحيدا في الخمسين من عمره ، ماتت زوجته ، اما ابنه الوحيد فهو في الخامسة والعشرين سافر إلى الجبهة بعد أن تعلق بأمنية بقيت متألقة في تداعيات الأب ولم تتحقق ولعل الأحمدي حاول أن يحيل القاري إلى النهايات المفتوحة التي عمد إليها بعض كتاب المسرح في الثلاثينات من القرن المنصرم .. وقد شاء الأحمدي التدخل في تصعيد الأحداث من خلال التركيز على تكثيف التعادل الموضوعي بينهما ، كما انه لا يقدم صورة تقليدية عن الحرب مثلما عمد غيره ممن عاصروه إنما يصور لنا حالة نفسية واجتماعية تعتمد الانفعالات الإيحائية المباشرة وغير المباشرة في مناجاة النفس .
ويبلغ التوظف التراثي لدى الأحمدي مستوى فنيا متميزا من حيث أسلوبه وطريقة بنائه القصصي في مجموعته القصصية غناء الفواخت وهي مجموعة بالغ فيها الأحمدي في عكس واقع الأرض والفلاح من خلال واقعية افتراضية تعتمد الصراع الطبقي كموقف فكري والتكثيف الموحي كطريقة فنية لينتقل من توظيف اعتباطية الإشارة السوسرية(علاقة الصوت والمعنى والدال والمدلول والتنظيم النحوي والوحدات اللغوية ) إلى علاقة المتناول الايروسي المباشر البسيط ( لدى الإغريق والذي كانوا يقدمونه على هيئة طفل صغير وديع) . إذ عمد القاص على إبراز أسماء لعلها نشطت في منطقة ابي الخصيب او غيرها من أراضي البصرة وبساتينها فوظف أسماء رمزية (عتبية)* على حد قول ميخائيل باختين معروفة او موحية وبطريقة إيقاعية موسيقية درامية لعله أمل من خلالها ترك وقعة خاصة بأحداث قصصه مثل جعفر الساهي وراشد الضاحي ومزعل المهنا وحسين ابو
* يرى باختين ان الفضاء الروائي يكتسي من خلال تداخل مكوناته في أحيان كثيرة طابعا رمزيا : فهناك الفضاء الخارجي والداخلي والمنغلق والمنفتح والحميمي والمعادي بل ان باختين في دراسته لدستيوفسكي لاحظ انه استعمل في رواياته فضاء رمزيا خاصا بعيدا عن الصالونات وحجرات الأكل وقاعات الاحتفالات وغرف النوم وهو فضاء رمزي يتمثل في المداخل والممرات والأبواب والنوافذ المشرعة على الشوارع كما انه فضاء يتمثل في الحانات والأكواخ والقناطر والخنادق والبواخر والسيارات والقطارات وبعبارة أوضح فان فضاء العتبة الرمزي كما يرى باختين يمثل المواقف والأفكار والشخوص الذين يعيشون بين بين كما أن الزمن الموجود في العتبة هو زمن أزمة لأنه زمن مشحون بالتوتر والقلق والاضطراب وطرح الأسئلة المصيرية .
الإصبع ورزاق الدوسري وعواف وغيرهم كما ولف الأحمدي أسماء بطلات وبذات القصدية مثل سفانة /علاهن /ام خضير / فطومة / زنوبة /زهرة /مليكة وغيرها . فضلا عن توظيف مفردات جنوبية خاصة مثل غول / عفريت / طنطل /فاختة/الجنية/حورية وباستخدامات متنوعة
/العلوة / الطماطة/الحوش/صبخة العرب/سلاحف/ ضفادع/ سراطين/ شفلح/ السدرة/ النبق/ الشريعة/ المشارة … عبارات تحتمل المفارقة والتوظيف الشعري السردي مثل : يبدو كما لو يطاول جبلا شاهقا/من فيكم يعبر بحر القوة يلق النور الابهر/ ثم يغتسل بماء الفجر/ لأجسادنا عفونة الليل / إن الحكمة أنقى من ماء الشجر / جاءنا يحمل أسرار الطوفان الكبرى / أيكم ينبت أقدامه في التراب حتى نهار اليوم القادم/ كل الرجال في عيونهم كان الصمت حائرا/الكاتمون احترقت قلوبهم / لما رأيناه مخمرا بلحظة التجلي / يغتسل برائحة المطر الربيعي/ إذن ندخل من باب الصمت إلى ضوء الحكمة /رأيناها قد أدمنت الجلوس على مواقد النار/نفث لسانها بريقا اصفر/ ليس للشك زمن وإنما انتم تشمون رائحة أجسادكم فتأتون إليّ كما يأتي الظل /السراطين تهرش بطنها بكلاليب منشارية حادة /ارض الدوسري نائمة فيها الظلال ،والخضرة كعيون النساء ، تتألق تحت خيوط الشمس النازلة من أعالي النخيل / أرى رؤوس النخيل تتمايل ، فيتمايل جسدي ، أشده إلى جذع نخلة ،وخلسة انظر إليه ، تأخذني الغفوة ، يذوب جسدي ، أيفعل الغناء فعل السحر يا اخيتي ؟ .
رحم الله الأحمدي الذي ترك لنا فتيلا ما برح يتقد في عالم القص البصري والعراقي ولا ادري هل أن ذلك الفتيل قد يضيء بعض زوايا النص المعتمة أم انه يولد انفجار مات القاص ولم يسمع دويه .
—