كريم عبدالله هاشم :
كنت واقفا على طرف باحة الدار ،
ونا أتمعن النظرالى والدي سلمان الراضي ممددا في الوسط وقد التئمت حوله نساء العائلة ورجالها . .
رجال العائلة يخورون متهيئين لحمل النعش ونقله الى مثواه الأخير . .
هاهو ، يرحل . .
كان متمددا بأرتخاء ، ورضا كامل . . .
سينضم الآن بأرتياح الى أسلافه الذين كثيرا مامجدهم ، وكثيرا ماكان مخلصا لهم ،
الذين سبقوه بالرحيل الى الدار الآخرة . .
كان ممددا برضا وارتياح ،
أرخى يديه ،
اعطى وجهه لبارئه ،
وقال : أحملوني . .
لأن سلمان الراضي قد تعب من المرض والعزلة التي رافقته بها في ايامه الأخيرة . .
وهو ينتظر بفارغ الصبر ساعة الوداع هذه ،
ليريح ،
ويرتاح . .
– سلامتك أبوي لاتتحدث هكذا . .
– مابيها سلامة ، عود اخضر ويبس . . كافي خوما طلابه . .
هاهو يرحل ،
ولن يعود ابدا . .
وكأنه كان يخاطبنا بنبرته الآمرة كعهده : هيا استعجلوا . .
عند ذاك خالجني شعور مفعم بالحزن ،
مليء ،
نادرا ماكان يخالجني ايام سلمان الراضي .
(( اذ كنا نمشي يوما تحت النخيل ، وكانت يدي الصغيرة كعصفور منكمش في راحة يده .
كنت صغيره العزيز ،
وكان النهار مشرقا يومذاك وهو يقتادني ونحن عائدين من داخل المدينة الى بيتنا الواقع في طرفها . .
كان يضم يدي بيده ،
وقلما تكون كذلك ،
ومانسيـت ذلك ، لأن اللحظات الحانية معه كانت قليلة . . ))
فعدت أستشعر يده . .
ظل ، من ظلال ذلك الزمان . .
لم يكن أبي سلمان الراضي يختلف عمن سبقوه بالرحيل ، فقد تشابه معهم في الوقائع و الخصال ، الحميدة منها ، والذميمة ..
غير ان ماميزه عنهم هو انه كان بزمن حصلت فيه تغيرات كثيرة . .
ولعل أبرز ماحصل عليه من تغيرات هو ان أرض راضي الحمد والده قد أجدبت وانقطع فيها الزرع بسبب ارتفاع نسبة الملوحة ، وتحولت الى أرض سبخ مقفرة ، وقد وصل سبخ هذه الارض ونزيزها الى بيوت عائلة راضي الحمد الطينية . .
انقطع الرزق ، وشح . .
فانتقل سلمان الراضي الى أرض اخرى كانت ممنوحة باللزمة الى راضي الحمد أيام الحكم الملكي في ناحية اخرى . .
استفلح سلمان الراضي بعض الناس معه في هذه الارض ووفر نافذة رزق الى عائلة راضي الحمد . .
فقد انتقل وحط رحاله في هذه الارض مع بداية زواجه وبداية تكوين عائلة له . .
من هنا حصلت أولى رحلات وتغريبات أبي سلمان الراضي ، وقد كانت له في هذه التغريبة جولات وصولات مع الأغراب في الأراضي المجاورة ، والمنازعات على امور كثيرة . .
وقد كان لذكر واستذكار هذه الحكاوي التي رواها هو ، أو رويت عنه ، كان لها اعتزار كبير في نفسه . .
وقد كان لها طعما ورونقا لديه افضل من طعم ورونق ان تكون يدي كالعصفور في راحته . .
وأمعن النظر اليه . .
ممددا ،
فأدرك انها اللحظة التي كان ينتظر منذ سنوات عزلته . .
يحزن قلبي ،
واحزن لأجله . .
(( غير ان واحة العريس الخضراء هذه تم شطبها بلمح البصر وبجرة قلم كما يقولون . . وتناثرت كل التكوينات التي كانت تدور بين مساحاتها . .
كل الى جهة ما أو الى ارض اخرى . .
حيث استولت ( حكومة الثورة ) عليها ، وعلى مساحات الاراضي
المجاورة وشيدت عليها بنايات ومعسكرات للجيش لقاء تعويضات مالية زهيدة . . ))
وهاهو . .
ممدد ينتظر انتقاله الأخير ، لينتهي من سلسلة الأنتقالات والتحولات التي تعرض لها .
(( فحين ذهبت تلك الارض مع تأسيسات المزارع ومستلزماته أدراج الرياح ، انتقل بنا الى ارض اخرى قريبة من العاصمة ، محاذية لبغداد . .
أرض شاسعة على كتف نهر وهي بين المدينة والنهر ، استأجرها من الدولة ببدل ايجار سنوي يدفعه لأحدى دوائر الدولة مقابل استغلالها في الزراعة والفلاحة . .
وهنا ،
بين القرية والمدينة حافظ بنا على صفتنا الفلاحية والزراعة مهنة آباءنا وأجدادنا . .
بالرغم من نفحات المدينة التي كانت تمرق علينا بشدة ، لكننا كنا كالمعزولين والمرهونين لعالم آخر . .
كان النهر لايبعد عن دارنا عدة امتار فقط . . ولطالما انحدرت انا من دارنا بأتجاه (جرف الشط ) ، حيث حافة الماء تلامس قدمي . .
وبين حافة الماء والسدة التي يقع فوقها بيتنا القروي تمتد مساحات رملية مترسبة بهدوء على طول الشاطيء ، كانت ترسم اقدامنا الصغيرة ونحن صغار نتراكض فوقها وحين نبتعد وننظر خلفنا نرى خطوط أقدامنا المرسومة على الرمال . .
وصار الشط صديقنا . .
نلهو نحن الصبية في الصباحات واوقات العصر بالنزول الى الجرف الرملي ، نتخطى ونركض بموازاة الماء . . نطبع اقدامنا على الرمل .
وكان سلمان الراضي احيانا قريبا منا يشتغل بتمديد خراطيم الماء الى عمق النهر كي يتم سحبه بواسطة ماكنة الماء ورفعه الى الزرع في الاراضي الواقعة أعلى الشط ، حيث ينساب من أعلى السدة ويتوزع الى المساحات المزروعة . .
استفلح معه في هذه الارض بعض من عشيرته وبعض ممن جلبهم من ارضة السابقة ، واستوطن بهم هنا . .
الضفة الاخرى للنهر كانت تبدو واضحة لنا ونحن نقف امام دارنا ، اذ تقابلنا من الجانب الآخر أشجار عالية ونخيل وبنايات متعددة خلف النخيل ، فنقول نحن الصبية :
– بغداد هناك . .
وزوارق صيادي السمك أصبحت تألفنا وتعرفنا واصبحنا نعرفهم بالأسماء ، وكان بعضهم يقف بزورقه امام دارنا ويترجل وهو يحمل سمكة او
سمكتين هدية لنا مما رزق به واصطاده . . يجلسان هو وابي على سدة النهر ،
ترسل امي الشاي والخبر الحار والزبد لضيفنا . . )) .
وقد بقينا فلاحين ، رغم ان اطراف المدينة وقتذاك لاتبعد عنا كثيرا . .
وبقي هو سلمان الراضي بتفاصيله التي لايجوز ان يحيد عنها رغم انتقاله الى هنا . .
ففي تلك الارض الممتدة من اطراف المدينة وحتى حافة النهر لم يختلف سوى المكان . .
فقد كانت ألايام كعهد ايام القرية . .
أبواب البيت مشرعة للضيوف . .
كل ضيف له وليمته ومقداره ، وبما يتناسب مع تقاليد واصول تلك العشيرة البعيدة عن هناك . .
وقد كانت رحلة انتقاله وتحوله تلك سببا لأن يكون مأوى وملفى كل ذي حاجة او مريض أو لديه معاملة في مكان ما من بغداد من ابناء عشيرته وعمومته ، يمكثون عنده بحكم قربه من المدينة . .
وهو لاينسى انه ابن راضي الحمد كبير هذه العائلة ، فلابد ان يكون الوجه الأمثل في كل مكان ، ولابد ان تذاع عنه اخبار الضيافة وأداء الواجب بأفضل الحالات . .
وصار يهرع مع كل ذي حاجة يستدعيه . .
ويدور معه في دهاليز المدينة . .
بين الوجوه والمعارف المقربين . .
ويصل ذوي الوظيفة والنفوذ في دوائر الحكومة . .
ومن وجه ، لآخر ،
كانت المهمة التي يتولاها تنقضي بأذن الله . .
فأصبح نقطة وسطا . .
صلة وصل ، لقضاء امور بين ذويه وعشيرته خارج بغداد ، وبين الأصدقاء والمعارف الذين تكونوا ، أو الذين اخذوا يتكونون لديه في المدينة . .
شيئا فشيئا ،
وواحد يأتي بالآخر ،
كأصدقاء قدامى ، واصدقاء جدد . .
ويتكاثرون ويتجددون بأستمرار . .
وكلهم كانت بهم حاجة لأن يقضي أمرا ، أو مصلحة لأحد من ذويه والمحسوبين عليه ممن سيهرعون اليه ويستنجدون به . .
كان يتبنى قضاياهم ، ويتفرغ لها ككل شيخ أو رأس قوم . .
حين تنتهي فأنهم يثنون عليه ، ويسألون الله ان يجزيه بالخير والثواب . .
ولأنه كذلك ، فقد ترتبت عليه واجبات وافضال وعرفان بالجميل لأولئك الاصدقاء والموظفين في مفاصل دوائر تلك المدينة . .
ولأجل واجب اكرامهم ورد فضلهم كان :
(( في بعض المساءات يقيم لهم ولائم الطبيخ والشواء . .
حيث يهيء لهم السمك الطازج من اصحاب الزوارق الذين يأكلون الزبد والخبز على السدة امام دارنا من (صينية ) أمي . .
– على الجرف حجي ، كعدة طيبة . .
– صار ، ألف هله . .
ويحقق لهم ذلك ،
يبدأ الفلاح وابن الشيخ بالذبح والنفخ ، وتقديم الموائد العامرة على جرف الشط ، قريبا من الماء . .
وكان الجلوس في المساءات الصيفية هناك ، قريبا من حافة الماء يسحر الكثيرين بالتمتع بهذا المنظر . .
اذ تأتي المويجات الصغيرة وتنزلق على جرف الشاطيء ، فتسمع طرشقة الماء على الرمل
الذي يلتمع مع ضوء القمر كالبلور الصافي . .
كان يجهد بالبذل والسخاء والترتيب لهؤلاء الاصدقاء (الافندية ) الذين كان بعضهم بكروش ومؤخرات ، وبعضهم لازال في طور التكرش والانتفاخ .
واذا جدت بعض ظروف وطواريء في عشيرته ، فأن الوساطات والجاه في دوائر الحكومة صار متوفرا لديه . . . ))
ولم اكن أفهم وقتذاك لماذا كانت أمي كثيرة الولولة والتشكي :
– علينا بس التعب والخسارة ، شوف شلون صارت امورهم . .
– الحمد لله يامره ، الجاه والوجه اهم . .
وكان له هذا الجاه والوجه . .
يشعر انه يأخذه . .
قيل :
ان بعض من اقاربه وظف بعض هذه العلاقات وطورها ، حولها الى منافع نقدية وسلعية . .
وقيل :
ان بعض من معارفنا الذين كانوا في قرانا القديمة قد نفخ الله بصورتهم ، وتطورت امورهم حين انتقلوا الى بعض مناطق بغداد :
(( – شوف وين صارت اموره وعرف يشتغل . . مادام عندك فلوس اشتري بيت . . .
فرفض واستهجن :
– شسوي بيه . .
– ضمانة من الدنيا . .
– الله كريم ، شوية صبر والله كريم . . ))
لم يتغير علينا شيء . .
وقد بقينا في ذلك البيت القروي ،
تلك العائلة التي يعوزها الكثير من الأشياء . .
وكانت كل تطورات سلمان الراضي كلها لأجل الواجب ،
والمعروف ،
والعرفان ،
والجميل ،
والعز والفخر . .
غاياته التي حقق بها اسمه المجيد . .
ولكننا لم نزحف ونتطور كغيرنا . .
لم نحسب نقدا ، أو نعد عدا كغيرنا . .
اكتفى بذاك القدر من ايراد تلك الأرض بعد خصم ايجارها وتكاليف ومصاريف عملها ، لتمشية الامور . .
وهو يحمد الله على سسمعتنا الطيبة ،
وجاهنا بين الناس . .
وبقي سلمان الراضي يقاتل ويواكب لأجل مستلزمات الشرف والواجب العشائري . .
كان سلمان الراضي يظن ، ان هذه حصيلته الرائعة . .
(( لكن امور الناس توسعت في بغداد . . وصار الجاه والوجه يحسب بالكم وبالعدد . .
وتوسعت امور الدولة والحكومة :
فأستولت على تلك الارض ايضا لأجل مشاريع دولة اكثر أهمية ، حسب تقديرات الحكومة . فصارت الوجوه تختلف عليه ،
والامور تتبدل عليه يوما بعد يوم . .
انزوت وجوه ،
وظهرت من تحت الركام وجوه اخرى . .
اختلطت الامور على سلمان الراضي في زحمة التطورات والانحناءات . .
فأخذنا ، وارتحل بنا مرة اخرى . .
عاد بنا الى حيث قرى عشيرته البعيدة عن بغداد كثيرا . . ))
انزوى هنا وانزوينا . .
يمضي القطار بعيدا عنه ، أسرع وامضى . .
تختلف عليه الامور بجريانها ، وتنقلب يوما بعد يوم . . فلا ( الأفندية ) كما يعرف . .
ولااهل القرى والفلاحين كما يعرف . .
ولم تعد العشيرة بالمعنى الذي يألفه ويعول عليه . .
– لاشيء يمشي حسب الاصول . . ! !
كان الحزن غير الظاهر يأكل صدر سلمان الراضي بهدوء وصمت . . فقد اكتشف انه كان جالسا على حافة الزمن دائما ، لم يحفزه الطمع ويتوغل فيه كغيره . .
وكان الحزن الصامت ينخر عظامه :
– ليش سلمان ، ولك ياطايح الحظ منو جان يكدر مثلك .
لكن سلمان كان يتحسب من كل شيء ،
– منو جان يدري هيج تصير . . لازم واحد يتحسب اصله وفصله ومايخربط . . مايصير الواحد يتقاقز مثل القرد . .
ظلت وساوس سلمان الراضي تأكل عافيته . . وبقي سلمان الراضي يعنف نفسه . .
عفت تلك الصور ،
ولم يعد الماء قريبا ،
ولا المائدة . .
– كلها راحت بالشط . .
فجلس عاجزا في زاوية من قاع الدنيا . .
وهاهو . . الآن ،
متمدد بأرتياح ،
يرغب بالرحيل من وسط هذه الأحراش التي تتقافز قرودها كما كان يقول . .
وضعوه في النعش ، لينضم الى أسلافه الذين كثيرا ماكان مخلصا لهم . .
حملت احدى السيارات نعش سلمان الراضي . .
وغاب أبي من هنا أبدا . .
فحزنت حقا . .
—