عبدالكريم الساعدي :
ذات جمعة، كنت أغتسل بمياه لالش** البيضاء، أعتلي صهوة السرور في ظلّ رحلة عشق أبدية في وادٍ محاط بالجبال، وتلال مليئة بالأشجار والزهور، أرعي أحلامي البريئة، أرسم أنا وفارس أحلامي قلبين نقيين على شجرة تين، عُدت أحمل فرحي وباقة من الأمنيات، ألعب مع فتيات كوجو على حبال أزقتها، أرسم سنابل الحقول في عيون الفلاحين، رأيت أبي قلقاً على غير عادته، أهمس بحنان:
– أبي، ما الذي يحزنك؟
– كابوس قضَّ مضجعي، رأيت أسراباً من الجراد غزت حقول كوجو حتى غدت أرضاً جرداء، تنزّ دماً عبيطاً…
ما هي إلّا سويعات حتى استفقنا ذعراً على شهقة الموت والخراب، تحاصرنا ذئاب كريهة، عطشى لدمائنا، يسيل لعابها على عشب أرضنا، تلوّح بصولجان العبودية؛ حزموا أمرهم على أن لا يبقوا لنا باقية، فتنادوا مكبّرين، لذنا جميعاً بالدعاء والتوسل، لعّل أحداً يلقي قارب النجاة؛ فيفكّ أسرنا، كنت أقف بين الصفوف، يلفّنا رعب المجهول، تحيط بنا عيون المسلحين من كلّ جانب، عيون تتطاير شرراً، يحتفون بشهواتهم، وما أن تلا كبيرهم فتواه حتى انفرطت النساء بين أيدي الغرباء، وسط موجة صراخ وعويل، ودهشة رجالنا العزّل، قتلوا من حاول أن يبعدنا عنهم، ساقوا الآخرين كخراف بيد جزّار؛ كان أبي يرنو إليّ من بعد بعينين دامعتين، يشهق حسرات وأسفاً، عصبوا عيونهم، وثقوا أيديهم من خلف، لم يتوانوا في إعدامهم في ظلّ رقصة دموية.
ساروا بنا فرحين بغنائمهم، تاركين خلفهم قرية مذبوحة، رفات تحرسها الغربان، وحرائق لن تنطفئ أبداً، تحفّ بنا طقوس المآتم، سبايا مثقلات بالذبول؛ ليقيموا قيامتنا الثانية في سوق النخاسة، أتوارى خجلاً خلف ظلّي، تقلّبني أيدٍ وتعرّيني عيون خاوية، لا سلطان لي كي أنفذ من أقطار محنتي، ألقي عباءة استسلامي، حين اصطفتني بشاعة أحدهم؛ شهوراً وأنا أحدّق في سقف غرفة يلفّها ليل بهيم، تنهشني مخالب شهوات وحوش نتنة، تربكني الليالي بعذابات جسدي المتحجر، ونفس ذليلة، شهوراً تقلّبني أسرّة رجال لا يعرفون غير وشم أجسادنا المنطفئة بنار شهوتهم تحت رايتهم السوداء، وفي حضرة إله عقيم؛ ولمّا قاءتْ مخادعنا من فرط روائحهم الكريهة، اشرأب الموت خلاصاً، بيد أن صاحبتي التي شاركتني قهر الأسر، أثنت عزيمتي لحظة انطفاء العقل:
– لا تيأسي إذا انطفأ العقل، فما زلنا نملك قلوباً.
– لا أرى سوى ظلام الهاوية، ثم أيّ قلب تتحدثين عنه وقد أزالوا ماء الوجه.
– دعينا نلتحم لنضبط رؤانا، فخلف الحدود عالم لا مرئي، علينا أن ننجو من أجل كوجو.
أشعر بالاختناق، أتوجس من الآتي، يصطخب الخوف في أعماقي:
– ألم تري بالأمس كيف قطعوا رؤوس النساء؟ أنت تعيشين وهماً، نحن لا نتحكّم في وجودنا المتلاشي.
في تلك اللحظة الحاسمة تومض مرآة الذاكرة، تداعب عينيها صور الأمس، يهزّها الحنين إلى صوت أبيها، ورائحة خبز أمّها، يرعبها مشهد الحرائق وموت الأحبة، تشتعل غيضاً وانتقاماً، توقد حطب الأمل:
– وكيف سننجو من قبضتهم؟
– لا عليك سوى أن تحطّمي أصنام الخوف في أعماقك، وتستحضري صور المأساة، هذا هو السبيل الوحيد لخلاصنا. انظري إلى الوادي، إذا استطعنا أن نتسلّل إليه، ستحرسنا أشجاره الكثيفة وظلام الليل.
– وما بعد الوادي؟
– مسير ساعة حتى ندرك آخر أسوارهم.
– ثم ماذا؟
– نور الحرية.
– أترين أنّي سأصبح حرة؟
– أنت الآن حرة؛ لأنّك خلعت أثواب الخوف، وتعلّقتي بالعالم اللامرئي.
بعد منتصف الليل، أتسلّق ركام عام ونصف من العبودية وما رافقها من طقوس وحشية؛ أرتدي عباءة الليل، يبلّلني غيث السماء، يرافقني جبل من قلق، ومخاوف لم أعرفها من قبل، أنحدر إلى الوادي برفقة أمل، ها أنا أركض بين الأشجار حافية، أتبع آثار رفيقة العمر، أرنو إلى التلال البعيدة، أتسول الأماني من آثار طريق موحش، ألتقط أنفاسي تحت ظلّ شجرة بلوط، أتأرجح بين المواجع وعناق من تبقّى من أحبتي، أعاود الجري، الساعات تلوكني رعباً، خوفاً من الوقوع في أيدي الزناة مرة أخرى، أحسّ أن الطريق لا نهاية له، والزمن حجري، لولا نور بزغ من ثنايا رفيقتي:
– انظري، لقد بانت تلال الأمل، لم يبقّ إلا القليل…
تعانقنا، نضفر من دموع الفرح ينبوع وجودنا، ما هي إلّا خطوات ونتلو آية الفجر، تعصف بي رياح اللهفة لرؤية شمس الله، إلّا أنّ آخر لغم أرضي على حافة التلّ يلتهم جسدي؛ أتطاير في الفضاء، أتناثر كحبات المطر أمام رفيقتي، أتشكلّ زهرة بيضاء في حقل كوجو؛ لأوصد بدمي آخر أبواب الخراب.
——————-
*كوجو: قرية صغيرة تقع جنوب سنجار في الشمال الغربي للعراق.
**لالش: معبد إيزيدي يقع غربي مدينة الموصل.
—