وعبد الفتاح إبراهيم هو أحد أبرز رواد الحركة الديمقراطية والفكر العلماني والعلمي في العراق، كما ويعتبر من أوائل المفكرين العراقيين الذين كتبوا في صلب علم الاجتماع، ككتابه “مقدمة في الاجتماع”، ودراساته عن علم الاجتماع والماركسية وغيرها.
عرفته في بداية الشباب من كتابه الشهير “على طريق الهند”، الذي كان يحلل فيه الأهمية الإستراتيجية للعراق بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، عهد ذاك، لوقوعه على طريق الهند. كما كنت أقرأ ما كانت تنشرها “رابطة” الأبحاث والدراسات، التي يديرها، من مطبوعات تقدمية خلال الحرب الدولية الثانية، وكانت تصدر بموازاة سلسلة أخرى يصدرها عزيز شريف وشقيقه عبد الرحيم شريف. وقد تعرفت عليه شخصيا في مدينة براغ في أوائل الستينات، كما سيأتي لاحقاً.
ان الفقيد عبد الفتاح إبراهيم كان مدرسة فكرية وسياسية بحد ذاتها، مدرسة تلتقي مع اتجاهات أخرى كلها ديمقراطية وتقدمية، ويمثلها جميعا ذلك الرعيل الديمقراطي الأول، ومنهم ـ ما عداه- محمد حديد، وعبد القادر إسماعيل، ودرويش الحيدري، ونوري روفائيل، وكامل الجادرجي، وزكي خيري وآخرون. وحين يمر العراق اليوم بمرحلة البحث الشاق عن الحل الديمقراطي المناسب لأزمته العميقة، فما أحرانا بالعودة النقدية لما قدمه ذلك الرعيل من أفكار، وما مر به من تجارب غنية، فيها الإيجابي الرائع، وفيها السلبي.
كان عبد الفتاح أحد الشبان النابهين في الجامعة الأميركية ببيروت، حيث سافر إليها بعد إكمال الثانوية في البصرة. وهناك درس معه لفيف مثله، ومنهم محمد حديد ، وجميل توما. وقد اتفقوا على تأسيس ناد للشباب العراقي في بيروت يحرضهم على العمل الجدي لخدمة النهوض بالعراق. وقد تفرق ذلك الفريق، ما بين من ذهبوا لأوربا للدراسة كمحمد حديد، وبين من ذهبوا لدول أخرى. وكان أن ذهب عبد الفتاح إلى أميركا لإكمال التحصيل العلمي في جامعة “كولومبيا”. وقد عاد قبل الآخرين إلى بغداد في بداية الثلاثينات، واتصل بعبد القادر إسماعيل، وحسين جميل وغيرهما للبحث في تأسيس جريدة يومية على المذهب [الشعبي]، دون تحديد دقيق لهذا المبدأ. ثم اتصل بهم الجادرجي وآخرون، واتفقوا على تأسيس جمعية سياسية وعلى خطة للجريدة. وقد صدرت جريدة “الأهالي” عام 1932، وعرف ذلك اللفيف بجماعة الأهالي. ومعلوم أن صحيفة الأهالي صودرت أكثر من مرة، وكانت تصدر بعد ذلك باسم آخر مقترن ب” الأهالي”. وقد قامت المجموعة المذكورة بتكوين هيئة غير سياسية باسم “جمعية مكافحة الأمية”، واستقطبوا لرئاستها السياسي البارز جعفر أبو التمن، وانتخب عبد الفتاح سكرتيرا، ومحمد حديد محاسبا. واستمرت المجموعة في بحث تأسيس الجمعية السياسية السرية على أساس المبدأ المذكور- أي [ الشعبية]. وجدير بالذكر أن الشخصية الوطنية البارزة جعفر أبو التمن كان رجلا متدينا، ولا يطيق التطرف السياسي، ولكنه راح يتقبل أفكارا اشتراكية معتدلة كما شرحوها له.
لقد كلفت المجموعة عبد الفتاح إبراهيم بكتابة كراس يشرح معني مبدأ [الشعبية]، ويقول الجادرجي في أوراقه إنه لم يكن موافقا على إيكال المهمة لعبد الفتاح، فالأول كان يرى في الثاني شابا شديد الاندفاع. وقد صدر الكراس، ونص على أن الشعبية “تتفق مع الاشتراكية في كثير من الأمور الجوهرية التي تتعلق بتنظيم الحياة الاقتصادية، ومحاربة الرأسمالية، ومنع استغلال جهود الآخرين، واعتبار العمل المنتج السبيل الوحيد للحصول على العيش”، ولكنها – الشعبية- تختلف، وكما يرد في الكراس، عن “الاشتراكية – ولاسيما الشيوعية- ” في مقولات “حرب الطبقات، وحصر السلطة في طبقة العمال الصناعيين، وتوزيع الحقوق المدنية على هذا الأساس.” كما تختلف في الموقف من الدين. وأما في موضوع “القومية”، فقد هاجم الكراس التعصب القومي النازي والفاشي، وانتقل للتيارات القومية العربية، فبدا وكأنه يدين دعوات الوحدة العربية الصاخبة، ولكنه، في الحقيقة، دعا إلى التعاون التدريجي بين الدول العربية، والسعي للاتحاد على خطوات، بشرط أن يكون التركيز أولا على تحسين أوضاع كل بلد عربي. وهذا موقف يقرب من شعار الاتحاد الفيدرالي، الذي رفعه الشيوعيون العراقيون في فترة 14 تموز ردا على شعار الوحدة الاندماجية الفورية مع العربية المتحدة. أما عن الاشتراكية، فقد كان موقف “الشعبية” قريبا من مواقف وأفكار الاشتراكية الدولية. وكما يكتب الجادرجي، فإن نقد الكراس للتعصب القومي ولدعوات الوحدة العربية، أثار القوميين المتعصبين، الذين كان لهم موسمهم في السياسة والمجتمع العراقيين في تلك الحقبة من الزمن. وقد استغلوا ذلك القسم من الكراس للحملة على جماعة الأهالي.
ومن المواقف السياسية للمجموعة تأييد الحكومة في القمع الوحشي لتمرد الزعيم الآشوري، دون أي نقد لما رافق القمع من انتهاكات وحشية. كما أيدت المجموعة انقلاب بكر صدقي – حكمت سليمان العسكري، وشارك الجادرجي وأبو التمن في الوزارة، ثم استقالا- فيما بعد – بسبب احتكار بكر صدقي للسلطة. وقد استند الجادرجي- في مستقبل لاحق – لتجربته المرة هذه لرفض عرض التعاون مع الضباط الأحرار عشية ثورة 14 تموز، وهذا أيضا يفسر جفاءه تجاه عبد الكريم قاسم، بالضد من الموقف المرن والمعتدل لمحمد حديد.
كان عبد الفتاح إبراهيم يعتبر نفسه ماركسيا، ولكنها ماركسية غير شيوعية كما كان يقول، قاصدا الاشتراكية كما كانت مطبقة في الاتحاد السوفيتي.
جئت بهذه اللمحات المختصرة عن جماعة “الأهالي”، وهي كانت مشكلة من عدة روافد فكرية وسياسية، فكان الفراق بينها فيما بعد فراقا طبيعيا. فشخصية مثل عبد القادر إسماعيل صار من مؤسسي الحزب الشيوعي عام 1934 باسم [لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار]، وكان معه أيضا نوري روفائيل، و زكي خيري، ووديع طليا، والسكرتير عاصم فليح. أما عبد الفتاح، فقد استقل عن الجماعة تدريجيا، وكان يتهم بالتطرف، وتغليب الميل للعمل السري على العمل العلني، وأما الجادرجي ومحمد حديد، فكانا يمثلان الرافد الديمقراطي المعتدل غير الماركسي.
وخلال الحرب العالمية الثانية تمت اتصالات لعبد الفتاح إبراهيم بالجادرجي وآخرين من الرعيل الأول لتشكيل حزب ديمقراطي واحد، ولكن الفكرة لم تنجح لتباين الاتجاهات. وهكذا، فعندما أجازت حكومة توفيق السويدي الأحزاب عام 1946، فإن كلا من الجادرجي ومحمد حديد من جهة، وعزيز شريف وشقيقه عبد الرحيم شريف من جهة ثانية، وعبد الفتاح إبراهيم وناظم الزهاوي والجواهري وآخرون، من جهة ثالثة، ألفوا أحزابا ديمقراطية مستقلة عن بعض. وكان قادة حزب الشعب بزعامة الفقيد عزيز شريف ماركسيين أيضا، وفي الخمسينات انضموا للحزب الشيوعي السري. أما عبد الفتاح، فلم يؤسس حزبا آخر بعد سحب إجازة حزبه “الاتحاد الوطني” عام 1947، وكان لحزبه صحيفة السياسة.
إن صلتي الشخصية بالفقيد تمت في مدينة براغ في الستينات. ومحطة براغ من المحطات الهامة في مسيرتي السياسية والشخصية. كما كانت المحطة التي التقيت فيها بعدد من الشخصيات العراقية المهمة، التي لا أزال أحتفظ لهم بأطيب الذكريات، ممتزجة أحيانا ببعض المنغصات. وإلى جانب الشخصيات الوطنية المرموقة، فلن أنسى معرفتي وعملي مع عشرات من الشخصيات الشيوعية العربية والأجنبية، ولقاءاتي مع شخصيات شيوعية عراقية بارزة خلال سنوات ما بين 1961 و1966، والعمل سوية، سواء من كانوا قد حلوا تدريجيا في براغ، أو كانوا في دول اشتراكية أخرى، أو انضموا من العراق. وأذكر لقائي مجددا بالفقيد سلام عادل (حسين الرضي) في بداية 1962، وكان مع عائلته، وسهرنا سوية مع الجواهري، وربما عبد السلام الناصري أيضا، الذي كان مسئول العمل الشيوعي خارج العراق. وتبين لي لاحقا أن في المكتب السياسي كانت كتلة أو تجمع متفقون على استبدال سلام عادل كسكرتير للحزب، وكان اسم الفقيد زكي خيري مطروحا. ومهما يكن، فقد اتخذ المكتب السياسي قرارا بتسفير الرضي لموسكو للدراسة، ومن باب الحيطة، حيث كان الوضع العراقي متوترا ضد الشيوعيين وزعيمهم بالذات. أما سلام عادل وجمال الحيدري، فقد فسرا التسفير بنية التخلص من حسين الرضي بعد اتهامه بتوتير العلاقات مع عبد الكريم قاسم. هذه الواقعة الحزبية طويلة ومؤلمة جدا. وقد التقيت بالرضي مجددا في موسكو خلال سفري لتمثيل مجلة الشيوعية الدولية بعيد صحيفة البرافدا، وأوصاني في غرفتي بالفندق بلفت نظر رئاسة تحرير الصحيفة إلى وجوب دعم الشعب الكردي في العراق. كما طلب مني كتابة مقال في المجلة عن القضية، فكتبت ونشر المقال. وقد قطع الرضي دراسته، وعاد لبغداد، ودعا فورا اللجنة المركزية للانعقاد وحوسب المتهمون ب”التكتل”، وهم زكي خيري ومحمد أبو العيس وبهاء نوري وعامر عبد الله، ونزعت عنهم عضوية اللجنة المركزية. وكنت في كتاب “شهادة للتاريخ” قد عبرت عن رأيي الأخير حول كامل القصة، وثمة اجتهادات ووجهات نظر أخرى. ومهما يكن، فقد أعيدت تلك المجموعة إلى مناصبها الحزبية عام 1964، وكان الرضي وأبو العيس قد اغتيلا على أيدي الفاشية البعثية عام 1963. وأيا كانت وجهة نظري، فقد كنت، ولا أزال، أعتبر الشهيد حسين الرضي أكثر قادة الحزب ذكاء وتجربة وحرصا على تجميع الكوادر، ناهيكم عن وطنيته الصافية والثابتة، فضلا عن الصداقة الشخصية والعائلية. وهذا لا يعني أنه كان على صواب في مجمل مواقفه من عبد الكريم قاسم، ولا أن مخالفيه لم تكن لهم بعض وجهات نظر معقولة.
في براغ، قامت صداقتي القوية مع الجواهري، الذي كنت قد التقيت به من قبل لقاءات عابرة. وفي براغ تعرفت على عبد الفتاح إبراهيم والدكتور فيصل السامر، الأستاذ الجامعي ووزير الإرشاد، وذو النون أيوب، الذي كرست له كتابا خاصا بعنوان ” أبو هريرة الموصلي”، وكانوا جميعا أكبر مني سنا وأطول عهدا بالحركة الوطنية. وهناك أيضا عبد المجيد الونداوي، من الأعضاء القدامى في الحزب الوطني الديمقراطي، وكان من الجناح اليساري واستقال من الحزب. ولن أنسى تلك الشخصية الظريفة الطيبة، المرحوم موسى أسد، الذي كان رمزا حيا للنموذج الإنساني الذي يعشق مساعدة الآخرين، وقد توطدت لي معه صداقة متينة. وكانت آخر مرة رأيته فيها في منتصف السبعينات، حين ذهبت لزيارة أسبوع لبراغ واحتفلنا باللقاء بسهرة ممتعة واستمرت لقاءاتنا خلال ذلك الأسبوع. وقد علمت في منتصف الثمانيات بوفاته بعد مرض عضال. وللشاعر زاهد محمد زهدي قصيدة ارتجلها حين زار موسى أسد في المستشفى. وفي براغ كان أيضا الرسام الشيوعي المبدع محمود صبري. والتقيت مرة في باحة أحد الفنادق بالمنلوجست العراقي الشهير عزيز علي، وكان يشتغل في السفارة، وسألته عن أسباب انقطاعه عن الغناء، فابتسم. وقصدت مرة مستشفى خارج براغ حيث قيل لي إن فيه المرحوم سامي نادر. وسامي نادر من قدامى الشيوعيين، وعندما اعتقل مالك سيف ويهودا صديق طلب المكتب السياسي من السجن بتولي سامي نادر للقيادة إن كان ذلك ممكنا، وإلا فيتولاها ثنائي الحاج عبد وعزيز الحاج. وهو ما سبق لي كتابته أكثر من مرة. وكان سامي نادر، وهو من البصرة مسلولا، ولا أعرف كيف وصل لمستشفيات براغ وكان قبلها في لبنان. وقد بدا لي رجلا متواضعا ومحبوبا. و فرح كثيرا للزيارة.
بقيت في براغ حوالي أكثر من خمس سنوات، وكنت في السنوات الأولى مسئول التنظيمات الشيوعية العراقية في براغ، وممثل الحزب الشيوعي في مجلة “قضايا السلم والاشتراكية”. وفي تلك الفترة، حل الجواهري أولا، ثم السامر وعبد الفتاح إبراهيم. أما ذو النون أيوب، فكان ملحقا ثقافيا، واستقال بعد انقلاب 8 شباط 1963 .
كانت لقاءاتي بعبد الفتاح مستمرة، وكانت غالبا بحضور الجواهري والسامر، وربما أحيانا مع نوري عبد الرزاق، الذي كان في الهيئة القيادية لاتحاد الطلبة العالمي الشيوعي.
كان عبد الفتاح إبراهيم صارم الملامح، أنيقا، ولكنه كان يهتز لقفشات الجواهري، فيضحك معنا عاليا. وكنت أكن له احتراما كبيرا، وأفاتحه بما يريد معرفته عن سياسة الحزب الشيوعي العراقي. وهكذا، فعندما حدثت ضجة ما عرف بـ[ خط آب]، وتناهى له أمره، سألني عن رأيي، فلم أخف معارضتي. وقد وافقني على رأيي، خصوصا عن أهمية الديمقراطية السياسية، التي ضحى بها خط آب لصالح التبشير بالدور “الطليعي” لعبد الناصر والأنظمة العسكرية الوطنية في بعض بلدان [العالم الثالث]. وأرسل عبد الفتاح رسالة نقدية صارمة لقيادة الحزب في موسكو، فجاءه جواب بالتبرير والتشبث. وأذكر أنني عدت لموضوع خط آب مؤخرا في مناقشة مقال للكاتب العراقي المتميز إبراهيم احمد في سبتمبر 2009 موجها لانتقاد مواقفي شخصيا في تلك الحقبة. وقد رددت في مقال إيضاحي عنوانه ” آب العراقي، وفن التكتيك السياسي”، وقد نشر في إيلاف بتاريخ 5 سبتمبر 2009، [ الملحق].
لا أتذكر هل كان عبد الفتاح في براغ حين تركتها سرا في الربع الأخير من عام 1966، وكان الجواهري ممن أخبرتهم بنية العودة للعراق، واجتمعنا مع أصدقاء آخرين في دعوة عشاء عشية السفر. ومن المؤسف جدا أنني لم أتابع أخبارعبد الفتاح إبراهيم بعد عودتي، نظرا لتزاحم الأحداث الحزبية والسياسية.
عبد الفتاح إبراهيم كان من مواليد 1904 وتوفي في تموز 2003 ، وقد وجهت له تحية تمجيد وتقييم في مقال لي بصحيفة “الزمان”. ولا يزال ذلك الرجل الفريد يشغل عندي مكانا خاصا من الاحترام والاعتزاز والمودة. وكما قلت آنفا، فنحن في حاجة ماسة للعودة لدراسة مواقف وأفكار ذلك الرعيل الأول دراسة نقدية ستعلمنا الكثير بعد غربلة موضوعية لما كان صحيحا في الفكرة والموقف السياسي وما كان غير صحيح. وأذكر أنني انتقدت كتابا أصدره الفقيد بعد الثورة لأنه كان في نظري يبشر بتجاوز المرحلة بقدر ما يتعلق الأمر بدور البورجوازية الوطنية. وكما قلت، فعبد الفتاح كان ماركسيا واشتراكيا على طريقته، وقد يندفع أحيانا في التحليل والأحكام. كما يمكن انتقاد ظاهرة ابتلينا بها جميعا في العراق- أعني قوى المعارضة في العهد الملكي- ، وهي ظاهرة المعارضة المزمنة والمتشنجة. أما مجمل أفكاره وتراثه ومواقفه، فيمكن القول إنها كانت إثراء للعملين الفكري والسياسي في العراق.