شيئا فشيئا تبدأ مرابد ما بعد سقوط النظام تأخذ طريقها نحو ألارتقاء بالتقاليد الثقافية التي لابد أن تكون سمتها الحرية واحترام الرأي والرؤى المتعددة فعلاً. ونستعيد هنا مسيرة المربد الأول ،واقصد به مربد ما بعد السقوط والذي كان مجرد حلم يجول في أذهان بعض أدباء البصرة وهم يجلسون في مقهى الأدباء ، وتتقافز الجرذان الكبيرة بين أقدامهم ، و يحملون في جوانحهم الأمل بأن يكون شعار المهرجان” من أجل ثقافة عراقية وطنية متعددة الأطياف والرؤى”واقعاً. لقد تم العمل قبل المربد الأول بعزم وثقة لا مثيل لهما من قبل الهيئة التحضيرية الأولى ، وكلهم من أدباء البصرة ودون خبرة مسبقة في عقد المهرجانات، والمربد بالذات، إذ كانت تعقده السلطة بكل ما لديها من أجهزة ساندة وقدرات مادية و مخابراتية و أمنية وإعلامية. بدأت الخطوة الأولى عام 2004 في غرفة متهالكة رثة ضيقة لا تتجاوز مساحتها طولا وعرضا ثلاثة أمتار، وكنا نبدأ منذ الصباح إلى الليل نتحاور ونختلف ونعمل على الكيفية التي سيظهر فيها مربد بعد السقوط ؟. ليس على مستوى الطموح، ولكن على مستوى الممكن والمتيسر، وبما إننا بشر ولسنا ملائكة وكون،أغلبنا، كان منقطعا عن التواصل مع المؤسسة الثقافية المنهارة ومهرجاناتها وخطاباتها وسياستها في ذلك وخبراتها المتراكمة، فلقد بدأنا من الصفر ، ولكل ذلك فقد وقعنا في أخطاء ،غير مقصودة ودون ضغينة منا على أحدٍ ما، ولكن بسبب ضغط الواقع والظروف السائدة حينها، و بسبب جراحات الماضية العصية جدا على الالتئام.عندها بدأت الشتائم البذيئة تنهال علينا ، والشكوك توجه إلينا وسلط علينا سيف النقد التشهيري الشخصي الجارح جداً، حتى ممن يفترض به أن يكون معنا ويشد من عزمنا، ولابد من أن اذكر ان ثمة من وقف معنا بحميمة وإنسانية وفي مقدمتهم الأدباء والكتاب والفنانين الذين حضروا على نفقتهم الخاصة مجرد ان اطلعوا على الدعوة موجهة إليهم، سواء كانوا خارج العراق أو داخله، وشد من أزرنا أستاذنا الشاعر والكاتب والفنان المبدع “محمد سعيد الصكار” الذي تلقف فكرة عقد المربد في بصرته، فقام دون تكليف منا بتصميم شعار المهرجان وأرسله،من باريس، هدية كريمة منه، مؤكداً في ذلك على وقوفه معنا ، ومعه كل ما هو معروف عنه من ثقل فني وشجاعة وإنسانية،وأيضا كان ثمة من آزرنا بكلماته وكتاباته عبر الانترنت وفي ذلك الوقت،وبمنتهى الصراحة والحقيقة ودون حياء من التصريح به الآن، كلنا كنا لا نعرف كيف نستخدم شبكة الانترنت فنلجأ إلى بعض شباب البصرة الأوفياء لكي يعملوا عوضا عنا في ذلك. وفي داخل العراق وقف معنا بداية وللتاريخ الأستاذ “وائل عبد اللطيف” عضو مجلس الحكم ومحافظ البصرة في ذات الوقت ، والأستاذ “مفيد الجزائري” وزير الثقافة حينها وأوكل مهمة الدعم والمساندة للراحل الشهيد “كامل شياع” الذي أداها بمنتهى الأمانة والثقة والمسؤولية ، وكذلك الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين ممثلاً بهيئته الإدارية الحالية ورئيسها الأستاذ “فاضل ثامر”. استمر المربد وبات واقعا له تقاليد ، وللقائمين عليه في البصرة عبر الهيئة الإدارية للاتحاد ومعها الهيئة العامة الإصرار على بقاء المربد في البصرة وديمومته فيها والوقوف ضد فكرة نقل بعض أيامه إلى بغداد. هكذا بدأ مربد ما بعد السقوط فكرة وحلما وتجسد واقعا في المرابد اللاحقة وحتى السابع الذي تميز بحضور أدباء وشعراء أصدقاء للعراقيين من أمريكا وايطاليا و الدنمارك وهولندا وفرنسا واسبانيا ، وأدباء عرب شجعان من المغرب وسوريا والجزائر والامارات وأدباء عراقيين مغتربين وثمة مَنْ بعث للمهرجان برقيات ورسائل تحية ورغبة في المشاركة في المربد الثامن من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وتونس والكويت والجزائر والمغرب ومسقط والبحرين. هكذا بدأت جدران العزلة تتفكك وستتلاشى أمام إصرار الأدباء العراقيين على التواصل الحي الخلاق مع العالم..هنا وفي المربد السابع لابد من توجيه التحية لكل من ساهم فيه وعمل على نجاحه من خلال المشاركة في تقديم الدعم المادي والمعنوي لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية التي تميزت بميزات شتى منها تكفل شركة” آسيا سيل للاتصالات” باستضافة الفرقة السيمفونية العراقية الوطنية وهو ما يحدث لأول مرة في البصرة وفي المرابد السابقة كلها، وقد كان حضورها وعزفها الراقي في مسرح لا تصلح وتتسع خشبته لاستيعاب عدد العازفين، تجربة رائدة ، و خلال الإصغاء والهدؤ للحاضرين الذين ازدحمت بهم قاعة عتبة بن غزوان ووقوف كثير منهم شابات وشبان في الممرات، والتحية التي تُوجت بها الفرقة عندما وقف الحضور جميعاً يصفق لأكثر من ربع ساعة لها، دليلاً على ان بذرة الجمال موجودة في أعماق العراقيين، وهي بانتظار من ينميها ويفعلها ويفسح المجال لها لكي تغدو تقليدا يترسخ عبر الممارسات الجمالية الراقية والحضارية، من المؤكد ان اختيار الشاعر” بُلند الحيدري” لحمل اسم دورة المهرجان كان شهادة وفاء لرائد تجاهله النقد العربي والعراقي كثيرا، وان محور المهرجان عن الشاعر “ياسين طه حافظ” من علامات المهرجان البارزة. وهنا لابد من “لكن”.. إذ كيف لنا ان نستمع وبفخر ومحبة لتحيات وكلمات وشعر باللغات الفرنسية والاسبانية والانكليزية والتركية والهولندية ، ولا نسمعها بالكردية والتركمانية والآشورية، وهي لغات لمكونات عراقية تعيش بيننا وفي عراقنا بالذات!؟. وتستمر هذه الـ”لكن” لتؤكد المحاباة الواضحة في الاختيار للقراءات الشعرية ، وهذا العدد الكثير من شعراء قصيدة النثر، مع الاحترام لهم، الذي يتقدم للصعود على المنصة دون ، تحديد للنوع أولاً، أو الالتزام بالوقت الذي لم يشمل الجميع، والتعرض التعسفي للشاعر”عبد الكريم كاصد” بحجة الوقت، فليس من المعقول والمنطقي والعدالة ان يمنح شاعر بحجم “عبد الكريم كاصد” والقادم من لندن، دقائق معدودة فقط!!وغيره ما يشاء من الوقت!؟، وكذلك تحرم الشاعرة “رسمية محيبس زاير” من القراءة، وأسماء شعرية مهمة عراقية وبعضها من البصرة بالذات. كما إن الجلسات النقدية كانت تعقد كالعادة في وقت متأخر وهو وقت الراحة ليوم مربدي مزدحم منذ التاسعة صباحا حتى التاسعة مساء . لقد أبدى الأدباء والشعراء الأجانب والعرب رغباتهم العميقة الصادقة في ان يلتقوا الناس في الشوارع والساحات العامة والاطلاع على أوضاعهم وآمالهم مباشرة ووجهاً لوجه بدلا عن جدران القاعات.. آملين في المرابد القادمة ان يتحقق فعل ثقافي مربدي منوع رصين يكشف الوجه الحقيقي للثقافة الوطنية العراقية متعددة الأطياف والرؤى..بعيداً عن هذه الـ”لكن” ومعها أشياء أخر..تجرح القلب.