“حماية المقدسات” أو “الثوابت” هي اليافطة التي حملتها وتحملها السلطة السياسية والدينية في مجتمعاتنا لتحكم إغلاق المجال السياسي والديني بإمعان. وتحيطهما بأسوار منيعة يصعب اختراقها. وبذلك تفرض سيطرتها، وتشرعن استبدادها.
فمن الذي عين الدولة أو الفقهاء حراسا على الدين والعقيدة؟ من ذا الذي منح “القائمين” على الشأن السياسي والديني تفويضا لتدبير “الرأسمال الديني”؟ وما المقصود ب”ازدراء الأديان”؟ أليس هذا المفهوم فضفاضا بحيث يشمل بين طياته معان عدة ومتضاربة، يمكن أن تستغل لتكريس الاستبداد في وجهيه السياسي والديني؟
يعلمنا التاريخ أن مساحة الحرية (حرية العقيدة والتفكير والتعبير…) تضيق كلما ساد “التخلف” داخل المجتمع، وكلما سعت الدولة لفرض استبدادها. ولأن هذه الأخيرة لا تفرض سيطرتها بالقوة والقهر فحسب، بل باستثمار آليات رمزية أيضا، فإنها غالبا ما تلجأ لتسخير الدين لصالحها بالنظر إلى أهميته داخل المجتمعات ككل (وداخل المجتمعات الإسلامية خاصة، إذ يحضر الدين في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…بشكل أوضح).
لهذا عمل السلطان – طوال التاريخ الإسلامي- على استغلال الدين لبلوغ الحكم، وتكريس هيمنته داخل المجتمع.
وإذا تصفحنا تاريخنا سنجد تسخيرا فظيعا لمبرر الذود عن الدين، و”تهمة الإساءة للمقدسات” التي كانت جاهزة، وتم إلصاقها بالعديد من الفلاسفة والعلماء والمتصوفة والفقهاء أيضا، فأعدم فريق منهم، ومثل بجثتهم، وعذب فريق آخر، وأحرقت كتب فريق ثالث…لأسباب سياسية لا دينية.
وعلى الرغم من أن القرآن الكريم لم يقر بوجود “سلطة كهنوتية” في الإسلام تحرس الدين، ولم ينصب الله تعالى “إكليروسا” ليراقب ويحاسب الناس في حركاتهم وسكناتهم (أكثر من ذلك نجد الله قد حصر سلطة الرسول في كونه مبشرا ونذيرا دون أن يكون مسيطرا أو وكيلا على أعمال الناس في علاقتهم بربهم)…على الرغم من كل ذلك إلا أن التاريخ الإسلامي شهد خلافا لذلك عملية “مأسسة للدين”( أي تحويل الدين الإسلامي إلى مؤسسة بتعبير الباحث عبد المجيد الشرفي). فصار الفقيه مرجعا يحتكم إليه للإجابة عن سؤال الحلال والحرام…باسم الشرع (ماشرعه الفقهاء)، حتى قيل إن “المفتي موقع عن الله تعالى”. وتماشيا مع ذلك خضعت عملية قراءة القرآن نفسه “للتنميط والتحجيم”، إذ صارت مقتصرة على جماعة من العلماء المفسرين “المعترف” بهم. مما أنتج لنا “مدونة رسمية مغلقة”( بتعبير المفكر الاسلامي محمد أركون).
بطبيعة الحال ترك هامش من الحرية في الاجتهاد، لكنه اجتهاد “مؤطر” بجملة من المقولات و”المسلمات” والقواعد الأصولية (أي الثوابت). وهي أشبه ما تكون ب”طبقات جيولوجية” لا يراد لنا الحفر داخلها، ولا التساؤل حولها، أي يراد لها أن تظل في منطقة “اللامفكر فيه”. ويطلب منا أخذها
ك”ثوابت”. (من قبيل: لا اجتهاد مع النص – الناسخ والمنسوخ – العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – كل ما ينزل بمسلم ففيه حكم – تقديم أحكام الفقه على أنها أحكام إلهية لااجتهادات بشرية…).
ولأن “المقدمات” لم تتغير فإن “قراءات” النص الديني ظلت متشابهة وإن تعددت. وظلت تحمل في طياتها خصائص العصر الذي أنتجها (الاستبداد السياسي – المجتمع الذكوري -“السقف المعرفي” المحدود…). ثم انصرفنا – طيلة قرون – عن قراءة القرآن إلى تلاوته وترتيله فحسب.
تغيير هذه “المقدمات”، وإعادة النظر في الخطاب الإسلامي ليصير أكثر حداثة، ومسايرة لهموم العصر، وليصبح أكثر قدرة على تقديم حلول لمشكلات الإنسان المعاصر، مهمة اضطلعت بها فئة من المفكرين والمثقفين من خارج “المؤسسات الدينية الرسمية” (أمثال الجابري – أركون – نصر حامد أبو زيد – شحرور – يوسف الصديق – عبد المجيد الشرفي – سعيد ناشيد – عدنان الرفاعي…) وحتى من داخلها (علي عبد الرازق – جمال البنا – علي شريعتي- احمد صبحي منصور…)، رغم اختلاف منطلقاتهم ومرجعياتهم ومناهجهم ونتائج دراساتهم.
ولا يخفى علينا ماتعرض ويتعرض له كل مفكر حر حين يرفض “الانضباط” لمقتضيات السلطتين السياسية والدينية من إقصاء وتهميش (اغتيال الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الذي وجه نقدا لاذعا للاستبداد السياسي- اغتيال المفكر المصري فرج فودة الذي نادى بالعلمانية – عزل الشيخ الأزهري علي عبد الرازق من منصبه في القضاء وسحب شهادة العالمية منه من طرف الأزهر لأنه كشف “أوهام الخلافة الإسلامية”- رفع دعوى قضائية ضد المفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد بتهمة الردة وتفريقه عن زوجته – فصل الدكتور احمد صبحي منصور من التدريس بالأزهر – ومؤخرا تم رفع دعوى قضائية ضد الكاتب والباحث المصري سيد القمني بتهمة ازدراء الدين الإسلامي…الخ).
إن الأنظمة السياسية في مجتمعاتنا تدرك جيدا أن شرعيتها الشعبية أو “التعاقدية” ضعيفة، ولذلك فهي تستند إلى الدين لإضفاء المشروعية على سلطتها، وتجمع بين “سياسة الدنيا وحراسة الدين”. وفي الآن نفسه تحاول منع وتحجيم دور تيارات الإسلام السياسي داخل المجتمع، حين تنازعها حق الجمع بين الإمامة والإمارة.
والحال أننا سنظل نراوح مكاننا مالم نعد طرح قضية العلمانية (بفتح العين) بقوة داخل المجتمع،وما لم تتحول إلى مطلب تتبناه مجتمعاتنا. فهي وحدها تكفل لنا إمكانية تحييد الدين عن الممارسة السياسية، وعدم استثماره في الصراع السياسي، وفي تضييق الخناق على الحرية.هذه الأخيرة التي هي شرط الوجود الإنساني، وشرط نهضة الأمم.
—
اسماعيل فائز ( أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي المغرب )
—