لا يكاد يختلف اثنان بأن النص الجاهلي من النصوص الخصبة التي تغري النقاد بجاذبيتها، مكتنزة بالطاقات الإبداعية، والأدوات الجمالية التي تغذي القارئ بالخيال الجامح، واللذة الشعورية الفياضة، إذ قام تلك النصوص على كاهل عدد من الشعراء الفحول الذين حافظوا على وجه هذا الفن الجميل وأورثوا قيمه الفنية للأجيال التالية.
والحوار “عرض [درامي الطبع] للتبادل الشفاهي، يتضمن شخصيتين أو أكثر”( )، أوأنه “نمط تواصل حيث يتبادل ويتعاقب الأشخاص على الإرسال والتلقي”( )، وتظهر “أهمية الحوار بأنواعه المختلفة في الشعر العربي القديم لتنفي عنهذاتيته المطلقة، ذلك لأن أنسب الأساليب التي تلائم التعبير عن الأفكار فيالقصيدة هو الأسلوب الحواري”( )، والحوار في الشعر يختلف بطبيعته عن الحوار في المسرح أو القصة “غير أنه لا يبتعد عنهما من حيث إضافة الوظيفة الناتجة عن الحوار، فهو في الشعر إن كان جاء مختزلا ومكثفا، إلا أنه يحمل في طياته من الدلالات والجماليات التي لا تكون في قالب آخر”( ) مسهما في بنائية النص من حيث الترابط بين أجزائه ومقاطعه، وفيما يلي نماذج من أنواع الحوار الواردة في شعر الجاهلي:
1- الحوار مع الآخر / الصاحب
أ- الصاحب الوهمي:
وفيه يحاور الشاعر صاحبه الذي لا وجود له إلّا في خياله( )، وهو من باب التجريد ليتخيّل الشاعر من نفسه شخصا آخر فيحاوره فيما يشبه الانشطار الذاتي، وأن هذا الأسلوب يتمركز في أعماق النفس الإنسانية، إذ “تنشطر نفس الشاعر إلى شطرين، شطر مخاطب وشطر مخاطب”( )، فيقيم الشاعر حوارا داخليا، فمن ذلك قول امرىء القيس:
قِفَاَ نَبْكِ مِنْ ذِكُرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ( )
إذجرّد الشاعر من نفسه صاحبا أو أكثر لا وجود لهم في الحقيقة إلاّ فيمخيلته، موجّها حواره إليهما، آملا منهما المشاركة الوجدانيّة لما نزل به من الهموم والآلام التي حلّت به من خلال هجرة الحبيبة وخراب الديّار.
ومنه قول زهير:
تَبَصّرْ خَلِيلَي هَلْ تَرى مِنْ ظَعَائِنٍ
تَحَمّلْنَ بِالعَلْياءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثُمِ( )
فرسم الشاعر في مخيلته خليلين، لكي يطلب منهما تبصّر نساء في هوادج على إبل.
ب- الصاحب الحقيقي:
وفيه”يخاطب الشاعر أصحابا حقيقيين، لهم وجودهم الماديّ والمعنوي، في الواقع، بيد أننا لا نسمع منهم جوابا”( ).
فمن ذلك قول طرفة:
عَلى مِثلِها أَمضي إِذا قالَ صاحِبي
أَلا لَيتَني أَفديكَ مِنها وَأَفتَدي( )
إذ دار الحوار مع صاحب حقيقي للشاعر، فجاء بصفات مثل الفداء والتي تدلّ على الصداقة الحقيقية.
2- الحوار مع الأخر / الحبيبة
ويسمى بالحوار الخارجي وهو أسلوب “يقوم أساسا على ظهور أصوات [صوتين على أقل تقدير] لأشخاص مختلفين”( ) يتناول موضوعات شتى للوصول إلى هدف معين، وهو الأبرز حضورا في الشعر العربي القديم والأقرب “أنواعه من الشعر، وفيه تتقاعل الحبيبة مع الشاعر فيتبادلان الحوار بينهما”( )، ومن أساليبه القولية: أسلوب “قال، قلت،سأل، سألت، أجاب، أجبت أو ما يدل على ذلك”( )، فمن ذلك قول امرىء القيس:
وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدَرَ عُنَيْزَةٍ
فَقَالتْ لَكَ الوَيْلاتُ اِنَّكَ مُرْجِلي
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيط بِنَا مَعاً
عَقَرْتَ بَعيري يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلْتُ لَهَا سِيري وأرْخِي زِمَامَهُ
وَلا تُبْعِدِيني مِنْ جَنَاكِ اُلْمعَلَّلِ( )
إن امرأ القيس استخدام أسلوب الحوار كأسلوب فني جديد، وكإنزياح عن المألوف الشائع، إذ أصبح بذلك قدوة للشعراء بعده في ذلك، فالشاعر من خلال تلك المحاورة ينقل للمتلقي مغامراته الغزلية مع حبيبته (عنيزة) التي باشرت الحوار أولا من خلال كلمتي (فقالت، تقول)، وفي المقابل يشارك الشاعر حبيبته في الحوار في صيغة (فقلت) فيستمر الحوار والتحدث إلى أن يصل إلى الذروة( )، ومن محاوراته لفاطمة قوله:
أَفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلّلِ
وَإِن كنتِ قد أَزْمعْتِ صَرْمي فأَجْمِلي
أغَرَّكِ منِّي أن حبَّكِ قاتِلي
وَأَنَّكِ مهما تأْمري الْقلبَ يَفْعَلِ
وإنْ كنتِ قدساءَتكِ مني خليقةٌ
فَسُلّي ثيابِي من ثيابِك تَنسُلِ( )
وقوله:
فَجِئْتُ وقَدْ نَضَتْ لِنَومٍ ثِيابَها
لَدَى السّترِ إلّا لبْسةَ المُتَفَضّلِ
فَقالتْ: يَمِينُ اللهِ ما لَكَ حِيلَةٌ
وما إنْ أَرى عَنْكَ الغَوايةَ تَنْجَلِي
خَرجْتُ بِها أَمْشِي تَجُرّ وَراءَنا
عَلى أثَرَيْنا ذَيْلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ( )
حاول الشاعر من خلال تلك المحاورة أن يستعطف إليه قلب الحبيبة حتى استطاع أن يخضعها لما يريد.
وبعد قراءة الأبيات السابقة نستطيع أن نقرر بان امرأ القيس هو أول من ابتكر الحوار في الشعر العربي( )، إذ قام الشاعر من خلال هذا الإنزياح التركيبي بكسر النمط السائد من العمود الشعري التقليدي، معبرا عن طريقه عما يجول في نفسه من مشاعر وأحاسيس تجاه حبيبته، ومن خلال هذا الحوار بين للمتلقي قصته معها.
3- الحوار مع الطبيعة:
إن لمظاهر الطبيعة-الصامتة والمتحركة- مكانة في نفس الشاعر الجاهلي، ومن أبرز تلك المظاهر الصامتة هي:الطلل، الرسم، الدمن…لكون تلك الأماكن رمزا للعالم المفقود( )، ونلاحظ بأن شعراء الجاهلية قد حاوروا من الطبيعة كل من:
أ- الطلل (المكان)(الطبيعة الصامتة)
ب- الليـل(الزمان)
ت- الحيوانات (الخيل، الناقة، الذئب) (الطبيعة المتحركة)
أ- الطلل (الربع):
نرى بان شعراء العرب في الجاهلية قد تصدّوا للطلل فجعلوه مطلعا لقصائدهم، وأمعنوا في التدقيق به، متناسخين، معبرين عنه من خلال المعاني المتداولة، متجاوزين في الغالب عن تجربتهم الخاصة. لهذا نرى ملامح الإنسان الموطوء بالأسى والحنين، تتقلص وتتضاءل في شعرهم،ويخيل إلينا أن الطلل لم يكن في نفوسهم بقدر ما كان في ذاكرتهم، وما يشتمل عليه من معان تقليدية ملفوظة، لقد كرسوه كمادة لاستهلال القصيدة، حتى شخص في تسع من المعلقات مما يرجح أن شعراء المعلقات اقتفوا به آثارا مبهمة لشعراء سابقين تعفّت أسماؤهم فضلا عن أشعارهم ( )، فمن ذلك قول عنترة:
يَا دارَ عَبْلَةَ بِالَجِوَاءِ تَكَلَّمِي
وَعِمِي صَبَاحاً دارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمِي( )
إذ تحوّل وصف الطلل إلى وصف خارجي، لا يعبر عن الوجدان بما فيه من مضاعفات شعورية.
ب- الزمان (الليل):
يقول امرؤ القيس:
فقلتُ له لمّا تَمَطّى بِجوزِه
وأردفَ أعجازاً وناءَ بكَلكل ِ
ألا أيّها الليلُ الطويلُ ألا انْجلي
بصبحٍ وما الإصْباحُ منكَ بأمثلِ
فيالكَ مِنْ لَيْلٍ كأنّ نجومَهُ
بأمراس ِ كتّان ٍ إلى صُمّ جَنْدَلِ( )
** **
وقد أغتدِي والطّير في وُكنُاتِها
بمنجردٍ قيْدِ الأوابدِ هَيكل( )
إن الشاعر يحاور الليل وكأنّه كائن حيّ يسمع كلامه، فيقول لها: ألا أيها الليل الطويل، – وقصد بالليل الطويل همومه وحزنه- فيدعوها بالمضي والانجلاء، ولكن الهموم قد تستمر-كما يرى الشاعر- حتى بعد زوال الليل، فقال (وما الإصباح منك بأمثل)، إذ إن الشاعر محمل بالهموم ليلا ونهارا.
ث- الحيوانات:
أولا-محاورة الذئب: فمنه قول امرىءالقيس:
فَقُلتُ لَهُ لمّا عَوى: إنّ شَأنَنَا
قَليلُ الغِنى إنْ كُنْت لما تَمَوّلِ
نرى بأن امرأ القيس يحاور بعضالحيوانات التي ألفها من خلال رحلاته، فمن ذلك محاورته للذئب.
ثانيا: محاورة الخيل: فمن ذلك قول عنترة:
ما زَلْتُ أَرْميهِمْ بِثغْرَةِ نَجْرِهِ
وَلَبَانِهِ حتّى تَسَرْبَلَ بالدّمِ
فَأَزَوَرّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِهِ
وشكا إليّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
لَوْ كانَ يَدري ما المُحاورةُ اشْتَكَى
وَلَكانَ لَوْ عَلِمَ الكَلامَ مُكًلّمِي
فالشاعر في ساعة المعركة يحن لحوار فرسه الذي تسربل بالدم، فأخذ يشتكي ويتألم بدمعه وتحمحمه.
وبذلك يمكن القول بأن شعراء العصر الجاهلي قد كسروا النمط السائد من العمود الشعري من خلال أسلوب الحوار وهذا ما رأيناه جليا عند امرىءالقيس، إذ استطاع الشاعر أن يعبر عما يجول في نفسه تجاه حبيبته من خلال أسلوب الحوار.
—
* د. عبدالله خضر: عضو الهيئة التدريسية في الأكاديمية العربية/دانمارك
—