نشأنا من الأهل على احترام الآخر وضرورة الصمت في بعض المواقف، وعلمونا هناك وقت وهناك موقف، وليس من الضرورة يكون الكلام معبرا عن أفكارنا بل ربما الصمت أو نوع الكلام هو المعبر عن ذلك، وتم تغذيتنا لدعم هذه النشأة بآيات واحاديث وقصص حياتية، بمرور الأيام فهمنا معناها بحكم الأحداث والتجارب والنضج ومرور العمر، في الوقت الذي كنا احيانا في زمن طفولتنا وحتى شبابنا نعتبرها اجبارا، فاتخذناها آنذاك احتراما للكبير من اهلنا فقط، واذا بها ما بعد الشباب شكلت نوع علاقتنا مع الآخرين، وبمرور السنين وتلون المواقف وتنوع الوقت تبين اِنّها هي الصواب، ومنها الصمت..
ولا يعني الصمت في كثير من المواقف والمعاني عدم التكلم، بل القول الجميل، بل كل معنى جميل بانتظار الأجمل ولو بعد حين، عندها نفهم المثال:
اذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب .
ليتبين هو الحلّ الأمثل أمام المشاكل بأنواعها، ومنها ما تنتجه ثقافة الترف الثقافي وصراع المصالح، نتدرب به كي نتكلم بانتهاء المدة بقوة ومعرفة ومعلومة وحجة دامغة، فالله عزوجل جعل هذه الايام للتزود والمراجعة كي نكون اقوياء بالموقف وبالوقت.
فموضوع التوتر من الدين، باعتقادي لا يوجد توتر من الدين بل يوجد خلل فيمن يوصل الدين للاخرين ويفهمه، علينا ان ننظر في خندقنا ايضا، ففي الجانب الاخر كل ما يمر به، فمعضمه بسبب خلل علاقتنا التعبيرية معه، هذا من المهم الالتفات له ووضع معالجات له، لنرى ستعالج الكثير من المواقف المضادة في العقول اِلّا ما هو عناد وجهل محض ..
ومن هذا المفهوم نفهم معنى الصمت الاعلامي، وهو أمر دارج في عالم الاعلام والسياسة وحتى الرياضة، عندما تحين لحظة الحقيقة مثلا عند الحملة الانتخابية ببدء التصويت، فيدخل البلد في صمت اعلامي، أي في ايقاف أيّ موضوع يثير او ينال من الطرف الآخر احتراما لمشاعر مؤيدي هذه الجهة أو تلك واحتراما للمرشحين الذين دخلوا المنافسة، لتكون الممارسة بشرف ..
انّ صلب موضوعي هو الصمت الاِعلامي في أيام الله عندنا، وهي كثيرة ومنها اشهر الحرم ورمضان والأعياد وحتى يوم الجمعة ووو، ومن ضمنها الحج وهو مؤتمر الله عزوجل الأكبر للامة، وما فيها من سلوكية الصمت الاعلامي اخلاقيا لبناء الفرد والمجتمعات، نهيا عن الفحشاء والمنكر والبغي والفساد والحروب والثارات ووو، وتاكيدا لحقوق الانسان والحيوان واشباع الجياع وايواء اللاجئ واكساء الفقير ووو.
ان التزام الصمت الاعلامي يتم تفادياً للوصول الى سجالات مبنية على تفسيرات وتأويلات غير صحيحة في مرحلة تكثر فيها الشائعات والصراعات، أو الأخبار الملفقة وتساهم في ثقافة الاِساءة ومنها الاخلال بالاستقرار السياسي للدول والعالم والى العلاقة بين البلدان والشعوب وحتى المسؤولين، ليدخل هذا الصمت في نفس باب النهي عن الفحشاء والمنكر التي تتصف بها الصلاة والعبادات عند ادائها، وهو صمت اعلامي من نوع خاص مفروض كي لا تبطل العبادة.
تلفت ثقافة الصمت الاعلامي اِنتباه الإعلام العالمي والعربي، وتشجع بمرور الوقت من ينضم اليها عبر الأيام والسنين كثقافة يلزمها الضمير، وهي في نفس الوقت شرعية وعقائدية وحالة اِثم في حالة تجاوزها.
نتيجة هذه الثقافة تكون الفرصة لمراجعة النفس وأيضا فرصة يمكن بها تهميش سياسات التفريط في الأمن الوطني بل والقومي للعرب بل والأهم الاسلامي وآثاره على عدم التفريط كنتائج سلوكية ومنهاج اعلامي على الأمن الدولي والاِنساني عموما.
ان السلام وهو عنوان الاِسلام، كان وسيظل من واجباتنا الدولية والعالمية والانسانية فضلا عن الواجب الوطني، وبذلك يحقق الاعلام وعلى الاقل اعلامنا وكتابنا جانبا مهما من الشفافية والمصداقية والمهنية، فهل قام بذلك اعلامنا ..؟ ..
ان مثل هذا الصمت عبر الاهتمام بتجليات أيام الله عزوجل وثقافتها الانسانية والعدالة الاجتماعية، يكشف بل وسيحرج مؤسسات الجريمة الاعلامية والدعائية والاعلانية ورجالاتها بل وربما دولها وساستها، ومنها اسلامية، بحق الاِنسان والأوطان والدين، لأنها ستكشف واقعا لها من انها على نقيض اِدعاءاتها .
ان ظاهرة تبادل الزهور في ايام الله عزوجل، تمني النفس ان تتبادل القلوب الزهور، مما هي رغبة الله عزوجل عندما فرض الفريضة لجمع القلوب على طاعته اي معرفته ومحبته، فتكون النتيجة محبة الناس لبعضها البعض وتحقيق السلم والسلامة، نفسيا ووطنيا وعالميا، بهذه النتيجة للعبادة يكون مثلا، الحج مبرورا والسعي مشكورا، وكل فريضة مقبولة .
ان ميزة هذا الصمت الاعلامي كما في الحج مؤتمر الله عزوجل الأكبر، يعطي الفرصة لاستكانة النفس وتزكية جهادها لبناء الذات، ولتغطية مايجري في مؤتمر الرب من تعاليم انسانية وعدالة اجتماعية حتى في تساوي الملبس مرورا بحقوق الحيوان حيث لايجوز قتل حشرة، والى حقوق الانسان حيث يمكن اشباع الالاف من المحتاجين خلال هذه الأيام بسبب ملايين الكيلوات من اللحم الخرفان لفك الاحرام، لإيصال حقيقة هذه العقيدة الربانية إلى الرأي العام العالمي، فهل ارتقى كتابنا ومفكرينا واِعلامنا الى هذا المستوى..؟ ..
انها ثقافة لابد لها ان تسود ويشجع عليها بدء من الكتاب أنفسهم لردع وسائل الاِعلام التابعة للتشويه والاِساءة .
خمسة عشر يوما من ضمنها أيام الاِحرام والأعمال والعيد وحتى يوم العودة، تمنح الأمة طاقة قوية للتفكير لكلّ ما يحصل حولنا والتركيز بعقلانية على اجابات الأسئلة وحلول للتحديات .
فعندما يكون الانسان في فريضة كالحج واجتماع الأمة في مؤتمر الرب الأكبر، له مهمة عبادية عرفانية اخلاقية معروفة ومحددة لا يمكن تجاوزها حتى بالشعارات، لأنه محكوم من أجل الاِنسانية ومقيّد بها واِلّا بطل حجّه، وهنا موضوعنا فنتساءل :
هل سقط هذا المنهج خلال أيام الحج عن الذي لم يحج،؟..
الجواب: لم يسقط أبدا، بل هو مأمور بالسلوكية العرفانية والاخلاقية الانسانية لتعاليم الحج، بل وكل ايام الله عزوجل، ومنها القول الحسن وان كان مأمورا به كلّ أيام العمر، ليكون مصداق الحديث: الكلمة الطيبة صدقة ..
فكيف اذا كان كلّ كتاباتنا وكلامنا طيبا، ومن هذا المفهوم يستند الصمت الاعلامي لدينا في أيام الله عزوجل، واِلّا لم نكن أوفياء لتعاليم الرب.
ان مثل هذه المناسبات الربانية، تعرّفنا بإمكاننا أن نحيا أيامًا دون أن نقول شيئًا، ودون أن نشعر شيئًا ما ينقصنا، أي نقول الكلام الطيب.
أيام تشكل أجمل عادة للتربية الاِلهية من ناحية أهمية عادات الاكتساب مقترنة بعبادة فضيلة ومنمية شيمة الكرم السلوكي وغنيمة المنهج كفكر، حيث اكتساب الكرامة الانسانية وتحقيق وراثة السلامة للفرد والمحيط، وتهميش عوامل الندامة على الافعال والالفاظ وانعدام العتب والملامة من النفس ومن الأخرين على سوء اللفظ والسلوك.
ان الصمت الاعلامي في ايام الله بأنواعها هو ثقافة تحدٍ بامتياز ضد الظروف القمعية والدفاع عن شرف الأوطان والاِنسان وعدم الخضوع للابتزاز، بسبب تبعية هذا الكاتب لهذه الجهة او تلك، أو متاثر بردود فعل تستوجب الردّ، فتخسره حكمته التي يريد ان ينيميها الله عزوجل في ثقافة التنمية البشرية الربانية ومنها الحج .
يكون هذا الصمت الاعلامي بثقافته تفجيرا لبالونات الاِختبار ضدّ وطننا وأمّتنا وعقائدنا، باظهار جرائم الادعاء، وبالتالي هو تحدّيٌ لخطر التجهيل والعصبية والتطرف والتحريف وثقافة الكراهية . فتكون رسالة الاعلام بحق في أيام الله عزوجل رسالة مهنية ورسالة انسان، وهي في نفس الوقت نعرفها رسالة تشريع ودين، ولها مختصّيها من رجالات العلم والمعرفة في حوزة الدين والفقه الحقيقيون، ولا دخل لمقالنا بذلك فان المقال موجّه لأصحاب القلم والثقافة والمعرفة والمسؤولية والوطنية والعقائدية، بمختلف صفاتهم المعروفة بالمجتمع.
ثقافة التفكير بأنه نفكر كيف ولدنا في صمت حتى لحظة الحياة التي بدأت بصراخ وبكاء، نؤول إلى صمت هو الحكمة بارادتنا، هكذا ترف اجنحتنا لنشعر اننا في الحياة لأسباب ومنها صناعة السلام وبذر المحبة، وتبيان سبل معرفة الله جلّ وعلا، في صلب قلق كلِّ الأرواح التي انعتقت من قيد ثقافة الكراهية فغدت خفيفة لينة غير عابئة باناس مرضى النفوس وقبح العاقبة، فتتوضح معاني الكلمة الطيب صدقة في ثقافة الصمت الاعلامي لأيام الله عزوجل.
في الصمت عالم من البسمة والضحكة والبكاء وايماءات الحركات في الوجه والجسم، فيرغم المقابل والمحاور على البوح بما في داخله، فنتعلم متى نصمت ومتى نتكلم، بذلك تسود الحكمة والحكماء، فيطول عمر السلامة والسلام والأوطان والشعوب والمحبة، ويقصر عمر الكراهية والبغي والحروب والفتن .
فاِنْ خلق صمتنا الاِعلامي غيضا عند البعض من غير الحكماء، فِانّه يولد الاِحترام ويعدم التنافر والحقد والكراهية بالتدريج من الأفراد والمجتمعات والأمم.
بالصمت الاعلامي يتجرد المشاجر من أسلحته، لأنه سيفقد القدرة على مواصلة الكلام، أي عن السباب والشتائم والتكفير وبذاءة الأخلاق في الالفاظ وثقافة ردود الفعل الجاهلة، أمّا من ينشد الحقيقة والانسانية فيقابل هذه السلوكية بحسن الاستماع، هذه صفة افتقدتها الأمة لقرون، ويبدأ بالكلام بتساؤل عنا وعن صمتنا وعن أجوبة يحتاجها العصر.
في أيام الله عزوجل نتربى على الصمت من انه نعمة هائلة مسلوبة منّا، فعندما نعيشها تبصر بصيرتنا ونستسلم لصمت اللسان وقول العقل، ونشعر بحاجة لوعي أكبر، في عالم من العمى عن الحقائق والسلام والمحبة.
الصمت هو العلم الأصعب من علم الكلام، تجعل الانسان مسيطرا على من يقف أمامه ومن يحاوره في نظرات ناطقة تحمل آلاف التفاسير في عقلية المقابل، ليتبين لنا اننا لن نفشل في تحقيق ما نريد لان العقل بدأ يتحكم بالوقت وبالموقف، حيث لا شيء يرف حولنا غير الغيب وعوالمه ومن فوقنا العرش.
هكذا يربينا الله عزوجل عبر ايامه سبحانه وتعالى ..
فهل باستطاعتنا تبنّي ثقافة الصمت الاعلامي هذه ؟
……..