ضمن فعاليات عروض مهرجان المسرح العراقي الثاني ضد الارهاب , قدمت محافظة واسط / بالتعاون مع شعبة النشاط المدرسي مسرحية ( فلفسة ) وهي من تأليف علي ناظم الموسوي . اخراج عمار شاكر القطبي . تمثيل عمار القطبي , علي ناظم الموسوي , وسن يونس .
لعل الملاحظة الاولى التي تسجل في مفتتح المقاربة النقدية لهذا العرض , هي ان مؤلف المسرحية ومخرجها , هما نفسهما ممثلي الشخصيات الرئيسة , فضلا عن شخصية المرأة التي ادتها وسن يونس . وهذه التقدمة تقود المتلقي الى مفاتيح اللعبة الدرامية ومعطياتها الدلالية والتأويلية .
حيث يترتب على ذلك وعي اقرب الى روح الثيمة الفكرية للنص ودلالاتها من قبل مؤلفه ( الشخص 2) بوصفه منتج الخطاب النصي للعرض ومؤدلج ثيمته الفكرية عبر مرموزات لفظية , اختيرت بعناية وتركيز واقتضاب موح , يفصح عن مقدرة طيبة في توظيف اكبر قدر من الافكار المراد طرحها باقل الحوارات النصية . وبالتالي التخلص من هيمنة اللغة السردية كما يحدث احيانا في الكثير من النصوص المسرحية .
فضلا عن ذلك فان مخرج العرض , هو الاخر الممثل الثاني في العرض ( الشخص1 ) وهو المفسر والمؤول لثيمة النص الفكرية , وانشاء المنظومة الصورية للنص , وتحويله من حالته الساكنة على الورق , الى افعال حية تسند بعناصر سمعية وبصرية , تكون بمجملها العرض المسرحي في صورته النهائية .
اولى المثابات التي تواجه المتلقي , المغايرة القصدية للعنوان في التصرف بكلمة ( فلسفة ) وتحويرها – ان صح التعبير- الى كلمة جديدة هي ( فلفسة ) . وحيث ان العنوان هو ثريا النص , فقد احالنا العنوان الجديد المقترح الى طرح اسئلة اشكالوية هو الدلالة المعرفية للكلمة , ومن ثم البحث عن دلالات تتسق مع مسار الحدث او الاحداث الدرامية التي سيطرحها النص .
وحيث ان ( الفلسفة ) في احد واوجز تعريفاتها هي ( حب الحكمة وطلب المعرفة ) و ( المنطق في تفسير الوجود ) فان المجترح العنواني الاخر ( فلفسة ) يشير الى تفريغ المعنى الدلالي للكلمة , والاحالة الى خوائها وعبثيتها الاشارية , للوصول الى هامش معنى يقترب من حالة اليأس التي وسمت شخصيتي العرض اتساقا مع السياق النصي للفكرة المهيمنة , التي تتناول مجموعة من الاحداث المتتالية لشخصين يرتبطان بـ( حبل ) في الشكل المادي للتجسيد , ولكنه يحمل معان عدة منها : الحبل السري , او الارتباط الفكري او الروحي , او الوجداني , او الديموغرافي , الذي حكمته ظروف موضوعية وذاتية معينة , وهي بالأساس السبب الموجب لذلك نتيجة لحالة فكرية مهيمنة تؤسس خط التواصل بين مرسلي العرض والمتلقي , الا وهو فكرة الحروب وتمثلاتها , في العنف والارهاب والسأم منها , وهو ما يتسق مع شعار المهرجان المسرحي الثاني .
الشخص 2: لقد سئمت من القتال ..قتال ..قتال .. قتال ..نحن لن نخلق فقط من اجل القتال .. اريد ان اعيش بسلام مثل كل الناس .
على وفق مسار تلك الامثولة الفكرية اسس المخرج / الممثل ( القطبي) خطته الاخراجية , منطلقا في تأثيث المساحة المكانية للعرض باتجاه خلق توازن منظري تمثل في تشكيل منظور مثلث رأسه في اعلى منتصف المسرح وضلعاه منفرجان الى وسط وسط يمين , ووسط وسط يسار المسرح .
تشكلت كتلتا يمين ويسار المسرح بحاجز واطئ مكون من مجموعة من اكياس الرمل , وبقايا طابوق متناثر .. ما يحيل الى معاني قد يكون اقربها حدود المكان / الوطن المتداعية بفعل عوامل التعرية الجغرافية , او بفعل الحروب المتكررة , او الترميز الى هشاشة المقتربات الحدودية تجاه الغزو الخارجي , فضلا عن انفساحها امام المغادرين هجرة ووداعا .
وفي اعلى منتصف المسرح , بقايا حائط هو جزء من بيت ناله الدمار فلم يبقى الا شاخص شاهد على زمان ومكان تتجدد فيه المأساة :
الشخص 1 : انظر الى الخراب الذي وصلنا اليه ,,ساعدني افعل شيئا .
وقد عمد المخرج الى املاء الفسحة المكانية الواقعة داخل هذه الحدود المنظرية بحركة ذات خطوط تعامدية مستقيمة او متقاطعة , ومتداخلة احيانا , صعودا ونزولا الى مقدمة المسرح يمينا ويسارا , في اتساق حركي يشي بوعي جمالي ينطلق من خبرة وممارسة طيبة في انشاء الحركة على وفق اهدافها ودوافعها الدرامية , منطلقا من تفسير تجسيدي لمعاني النص , والتعبير عنها بمعادل موضوعي حركي فاعل .
فضلا عن ذلك فقد كان لاشتغال المعنى التحولي لاستخدام المفردة الاكسسوارية المتمثلة بـ( الحبل ) الى مسبحة للصلاة , والة موسيقية , ومشنقة , وجهاز هاتف نقال , وسوط , جهاز محرك ميكانيكي , لجام لقيادة الحيوان , اداة تستخدم في الممارسات الدينية , واستخدامات اخرى اتسقت مع الحالة الشعورية للشخصيات في تعقدها وانفراجها . تلك الاشتغالات اضافت نسقا جماليا فاعلا في الاثارة المشهدية والانتقال بالمفردة من حالتها الاستعمالية الى حالتها الفنية ذات المحمولات الدلالية الجديدة .
ولعل الفعل الاهم لمفردة ( الحبل ) في كونها المهيمنة على التحكم في حركة الشخصيتين وتداخلهما او ابتعادهما بحدود طول الحبل المعقود من منتصفه , ما يعني ان انفراط تلك العقدة في نهاية المسرحية , انفراط اواصر الجمع بين الشخصيتين / النقيضين , المجبرين بفعل محددات وجودية , اي بمعنى ان وجود كل منهما مهم للآخر , كما هو حال قطبي السالب والموجب , او الليل , او الثنائيات الاخرى , التي قد ينتفي وجودها بغياب الاخر ..
الشخص 2 : انا امثل الدماغ , وانت تمثل العضلات ..
وتقوم المرأة القادمة من بين الجمهور بمعانيها المتعددة , الام , الوطن , الامل , الخير , في عقد الحبل من جديد , بوصفهما مكملين لبعضهما فعلا ووجودا , للتخلص من عوامل الشر والاحباط التي يمران بها .
ان اشتغال الرؤية الاخراجية وتطبيق مفترضاتها الفنية , يتساوق مع الفعل الادائي التمثيلي الذي يتأسس بفعل التواصل الحي بين الممثل والمتلقي , على وفق اشتغال طاقة الممثل الأدائية المكونة من قدراته الجسدية والصوتية وكينونته الذاتية المتمثلة بقنوات التعبير الحسية .
إن تلك القدرات تتميز ببث العلامات المركبة في قناة مشتركة , تعمل كمرسل فاعل لتحقيق غاية العرض التواصلية في إيصال الرسالة الفكرية والجمالية .وقد تناغم هذا بين مؤديي الشخصيتين , وخاصة في حالات الانتقالات الشعورية عبر مسار الفعل الدرامي , والتحول من حالة شعورية الى اخرى عبر فواصل ازعم تسميتها بالأداء في درجة الصفر – استعارة من بارت- وهو القدرة الادائية الواعية للممثل للانتقال من حالة شعورية كالحزن مثلا , الى حالة الفرح , او الانتقال من حالة الصخب الى الهدوء , او بالعكس , دون تداخل الحالات الادائية , او انتقال شوائب اداء حالة الى اخرى . وهذا ما يشي بالوعي والمقدرة الطيبة للممثلين في تلم التحولات , وبالتالي انطباعها القيمي لدى المتلقي في مزاج جمالي يدفع الى المتابعة بانتظار فعل ادائي جديد ..
إن الممثل في هذا العرض , هو التجسيد العياني الملحوظ , لبنية الشخصية المسرحية المفترضة في شكلها الأدبي . ومن خلال مهمة الممثل الأدائية تم ملء الفجوات الاشارية النصية إلى حالات درامية تشخيصية تمظهرت من خلال اتحاد مستويات الأداء الصوتية والجسدية وقنوات التعبير الحسية , على وفق غنى المخيلة الجمالية للممثل , والتي تنتج أساسا من فهم واع وتصور جدلي مع البنية النصية , ومن ثم تقديمها بمستوى أدائي معين .
إن الممثل في العرض المسرحي , يتسق مع منظومة من الشفرات أو العلامات , منها ما يتعلق به ذاتيا , ومنها ما يتعلق ببقية عناصر العرض المسرحي التي تؤدي في النهاية إلى إقامة علاقة تواصلية مع المتلقي .
ومن العناصر المكملة للعرض , اشتغلت المؤثرات الموسيقية في بنية تفاعلية مع الحدث الدرامي باتساق جمالي تنوع بين مقطوعات ( جاهزة ) واخرى تم عزفها مباشرة , ما يؤكد قولنا ان هناك وعيا جماليا لمنتجي العرض . فضلا عن توافق الاضاءة المسرحية في الاسهام باضفاء لمسات مؤثرة مع تأشير بعض الهنات التي ترافق اغلب العروض المسرحية على وفق البنية التحتية لقاعات العرض المسرحي . اخيرا تحية لمقدمي العرض المسرحي ( فلفسة ) لإضاءة بقعة معتمة من يومياتنا الملبدة بغيوم الموت والدمار , منطلقين في ذلك من وعي متقدم لتناول الثيمة الفكرية المهيمنة للمهرجان بأسلوب جمالي واع بعيدا عن المباشرة والسطحية في التناول والطرح والتنفيذ .
—