تلمست بعض الذيول , ومشيت في خرائط الموت المقرر لنا جميعا وأنا أقرأ رواية (( مثلث الموت )) للكاتب (( علي لفته سعيد )) , من اصدارات دار سطور .
واذا كان موضوع الوجع العراقي ومأساة الموت الجماعي والفردي – موت المجتمع – موت مقدراته – موت نسيجه و تكوينه الفكري , ليس جديدا ونعايشه يوم بيوم , فأنني قد وجدت بين سطور وأحداث هذه الرواية شمولية الطرح لهذا الموضوع بوجوهه المتعددة . فقد تلمست فيها خيوط وذيول وتشعبات هذا الموت .
فالرواية تبدأ بحدث بسيط ومألوف وهو العثور في دائرة أمنية على ملف من الملفات (( الكثيرة للعراقيين ! )) والتي تقودنا تفاصيلها بحيث تتحول محتويات هذا الملف الى (( رمزية )) تقدم مثالا صارخا للوجدان العراقي الذي تم تحريفه وتمزيقه وتشويهه وبيعه وشراؤه خلال حقبة – سلطة الحكم السابقة – .
والرواية هي قصة عدد من الصحفيين العراقيين الذين يكدون ويجاهدون في مهنتهم لأجل الحياة ولقمة العيش ومكنتهم هذه المهنة من أن يكونوا على تماس مع الكثير من الشخصيات المؤثرة والتطورات السياسية والأحداث على الساحة العراقية . وتتناول الرواية عدد من الشخوص المتفاوته في القدر والأهمية من حيث الدلالة والأشارة والرمزية ففيها : شخصيات ترمز الى واقع تم تحريفه منذ زمن السلطات السابقة ويتم الآن تمزيقه وحرقه تحت ذرائع مختلفة التسميات والأغراض – شخصيات نفعية ومتلونة ذات ماض بائس تتخذ الآن من الدين والجهاد في سبيل الله (( كما تدعي )) وسيلة لتحقيق مآرب وغايات شخصية نفعية وبعضها لتحقيق غايات مرتبطة بمخططات و(( أجندات )) غريبة – شخصيات رجال أمن ومخابرات سابقين يعيثون فسادا وقتلا بالناس بأدعات مختلفة – كتاب تقارير ومخبرين سابقين يتسترون الآن بعباءة الدين ويوظفون الفعل (( الطائفي )) لمصالحهم – شخصيات مسؤولين وأصحاب مراكز حالية في السلطة – شخصيات منكوبة وأعدم ذويها في زمن النظام السابق – شخصيات من ناس نظيفين وصادقين يضمحل دورهم ويختفي – أشخاص نفعيين وهامشيين يتطلعون الى توظيف الأحداث والأستفادة منها لخدمة أو منفعة شخصية عابرة . وبهذا يكون الكاتب قد تفنن وأجاد بعكس الشريحة الأجتماعية وكما يقتطع (( مقطع بالعرض )) لمكونات الواقع العراقي القائم و (( الفعال )) بدون ان يدخلنا في سرد رتيب وممل .
في الرواية الكثير من الواقع وفيها الكثير من المتخيل , ممايشير الى قدرة عالية لدى الكاتب في توظيف الشخوص وتحريكها بما يوصله الى هدفه وغايته ومايريد أن يقوله لنا بلغة هادئة رصينة خالية من التكلف تقود القاريء بهدوء واتزان وتمنحه الأرتياح والتشويق والأستيعاب المطلوب , وتنتقل بالقاريء في عدد – محدد – من الأماكن التي انتقاها الكاتب بذكاء وحرفية ونقلنا اليها بطريقة سلسة ومكننا من المعايشة فيها بعض الوقت . ورسم بفطنة ومفهومية عدد من الأحداث المتواترة والمتناوبة وقد عززها بالكثير من السوابق والمداخلات والأستدراكات السردية التي تهيء وترسم المشهد الحكائي وتخدم موضوع الرواية وتوفر لنا المعرفة الموضوعية والدلالات والرموز التي يريد الكاتب الوصول اليها .
وقد كانت تطورات البناء القصصي والحكائي تنمو وتتصاعد من نقاط ارتكاز محددة وتتشعب بالتنامي والتطور لخدمة موضوع الكاتب ومايريدة ومايرمي ان يوصله الينا بأنتقالات موفقة وجيدة بين تفاصيل مايجري في الشارع ومايجري داخل الغرف وخلف الكواليس وتحت السرادقات وتجمعات الضيافة وفي الأنتقالات بين الأماكن الرسمية الوجاهية , والتنقلات بين ماضي الشخوص وحاضرها , تفكيرها وتصرفاتها التي تتناوب بين المعلوم والمجهول ..
طرح علي لفته سعيد في روايته الكثير من التساؤلات والعديد من التوضيحات مثل (( لماذا كل هذا الذي يحصل . . مواجهات هنا وتفجيرات هناك ؟ من يقف وراء كل ذلك ص93 )) و (( الحياة في العراق هي الشيء الأستثنائي وليس الموت ص100 )) والكثير غير هذا . ويرسم صورة مقتطعة لعبثية وغرائبية سلوك الفرد العراقي الذي لايبالي متخذا من بعض حالات (( منتظر )) نموذجا : (( كان يحمل بيده الحذاء الجديد . . ينظر في وجوه الناس السادرة في بحثها عن الخلاص ص95 )) و (( وعن التفكير الذي طغى عليها كليا . . الخروج من العراق هو الأسلم ص94 )) و (( اجابات الشهود الذين يزودون بها سلاما . . وجدها تختلف عن روايته ص98 )) .
وتبث الرواية بين طيات فصولها قدرا من الوعي الفكري الذي يوجهه الكاتب بأدارة خفية لايشعر بها المتلقي , كما في : (( ان نقل الأقوال الزائدة يعني حصيلة هدر دم زائد ص68 )) أو (( خذوا أقوال الناس المحايدين الذين يؤكدون ان مايحصل هو أجندات خارجية ص68 )) أو (( انه علماني يعبد الله ولايريد أن يكون الدين والدولة في ميزان واحد احتراما لقدسية الدين ص72 )) .
أنشا الكاتب تواترات جميلة تنتقل بنا من مكان الى مكان ومن صورة قصصية الى صورة أخرى مع وحدة الموضوع والمضمون بيسر وسهولة كما حصل في الفصول والأجزاء المتعلقة برحلة – التيه – الذهاب لكل من (( سلام – خضير – أحمد )) من كربلاء الى بغداد , دخول منطقة (( مثلث الموت )) , اللطيفية – المحمودية – اليوسفية ثم بغداد , مظاهر الخوف والرعب التي تم المرور بها , المأزق والمصير الذي ذهب اليه سلام الى المنطقة المليئة بمؤشرات الأرهاب والموت : (( وان هذه المنطقة كانت حتى في زمن النظام السابق منطقة التناقضات ص145 )) , المأزق والمصير الذي انزلق اليه خضير وأحمد . ويجيد الكاتب في هذا الجزء من الرواية بشد النص الروائي الى التشويق ويجيد ترتيب الفصول وتنظيم نصه القصصي بين السوابق واللواحق وبين الذاتي والموضوعي الذي يتبلور هنا ويظهر من جراء هذه الحادثة ليمتد بألقاء الضوء على كل موضوع ومضمون الرواية بعشرات التساؤلات .
انها المعادلة التي جعلنا الكاتب نبحث عن تفسيرها والبحث عن (( أسها )) , معادلة الموت المقيم بيننا ، والذي تميز في ظل النظام السابق بالأعدامات وجبهات الحروب العبثية , واليوم يتنقل الموت بيننا بوجوه متعددة ويلبس مسميات مختلفة : (( ان الحروب التي يخوضها الناس لاتعني سوى بطولة فردية لأبطال موهمين بالسلطة ص168 )) و (( فأن مشهد المسلحين يشبه ماكان قد تعرض له في الحرب مع ايران ص168 )) و (( الحرب الآن حرب أمكنة وطوائف ومذاهب وخوف وقتل وقطع رقاب ص169 )) .
لقد رسم الكاتب علي لفته سعيد صورة واضحة للموت المجاني ، سواء حين تكون الهوية أو الطائفة أو العشيرة أو المدينة جريمة نتيجتها الموت , أو حين يكون الموت بسبب وشاية مغرضة أو تقرير كاذب من رخيص أو ساقطة مخبرة أمن , أومن جراء سلسلة الحروب العبثية في زمن ذلك النظام . وقد أظهر الكاتب وحدة خطاب الموت في الزمن السابق والزمن الحالي ، أظهر وحدة الخطابين مع اختلاف المنظر والمظهر . انها آلة القتل المتعددة الوجوه , القتل المستمر لأسباب وادعاءات وايدلوجيات مجهولة المصير لم تخلف وراءها غير آثار المأساة .
ولم يفت الكاتب التطرق الى حلقة فساد وسمسرة المتنفذين وهي حلقة أساسية مختلفة الوجه من حلقات الموت والهدم المجاني .
كما قلت , لقد كان الأداء السردي للكاتب موفقا في تناوب الأدوار والتواتر والآستدراكات والرجوع الى المكونات الخلفية (( الماضية )) كأجزاء مكونة و(( ومكملة )) للصورة التي أمامنا . وقد أدى علي لفته سعيد وظائفه السردية , وطرح موضوعه ووجهة نظره بضبط وتنسيق محكم وقد أحسن وأجاد بها .
هذه الرواية بواقعيتها وتمكنها واستيعابها للموضوع الذي تضمنته ستكون وثيقة عراقية , تؤرخ وتوثق , وشاهد , لحقبة ليست قصيرة من الزمن في عمر العراقيين . وقد كان الكاتب مبدعا في رسم الشخوص والتداعيات والأرهاصات وتقديمها لنا , والأنتقال بنا بهدوء وأناة بين تفاصيلها . وهي علامة بارزة تستحق الأعجاب والتقدير فيما يجب (( الآن )) أن يكون عليه أدبنا وثقافتنا وأقلامنا .
وهي هم وطني ننوء بحمله جميعا , أنحني تقديرا واحتراما الى الكاتب علي لفته سعيد الذي فصله وفسره ورسم خيوطه وذيوله وتبعاته وقدمه لنا على (( طبق من ذهب )) , تحية للأدب الملتزم في كل عصر .
كريم عبدالله هاشم
Kareem_pen@yahoo.com
—