أجرى الحوار: الكاتب المهدي مستقيم من مجلة “يتفكرون” المغربية
د. عزالدين عناية:
منذ أن دشن الراحل محمد أركون مشروع نقد العقل الإسلامي في سبعينات القرن العشرين وهو يؤكد ويردد بأن الأمر يتعلق بمشروع كبير يحتاج إلى فتح عدة أوراش من أجل مباشرة عمليات الحفر والتنقيب في تلك الطبقات المتراكمة عبر عصور طويلة من تاريخ العرب والمسلمين. ورغم إدراكه لصعوبة المشروع فقد كان مقتنعا بأنه سيأتي الوقت الذي سينهض المثقفون العرب والمسلمون للقيام بهذه المهمة، فذلك هو السبيل الوحيد للخروج من مرحلة الانسداد التاريخي التي تعيشها الشعوب العربية الإسلامية في العصور الحالية.
وبالفعل ظهر جيل من الباحثين والمفكرين أخذوا على عاتقهم حمل المشعل والمضي في الطريق من أجل تحقيق الهدف. الأمر يتعلق بمجموعة من الباحثين تخرجوا من جامعة الزيتونة وعزموا على التخصص في الفلسفة و التاريخ وسوسيولوجيا الأديان من بينهم الأساتذة: عدنان المقراني وحسن سعيد جالو وعامر الحافي ومحسن العوني وعز الدين عناية، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين ومحرومين –كما توقع ذلك أركون- من الدعم الكافي لممارسة عملهم بل أكثر من ذلك حرموا من الحصول على وظيفة تمكنهم من الإستمرار في العيش فكان أن غادروا البلد ولجأوا إلى بلدان مختلفة .
وهذا الحوار سنخصصه لباحث من هؤلاء هاجر إلى الديار الإيطالية وحصل على الجنسية الإيطالية وأصبح مدرسا في جامعة روما لاسابيينسا. ألا وهو الدكتور عز الدين عناية.
كرس عزالدين عناية حياته العلمية لدراسة الظاهرة الدينية من خلال ترجمة بعض الأعمال وتأليف مصنفات أخرى تصب كلها في تيار نقد الفكر الديني نقدا علميا موضوعيا. حيث ترجم كتاب “علم الأديان: مساهمة في التأسيس” للعالم الأنتروبولجي الفرنسي “ميشال مسلان” (المركز الثقافي العربي2009). وكان هدفه من هذا العمل هو ملء حالة الفراغ العلمي في مجال الدراسات الدينية حيث يغيب علم الاجتماع الديني والأنتروبلوجيا الدينية وتاريخ الأديان وعلم النفس الديني وعلم الأديان المقارن، لتحل محلها العلوم الشرعية والفقهية التي تجعل من العقل غارقا بين أمواج الملل فتستمر الانقسامات ذات الطابع المذهبي بين الفرق والمذاهب وليس بين الآراء والأفكار. إن هذه العلوم الجديدة التي أصبحت اليوم ضرورية لفهم مجتمعاتنا التي يلعب فيها المقدس دورا كبيرا في حياة الناس ورغم أن الكتاب المترجم يعتبر من كلاسيكيات هذه البحوث فإنه ساهم بشكل كبير في بلورة المنهج الشامل لعلم الأديان الذي يتطلع للإحاطة بالتجربة الدينية للإنسان.
في كتاب “الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري” (دار الجمل 2006) يحلل عزالدين عناية الإنتاج الفكري العربي الحديث عن اليهود واليهودية ويطلق عليه نعت “الاستهواد” مبينا بأن العلاقة الوطيدة بين النص القرآني والنص التوراتي في مجالات العقيدة والتشريع، بالإضافة إلى علاقة المسلمين واليهود في الجزيرة العربية، شكلت مصدرا غنيا للفكر الإسلامي الكلاسيكي والفكر الغربي الحديث في معالجة الظاهرة اليهودية. كما اهتم الفكر العربي الحديث باليهودية بعد قيام الدولة العبرية في فلسطين وهي الدولة التي تستلهم وجودها من النص التوراتي حيث اختلط البعد الإيديولوجي بالعلمي والبعد الديني بالسياسي . بعد جرده للدراسات العربية حول اليهود منذ كتابات عباس محمود العقاد إلى أبحاث السيد محمود القمني قام المؤلف بقراءة تحليلية لهذه الإنتاجات من منظور نقدي مصححا في نفس الوقت بعض التصورات والمغالطات التي نشأت من التعامل غير الموضوعي وغير العلمي مع التراث العبري اليهودي متطرقا كذلك للشخصية اليهودية محاولا النظر إليها نظرة جديدة فهي ليست شخصية جامدة أو ثابتة على مدار التاريخ، ولذا ينبغي التعامل معها ضمن التبدلات الاجتماعية ومتغيراتها مع ملاحظة التراث اليهودي وأثره في تركيب الشخصية اليهودية وتوجيهها.
أما كتاب “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم” (دار توبقال 2010) فهو عبارة عن إعادة قراءة المسيحية في تجلياتها المعاصرة وماتمثله من تحد للفكر العربي المعاصر، فالمسيحية لايمكن اختزالها في رسالة روحية ينقصها الجانب الدنيوي في غفلة عن التطورات الحاصلة في المجتمع كما هو شائع في أذهان عامة الناس وبعض المثقفين ، بل هي ديانة حية ونشيطة وحاضرة بشكل قوي في الخيارات المجتمعية والسياسية لكثير من البلدان.
وعموما فإن هذين الكتابين حول اليهودية والمسيحية وموقف الفكر العربي الحديث منهما يدخلان في إطار الدعوة إلى انفتاح الباحثين العرب على البحث العلمي الجاد النقدي والهادئ لمقاربة الظاهرة الدينية بصفة عامة من خلال هذين النموذجين وتنبيه العقل العربي والإسلامي إلى ضرورة التسلح بالمناهج الجديدة والفتوحات المعرفية الجديدة التي من شأنها أن تفتح الباب أمام فهم جدي للدور الذي يلعبه الدين في الحياة الاجتماعية بعيدا عن التجييش الأصولي وعن التناول البسيط للظاهرة الدينية في الثقافة العربية المعاصرة.
وفي كتاب آخر بعنوان: “العقل الإسلامي: عوائق التحرر وتحديات الانبعاث” (دار الطليعة 2011) جدد عزالدين عناية الدعوة إلى تأسيس سوسيولوجيا لفهم الديني في المجتمعات العربية الإسلامية حيث يتصارع قطبان متضادان على احتكار الدين وتوظيفه لخدمة مصالحه وإيديولوجيته وهما : الإسلام السلطوي والإسلام الأصولي. حيث يلتقيان في رفضهما أية تأويلية مغايرة لرؤية كل منهما، وتحمى معركة احتكار ثروة المخيال الديني والروحي للجماهير باسم الشرعية والتمثيل الرسمي. فيبدو الإسلام الشعبي الجماهيري يتيما بين الإسلام السلطوي المدعوم بقوة السلطة وجهازها القمعي، والإسلام الأصولي المختزن لهياج متفجر، كل يريد أن يركب حصان الجماهير، وتوجيهها حسب مبتغاه، لما تستبطنه من طاقة ومشروعية. ولذلك يراهن الإسلام الأصولي على الفاكرة الشعبية المسكونة بالأحلام والطوباويات المتشكلة مع الإسلام التأسيسي، ويراود تلك المخيلة عله يسندها، ويتحاشى أن يعرض نفسه على الانتلجنسيا التي تمحص الأشياء معرفيا، لما يحمله في فكره من تناقضات. فتجده يتوجه إلى كتل العامة، التي بالكاد تخطت عتبة الأمية، وما امتلكت رؤى نظرية وفكرية تسمح لها بتمحيص المفاهيم، وحتى إن توجه إلى الجماعات المتعلمة تعليما راقيا، فغالبا مايجنح إلى تلك المنحدرة من التخصصات العلمية الصحيحة، الهندسية والطبية، التي يعرضها بكونها الكوادر المثقفة، وهي بالحقيقة كوادر مهنية لاثقافية.
•المهدي مستقيم: كيف تقدم نفسك للقارئ العربي؟
•عز الدين عناية: لعلّه ينطبق عليّ قول كارل غوستاف يونغ “أفكاري تدور حول الله كما تدور الكواكب حول الشمس”، فأنا “كائن متدين” متحرر من الباراديغمات، أجد في نفسي قدرة هائلة للتعايش مع كافة أشكال الإيمان واللاإيمان، فضلا عما لديّ من شغف بقضايا التديّن واللاتدين، أسعى من ورائها لاكتشاف سُنن الدين وتبدلاته، وإن بدا الأمر خارج الضبط. وأحمد الله على أني ابن ثقافتين إسلامية ومسيحية خلّفتا لدي قدرة على رؤية الظواهر والوقائع بمنظورين مختلفين قلّ أن يُتاحا للمرء.
•المهدي مستقيم: أين وصل مشروع نقد العقل الإسلامي الذي اعلن عنه الراحل محمد أركون؟
•عز الدين عناية: أيّ منشغل بقضايا الدين بحقّ هو في ورشة مشرعة على الزمان والمكان، ليس فيها بداية ولا نهاية، فقدرُ العقل الديني التاريخي أن يبني كيانه ثم يفككه، ثم يعيد بناءه في حركة لا تعرف التوقف. ومن وجهة نظري ليس ثمة مشروع لنقد العقل الديني بل ثمة مسعى لترسيخ العقلانية وهو مسار لا ينتهي. فاهتمامي بالعقل الإسلامي هو من ناحية النظر للأديان الأخرى، وهذا متأتّ من تخصصي في دراسات الأديان سواء في مرحلة الدراسة الزيتونية الأولى أو في جامعتي القديس توما الأكويني والغريغورية في روما لاحقا.
صحيح أن الراحل محمد أركون من أبرز المشتغلين في عصرنا على ما يُعرف بنقد العقل الإسلامي، ولكن بيني وبينه مسافة، فهو ابن السربون وأنا سليل الزيتونة، هو من أنصار التنوير العلماني وأنا من أنصار التنوير الإيماني، هو فرنكفوني الهوى وأنا مغاربي المشاغل، وإن كان بيتي على مرمى حجر من المسرح الروماني.
لا شك أن أركون عقل فذّ، مثل القديس أوغسطين، ولكن كلاهما نسي أصله الإفريقي، فالسابق تماهى مع “الرومانية” وتنكر للدوناتيين الأفارقة الذين قالوا نحن أفارقة أولا ثم مسيحيين ثانيا، واللاحق تماهى مع “الفرنكفونية” حتى بات علما من أعلامها وفارسا من فرسانها، فقد كان أوغسطين تجليا لعقل قرطاج المروْمن وأركون تجليا للعقل المغاربي المفرْنس.
•المهدي مستقيم: كيف جاءتك فكرة الانخراط في هذا المشروع الضخم؟
•عز الدين عناية: كان لدي شغف بالتوراة والإنجيل والقرآن منذ عهد الصبى، حين كنت أصغي إلى والدي وهو يرتل القرآن بُعيد صلاة العصر كل مساء تقريبا، وقد زاد ذلك الشغف مع تعرضي المبكر لتهمة سياسية دينية، وأنا في سنّ السادسة عشر، بالتشيّع لآل البيت وموالاة نظام الثورة الإسلامية في إيران، بقيت تبعاتها عقودا تلاحقني، صودر لأجلها جواز سفري ومُنعت من الشغل في بلدي وكنتُ عرضة للمتابعة الأمنية الدائمة وتفتيش محل سكناي، إنها إحدى عجائب الزمن العربي البوليسي والكل مبني على شبهة. ولذلك ما كان اختياري الهجرة رغبة بل بعد أن انسدت أمامي كافة السبل. لكن يبقى ذلك من جملة عوامل دفعتني للميل للمسائل الدينية. وهو ما تطوّر لاحقا إلى وعي علمي ومعالجة رصينة، إيمانا بأن ثمة حاجات ملحة في الثقافة العربية، ومن هذا الأمر بتُّ أحدّد مساري. وبصفة تكويني الديني المزدوج اللاهوتي والعلمي، والمتنوع، الإسلامي والمسيحي واليهودي، وجدت نفسي في خضمّ قضايا التراث الإبراهيمي. فكما تشغلني مسائل الإسلام تشغلني مسائل المسيحية أيضا، لذلك أجدني أحيانا مغرقا في قضايا المسيحية العربية أكثر ممن يدينون بهذا الدين، ربما لأن اهتمامي بالظاهرة الدينية ليس من زاوية الاعتقاد، بل بوصفها تجربة بشرية أسعى جاهدا للتملي فيها.
وبرغم أن دين الإسلام هو نابع من عمق التراث الإبراهيمي، أرى تفريطا في الاشتغال العلمي على تفرعات هذا التراث، لا سيما ركنيه المسيحي واليهودي، لذلك أسلّط اهتماما مكثفا على هذين المجالين، أسعى فيه لنقل الخطاب العربي السطحي والساذج بالمسيحية إلى خطاب علمي نقدي. لأن هناك خطابا كارثيا، مشبعا بالنحيب عن مصائر هذه الدين، يقابله خطاب فخري مداهن لا يذهب بعيدا في قراءة الوقائع. كما أن ثمة انحرافا منهجيا رهيبا في قراءة اليهودية في الثقافة العربية الحديثة حذّرتُ من تداعياته في كتابي “الاستهواد العربي”.
•المهدي مستقيم: ما هي أهم الصعوبات والعراقيل التي تعترض مشروع جاد كهذا؟
•عز الدين عناية: توجد عراقيل جمة تعترض مراجعة العقل الديني أو إعادة تفكيكه بوجه عام، منها افتقاد العاملين من داخل الحاضنة العربية إلى الأدوات، فما عادت قدرات العقل التقليدي -في المجال الإسلامي- كافية أو قادرة لتناول هذه المسألة وإدراكها. لعل جامعاتنا الدينية في البلاد العربية هي الأفقر في الإلمام بأدوات قراءة الدين اليوم، مع ذلك تصرّ على احتكار مشروعية النطق باسمه. لكن الخطورة الكبرى التي تتهدد مشروع نقد العقل الديني في الراهن العربي وهي الاصطفاف الإيديولوجي المتفشي بين المثقفين، والمثقف العربي لم يتحرر بعد ماديا حتى يتحرر فكريا في النظر إلى الظواهر وإعمال العقل بكل مصداقية.
لكن فضلا عن الافتقار للأدوات التي أشرت إليها توجد إشكالية عويصة تحاصر الدارس العربي، ألا وهي وقوعه رهن السياسة، فليس لدينا بحثٌ حرٌّ، هناك بحث مسيَّسٌ ومغشوش محكوم بالرهبة من السلطة وبالعداء الإيديولوجي المرضي بين العائلات الفكرية، وأقدِّر أنه عائد للأمر التالي: لدينا مكوَّن علماني، أو لا إيماني، أو إلحادي -سمِّه ما شئت- في مقاربة الدين في الثقافة العربية، لا زلنا نتعامل معه بالطمس والتغييب والمراوغة، والحال أننا ينبغي أن نصارح أنفسنا ونخرج من دائرة النفاق. أستحضر عناوين ثلاثة أعمال صادرة في إيطاليا تعبر عن ذلك الحوار العميق بين العقل العلماني والعقل الإيماني: الأول بعنوان “في ما يعتقد من لا يعتقد؟” يجمع بين أومبرتو إيكو والكردينال كارلو ماريا مارتيني؛ والثاني تلك المحاورة الشهيرة بعنوان “حوار العقل والإيمان” التي جمعت بين البابا راتسينغر والفيلسوف هابرماس؛ والثالث بعنوان “الكردينال والفيلسوف” جمع بين المفكر الفرنسي لوك فيري والكردينال رافازي. نحن ما زلنا خارج هذا الضرب من الحوار، بين العقل الإيماني والعقل العلماني، وجزء من مصائبنا جراء غياب هذا التعاطي المتكامل مع المسألة الدينية، فنحن أبناء وطن واحد وثقافة واحدة ينبغي أن نجلس جنبا إلى جنب ونبني طريقنا وإلا سقط السقف على الجميع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل في جملة من البلاد العربية.
أضف إلى ذلك، وجود أمراض شائعة بين المشتغلين بالفكر في الساحة العربية، ولا سيما منهم الجامعيين، أنهم حوّلوا الجامعة إلى محل لصنع الثروة والوجاهة الزائفة بدل المعرفة والتنوير. في جامعة روما لاسبيينسا، وهي أكبر جامعة أوروبية على الإطلاق، عميد كلية الدراسات الشرقية يأتي إلى عمله على دراجة نارية، وأعرف أساتذة يأتون على دراجة هوائية، ولعل ذلك يمثّل فضيحة في الأوساط الجامعية العربية التي باتت تولي المظهر اهتماما يتخطى الجوهر.
•المهدي مستقيم: هل يمكن أن تحدثنا عن بدايات أبحاثك التي خصت “نقد العقل الإسلامي”؟
•عز الدين عناية: ما أتطرق إليه عامة هو تطوير التصور الإسلامي في النظر إلى العالم، لإيماني بأننا ما لم نغير مناهجنا فلن نعي العالم. كانت دراستي الجامعية الأولى في الزيتونة، وقد قضيت هناك زهاء العقد طالبا وباحثا، تقلبت الجامعةُ أثناءه بين مناخات فكرية متنوعة سلطوية وإسلاموية وصراعية، لذلك أقول: لا يعرف العشق إلا من يكابده ولا يعرف علل العقل الديني إلا من عاش داخل أحضانه. والخلاصة التي تراءت لي أن العقل الزيتوني قد غدا في عداد الأموات، فقد تلوثت المعرفة الدينية بالاغتراب وبالتحزب السياسي الانتهازي. لكن دراستي الثانية في وسط لاهوتي كاثوليكي في روما بينت لي، ومن باب المقارنة، مدى حيوية الآخر في تناول قضايا الدين، فأجد نفسي مدفوعا دفعا لتنبيه العقل الإسلامي بما حصل لدى الآخر من تطور، وما لديه من ورشات مفتوحة مشرعة على شتى المجالات.
كان كتابي الأول الصادر بالعربية بعنوان “الاستهواد العربي”، أي علم اليهودية، هو في الواقع رصد لما كتبه العرب خلال النصف الثاني من القرن الماضي حول الدين اليهودي، والتمعن في تلك الأدبيات من ناحية نقدية وتحليلية. رصدتُ وَهَنًا علميا كبيرا في ما كتبه العرب تجاه هذا الدين، أنتجنا خلاله سبابا وليس معرفة، شيدنا حول عقلنا سياجا ونحن لا ندري، لذلك كان تأثير العرب في الدراسات اليهودية العالمية لا يُعتدّ به وخارج التاريخ. في كتابي المذكور دعوت إلى مراجعة منهجية صريحة في التعاطي مع الدين اليهودي، فمن العيب أن يبقى التلمود خارج اللسان العربي، أي في الآرامية إلى العام 2012، مع أنه تراث نشأ في حضن حضارتنا بين بابل وأورشليم، حتى رعى ترجمته زيتوني فلسطيني الدكتور عامر الحافي والفريق العامل معه، وهو كتاب ضخم في عشرين مجلدا صدر في الأردن، والحال أن كثيرا من رؤانا الفقهية والتفسيرية مستوحاة من هذا السفر. بينتُ أن هناك حاجة ماسة للخروج من سجن الصراع العربي الإسرائيلي إن أردنا أن نبني علما ومعرفة صائبين، فلا يمكن أن نذود عن مقدساتنا وتراثنا في فلسطين بالتعاطي اللاعلمي مع التراث اليهودي والتناول الإيديولوجي.
عنصر آخر من جوانب الاهتمام بالعقل الديني شغلني، ذلك المعني بالمسيحية، وقد كان لي الاشتغال على المسألة في ثلاثة مؤلفات صدرت لي: الأول “نحن والمسيحية” والثاني “الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن” والثالث “رسالة إلى أخي المسيحي”، فضلا عن ترجمات مثل “الفكر المسيحي المعاصر” صدرت في سورية، ذكّرت فيها أن البلاد العربية، بمفهومنا الجغرافي اليوم، هي الأصل في المسيحية ولكن تلك المسيحية قد صودرت من ذاكرتنا ومن عينا ومن أوطاننا، وهي كفلسطين خُطفت منا في غفلة من أعيننا. فهل لدى المغاربيين دراية بالقديس أوغسطين ابن مثلث سوق أهراس وعنابة وقرطاج، وقد كان الأحرى أن يدرَّس في الزيتونة والقرويين. فمن هذه الانجراحات الغائرة في الذاكرة الدينية أكتب عن المسيحية.
•المهدي مستقيم: من المسؤول عن الانغلاق والجمود الذي يطبع العقل الإسلامي؟
•عز الدين عناية: لدينا صناعة أكاديمية متطورة في الانغلاق والجمود، وقد تنبهتُ لهذا الأمر حين رحلت من تونس نحو إيطاليا. نظرة مقارنة بسيطة عن الأبحاث الجامعية التي تُنجَز في كليات الشريعة في البلاد العربية ونظيرتها التي تُنجز في الجامعات اللاهوتية الغربية، في الغرب ثمة التصاق بالأرض، بقضايا الواقع والراهن، ولدينا تعلق بقضايا السماء والغيب والماضي واللامعقول مفزع، ولا أدلّ على ذلك من عودة قضايا التسنّن والتشيّع ضمن وعي مقلوب رهيب يجتاح مجتمعاتنا الرخوة.
لذلك أقول كلنا مسؤولون عن الانغلاق والجمود، أو بلسان الراهن العربي، “الإسلامي” و”العلماني” على حد سواء، لأننا وقعنا في ضيق تصوري للدين لم نقدر على الخروج منه، وما لم يتعاضد الجميع فسيستمر هذا الانغلاق المولِّد للتطاحن والمؤدي للاندثار -لا سمح الله-. ولكن في ظلّ هذه الأزمة الحقيقية تتحمل الجامعات الدينية الوزر الأكبر، فمناهج التدريس فيها مدعوة إلى مراجعة جذرية والاستعانة بأناس علميين من خارج الوسط الإيماني ومن خارج المجال اللاهوتي الضيق. فدراسة الظواهر الدينية والكائن المتدين ليست حكرا على “كلية الشريعة”، بل هي من مشمولات أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والآداب والأنثروبولوجيا والاقتصاد، بهذا الشكل نُحدِث تحولا في دراسة الدين ووعيه. فانغلاق العقل الإسلامي هو نتاج انغلاق بنية تصورية وقع في أسرها العرب وليس ثمة سبيل للفكاك منها سوى بتضافر جهود الجميع.
•المهدي مستقيم: كيف تفسر بدايات هذا الجمود والتكلس؟ متى حصل؟
•عز الدين عناية: في اللحظة التي يغدو فيها التعاطي مع الظاهرة الدينية خارج نطاق العقل والمنطق يُطلّ التكلس. وفي الثقافة العربية ثمة تعامل لاهوتي مع الدين لم يتطور إلى تعاط علمي، اُنظرْ إلى حديثنا في التليفزيونات والصحافة والمساجد عن رمضان وعن الحج، هل هناك بصيص لوعي سوسيولوجي أو اقتصادي لهاتين الشعيرتين، في حين يقوم اقتصاد بأكمله يدور حول هاتين الشعيرتين ولكن المسألة غائبة عن الاقتصادي العربي وعن تحليله ورصده. من المستحيل أن تُترك الأمور على الغارب هكذا في الغرب فكل شيء خاضع للدرس والتحليل والمتابعة.
وبناءً على ذلك أقول لدينا دراسات جامعية وهْمية تصنع خريجين مضلَّلين، سواء في العلوم الدينية أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكثير من جامعات البلاد العربية هي جزء من صناعة التخلف وإعادة تدويره، وبالتالي من الطبيعي أن يأكل الأجداد الحصرم والأبناء يضرسون. فيوم دخل الإسبان جامع الزيتونة (القرن السادس عشر) وحولوه إلى إسطبل لخيولهم كنا نتلهى بفنطازيا الغيبيات، ولا زلنا، ولذلك ترى ما يسمون بالدواعش يخترقون أمة من شرقها إلى غربها لهشاشة عقلها وعوز قدراتها. فعصرنا هو عصر انهيار سقف المعرفة الدينية التقليدية على أهله النيام. يسألني زملاء أوروبيون متضلعون في شؤون العالم العربي، أي شيء يعتمل داخل الوعي الديني لديكم حتى تحوَّلَ التديّن إلى مشكلة وأوصلكم إلى هذا الحد من التآكل الذاتي وأنتم في سكرة مما تكابدون؟ وعلى مَا تتقاتلون؟ فأُصاب بالدوار من هذا الهول الذي يجتاح العراق وسوريا وليبيا واليمن.
•المهدي مستقيم: هل يمكن القول إن رؤساء المذاهب الكبرى التي عرفها تاريخ الإسلام وأقصد مالك ابن أنس، الشافعي، ابن حنبل، أبي حنيفة هم المسؤولون عن هذا الإنغلاق والجمود؟
•عز الدين عناية: لا أبدًا، المسؤول الرئيس هم الأتباع الذين فقدوا تعاطيهم العقلاني مع فتاوى هؤلاء الأئمة وأقوالهم وآراءهم. إذ يحمّل كثيرون اليوم ابن حنبل والفكر الحنبلي الوزر الأكبر مما يجري في بلاد العرب، وهل البلدان التي تمذهبت بمذهب أبي حنيفة أو مالك حالها أفضل؟ هناك لامعقول في النظر العربي لتفسير الوقائع يشبه تفسير ذلك الرجل الذي علّل أسباب انهيار الدولة الأموية بقوله “ذهبتِ الدولة بِبوْلة”، نظرا لمقتل أحد قادة الجيش غيلة حين كان يتبوّل، والحال أن المسألة بنيوية معرفية وليست فردية.
أرتئي أنه لا بد من صُنع وعي سوسيولوجي وأنثروبولوجي بعلومنا الدينية (علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام وغيرها) حتى نتنبه إلى بنية التصورات والباراديغمات، ولنتحرر منها ونصوغ معرفتنا المواكبة لعصرنا، ولكن من أين لنا بعلماء اجتماع لهم إلمام بالعلوم الدينية ومن أين لنا بفقهاء لهم إلمام بعلوم العصر، تلك هي المشكلة؟
•المهدي مستقيم: كان الهدف من وراء ترجمتك لكتاب “علم الأديان: مساهمة في التأسيس” للعالم الأنتروبولجي الفرنسي “ميشال مسلان” هو الإسهام في تأسيس وعي يقوم على ضرورة التقابل بين الإسلام والأديان الأخرى. هل لا زال العقل الإسلامي يفتقد إلى هذا النوع من التقابل والتواجه؟
•عز الدين عناية: ترجمت الكتاب المذكور حين كنت طالبا في تونس وأهديت الترجمة عمدا إلى الزيتونة والقرويين والنجف والأزهر أملا في لفت انتباه المدرسين والدارسين إلى وجود مقاربات أخرى للظاهرة الدينية صارت هي المهيمنة اليوم، وما لم يطّلع عليها الدارس فإن إلمامه بالعلوم الدينية يبقى منقوصا. وترجمت كتاب “علم الاجتماع الديني” لإنزو باتشي وسابينو أكوافيفا للغرض نفسه، أملا في خلق تعاط علمي مع الظواهر الدينية، لأن جامعاتنا الدينية تعيش داخل باراديغمات قروسطية مفصولة عن العصر، فهي جامعات تعيش على رأسمال كبير من الوهْم، لذلك يبقى إيماني أن جزءا كبيرا من أزمتنا الدينية عائد إلى الأفق المعرفي الضيق الذي نتحرك فيه.
يدور كتابا “علم الأديان” و”علم الاجتماع” المذكوران حول المناهج العلمية الحديثة في تناول الكائن المتدين وظواهر المقدس، وهما حصيلة الأدوات الخارجية التي ينبغي أن يتملكها الناظر في الدين اليوم، وحبذا لو يجمع المرء بينها وبين الأدوات الداخلية التي تندرج ضمن علم اللاهوت أو العلوم الشرعية.
الغرب تقدّمَ على مستوى المعالجة العلمية للظواهر الدينية، وعلى مستوى توظيف المناهج في دراستها، لكننا نحن توقفنا عند تناطح فعلي بين الإسلاميين والعلمانيين في النظر للمسألة، داخل نظرة سياسوية مقيتة، ولم نقلّب النظر بعيدا عن ذلك، لذلك أعمل بإمكانياتي المتواضعة على تحرير الوعي بالدين من براثن الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء في البلاد العربية.
•المهدي مستقيم: ما هو إسهامك الشخصي الذي قدمته لإضاءة هذا الوعي؟
•عز الدين عناية: أنا بيدٍ أترجم وبأخرى أكتب عن قضايا الفكر الديني العربي والعالمي، لعلي أزحزح جامدا أو أنير سبيلا. فلدي إلحاح في ما أسطره سواء عبر البحث أو المقالة على أن المرء في وسعه أن يكون ربانيا وأن يكون علميا في الآن، فالأمران لا يتصادمان كما توهّمنا أو كما أراد كثيرون أن يوهمونا، كما أني أحذر دائما من الانخراط في التحزبات الضيقة لأنها قاتلة ومدمرة للمعرفة الدينية.
ولا أزعم أن مجال الدراسات العلمية للأديان يلقى حظوة في البلاد العربية، فما هو رائج هو بروباغندا “حوار الأديان” وهو في الحقيقة مفهوم مفخّخ، فحتى معمر القذافي في سابق عهده دعا إلى حوار الأديان في مؤتمره الشهير للحوار الاسلامي المسيحي سنة 1976.
وفي الواقع ثمة فروع ثلاثة رئيسة لعلم الأديان أحاول التركيز فيها بالترجمة والكتابة، ألا وهي علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الدينية ومقارنة الأديان، ولإدراكي ما عليه الدراسات الدينية العربية من فراغ ووهن وخلط، سواء في الأوساط الجامعية أو في الساحة الثقافية، أجدني منكبا على الإسهام في تطوير هذا المجال.
•المهدي مستقيم:كيف يساهم علماء الدين في تكريس الانغلاق اللاهوتي؟
•عز الدين عناية: صعبٌ أن نطلق “علماء دين” على صنّاع الانغلاق الديني، بل صُنّاع ذلك هم دراويش الدين أو ممن يُخيَّل إليهم أنهم علماءه. فالانغلاق الديني هو بمثابة الفيروس كلّما تمكن من عقل المرء كلما ضاقت رؤيته للوجود. والقائمون على الدين في بلاد العرب دعاةً ومدرسين وطلابًا اطلاعهم على الآخر الديني ضئيل، ولعل ذلك أحد أسباب الانغلاق. فعالم الدين بالمفهوم التقليدي قد تجاوزته التحولات في فهم الدين وفي الإلمام بقضاياه، وما عادت له سلطة معرفية، لكنه ما زال مقتدرا على تجييش عامة الناس بفعل رهان أنظمة سياسية على مقوله ومنحه منصّات دعائية لذلك، وإن كان تاريخيا انتهى دوره.
فلا سبيل للفكاك من أسر الانغلاق اللاهوتي دون إدخال تحوير في مقاربتنا للظواهر الدينية ويبدو هذا المجال غير مطروق في جامعاتنا التي يُفترض أن تكون السباقة في ذلك. أين علم الأديان وتفرعاته المتنوعة في جامعاتنا الدينية ونظيرتها المدرّسة للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ فنحن سجناء منظورات وأطر لاهوتية، العالم تغير في تعاطيه مع الظواهر الدينية إلا نحن. توبنغن أو الغريغورية أو اللاتيراني أو لوفان، كبريات جامعات الغرب اللاهوتية، لم تبق سجينة أوغسطين وتوما الأكويني، بل بات كبار فلاسفة الغرب وعلماءه يُدرَّسون فيها وانفتحت على كافة معتقدات العالم وحتى على التقاليد الدينية، فأين الزيتونة والقرويون من ذلك؟
سبق أن شاركت في مؤتمر للفقه الإسلامي تناول الآخر من خلال “رؤية العالم والعيش فيه: المذاهب الفقهية و التجارب المعاصرة” وقد حضره حشد كبير من فقهائنا، كان فيه تمجيد وحنين لمؤسسة أهل الذمة وتوق لبعثها. وكانت مداخلتي على نقيض تام مع ذلك، كونها مؤسسة تاريخية ولّدتها الحاجة والأوضاع التاريخية السائدة عصرئذ، وأما اليوم فلا خيار لنا إلا بالاندماج في هذا العالم على الطريقة اليابانية وليس مجابهته، لأننا لا حول لنا ولا قوة معرفيا أو ماديا. استشاط الفقيه الراحل وهبة الزحيلي غضبا من مقاربتي، ثم لما التقينا على هامش المؤتمر قلت له يا شيخ أنا أعيش في دولة كاثوليكية، والكنيسة قد عارضت موضوع حقوق الإنسان، منذ صدور إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789 وإلى النصف الأول من القرن العشرين، ولكن في أعقاب ذلك رضخت إلى الأمر الواقع وسعت للاندماج في حركة العالم فلنكن عقلاء في التعاطي مع العالم ومع أنفسنا ولا نروّج وهمًا بين شعوبنا.
•المهدي مستقيم: ماذا يمكن أن تقول عن ذلك النظام الفكري العميق واللامرئي إذا تحدثنا بلغة ميشيل فوكو الذي يتحكم في الخطاب القرآني؟
•عز الدين عناية: الخطاب القرآني هو رأسمال رمزي هائل. ثمة أطر نظرية ورمزية وتصورية ذات طابع ديني تسجن المؤمن اليوم، لا بد أن نهشم تلك السياجات الدغمائية لنبني المؤمن الحر، فلدينا مؤمن سجين لمواقف فقهية وتصورات دينية، أو بلغة الإمام علي الكتاب وأهله طريدان منفيان.
ثمة رؤية مؤسطَرة تلفّ فهمنا للقرآن الكريم مع أنه كتاب مسطور بين دفّتين لا ينطق وإنما ينطق به رجال، كما يقال، فما إن يدنو المرء من النص المقدس حتى يفقد صوابه ويدخل في عالم غرائبي مؤسطَر يظن أنه يزيده قربا من الله. وتبعًا لهذا الوضع الآسر ينبغي أن نقرأ القرآن وكأنه يتنزّل علينا حتى نتجاوز ذلك الانفصام بين التاريخ والنص المقدس، وحتى نردم تلك الهوة الدلالية بيننا وبين الخطاب القرآني. ولا يمكن للمؤمن أن يملك تلك الرؤية المتحررة من الوعي الأسطوري ما لم يمتلك ثقافة عقلانية وأقدّر أن ذلك هو التحرير والتنوير الأكبر الذي نحتاجه.
فالنظام الفكري العميق واللامرئي، على ما ذكرتم، هو عبارة عن بنية تصورية تتحكم بمشاعر المؤمنين ورؤاهم وهي بنية متقادمة في كثير من مكوناتها، يقتضي الأمر أن نعمل على خلق بنية بديلة لها تستجيب لمتطلبات عصرنا. وهو تقريبا ما تنبّه إليه اللاهوتي هانس كونغ في ثلاثيته المتعلقة باليهودية والمسيحية والإسلام، وما سماه بالباراديغمات التي تتحكم بالأديان الثلاثة والتي يبدو الإسلام الأكثر معاناة بينها من باراديغم القرون الوسطى الذي يأبى التواري.
•ماذا تعني لك عملية “تأويل النصوص الدينية” في بلداننا العربية الإسلامية؟
•عز الدين عناية: بعبارة موجزة، تأويل النصوص الدينية هو استنطاق جديد للنص وفق حاجة العصر ووفق المطالب المطروحة، وهو ما يعني إعطاء النص حياة ثانية. ويتأتى “تأويل النصوص الدينية” جراء عوامل ثلاثة: شجاعة وجودية وإلمام علمي وشعور بالمسؤولية الحضارية، وهو التأويل المستند إلى شخصية كاريزمية فردية؛ لكن ذلك التأويل يبدو أنه غربت شمسه في الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالعصر ما عاد يسمح بذلك، وبقي التأويل الجماعي المؤسساتي وهو على شاكلة ما حدث في الكاثوليكية مع مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) باجتراح رؤى جديدة مع الذات ومع الآخر.
لذلك أقول إن التأويل اليوم ينبغي أن تتضافر له جهود متنوعة تشتغل بشكل جماعي حتى لا تُهدر طاقاتنا.
•المهدي مستقيم: كيف تفسر ظاهرة تكاثر الفتاوى التي بات يشهدها العالم العربي الإسلامي مؤخرا؟
•عز الدين عناية: تدلّ كثرة الفتاوى على أننا ما زلنا أمة أمّية على مستوى ديني، لم يحقق فيها المؤمن استقلالية معرفية واكتفاء فقيها ذاتيا، أي ما يسميه الفقهاء المعلوم من الدين بالضرورة. ما زال المرء يعوّل على الإمام والشيخ والقطب وليس على الذات في التعاطي مع إشكاليات دينية بسيطة. أعرف الكثير ممن يعيشون في الغرب بقوا في انتظار فتوى الشيخ الفلاني وقطب الطريقة الفلانية حتى يشتري الواحد منهم بيتا بقرض، أو يدخل في مشروع استثماري فيه شبهة الربا، أو يأكل ذلك المأكل أو لا يأكله، أو يقدّم مطلب الجنسية، وهلم جرا من المسائل، ثمة طهرية ساذجة عابرة للبحار تجتاح عقل المسلم يعجز المرء أن يتدبر فيها حاله.
لكن عموما لم تبق مؤسسة الإفتاء في البلاد العربية خارج التجاذبات السياسية، بل هي جاهزة عند الطلب ما جعل للناس حساسية من فتاوى فقهاء السلطة جراء تزعزع الثقة بين الطرفين.
• ما الدور الذي يلعبه هؤلاء الفقهاء الذين أعطوا لأنفسهم حق النطق بلسان “الله”؟
•عز الدين عناية: نحن نعيش وضعا شبيها بأوضاع تفجر البروتستانتية في أوروبا وما خلفته من حروب دينية ضارية، ومن أصوليات مدمرة من الجانبين الكاثوليكي والبروتستانتي، أبرزها ما يُعرف بحرب الثلاثين سنة (1618-1648م). ففي سياق تلك الصراعات لم يحصل الإقرار بالتعددية الدينية كنضج داخل اللاهوت الديني، ولكن كواقع خارجي أملته الدولة بوصفها الحاضنة لجميع الطوائف والمذاهب. وبالتالي ليست التعددية الدينية السائدة في الغرب اليوم متأتية جراء لاهوت ديني منفتح، وإنما هي نتاج لتطورات سياسية.
وأما عن الفقهاء الذين أعطوا أنفسهم حق النطق بلسان “الله” فهم في المجمل امتداد لهيمنة سلطوية توجههم حيث شاءت، ولذلك ترى فقيه هذه الدولة يتصادم مع فقيه تلك، رغم أن الفقيهين من مدرسة واحدة، وربما كانا في خندق واحد قبل الاصطفاف السياسي.
•المهدي مستقيم: ما هو السبيل المؤدي إلى الإطاحة بالأسلاك الدوغمائية الشائكة والصلدة التي تكبل العقل الإسلامي؟
•عز الدين عناية: السبيل إلى ذلك إعادة الدين إلى الناس بعد أن صودر منهم، تارة باسم السماء وأخرى باسم الأرض، وهي أشكال من الوصاية على ضمائر الناس وأرواحهم. ولن تتأتى الإطاحة بالأسلاك الدوغمائية إلا بحلّ المونوبولات الدينية المهيمنة على المقدس في بلاد العرب. لذلك أدعو إلى تحرير السوق الدينية من الاحتكار حتى يغدو الدين مشاعا بين الناس. لدينا الدين لم يتحرر بعدُ من هيمنة السلطة مع تنوعات ودرجات في القبض والبسط، وحتى في تونس التي شهدت تحولا معتبرا لا يزال الدين رهن السلطة، والحال أن الدولة الديمقراطية تتوارى فيها وزارة الشؤون الدينية ويحال وكلاء الدين على العطالة، باعتبار الأمر شأنا أهليا لأن الدين المدني يرعاه المجتمع المدني ولا دخل للدولة فيه.
•المهدي مستقيم: كيف تفسر هذا التفشي الخطير للسلفية في البلدان العربية الإسلامية المعاصرة؟
•عز الدين عناية: انتشار السلفية هو ترجمة أمينة لعجزنا عن التعاطي المتوازن والعقلاني مع الواقع الديني، فنحن إما مغرقون في طمس الدين وقهر المتدينين أو مغالون في موالاة الدين والمتدينين. ومجمل البلدان العربية افتقرت إلى رؤية رشيدة في المسألة. فنادرا ما نجد معالجة عقلانية للمسألة الدينية في الثقافة العربية فالسائد هو تعامل إيماني خال من العقل أو تعامل علماني نافر من الدين ولكن المطلوب هو التعامل الرصين. إذ كلما غاب العقل من التعاطي مع المسألة الدينية إلا وحل محله الفكر الدوغمائي.
والخطورة أن ضيق الأفق في التصورات السلفية والتمركز حول الذات مؤداه إلى إنتاج نوع من العنف المقدس، يتفجر كلما اشتد ضغط البنية الاجتماعية عليه. كان عالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي قد قسمه إلى نوعين: تضحية بالآخرين وتضحية بالذات، أي القضاء المبرم على من لا ينتمي للتنظيم الديني، أو كذلك إماتة من ينتمي للتنظيم. وفي الحالة الأولى نحن أمام مختلف أنواع الأصوليات الدينية العنيفة، التي تقترف العنف لفرض مبدأ ديني بالقوة، تقدّر أنه مهدّد من عدوّ خارجي؛ وفي الحالة الثانية ندنو من حالة التحمّس للاسشهاد الفردي والجماعي، وهو بمثابة شكل لاختبار عمق الإيمان والانتماء. وليس اقتراف العنف نحو الآخرين أو نحو الذات عملًا عفويًا، بل يتطلّب انقلابا دينيا عميقا ومكثّفا، ينضُجُ في أعقابه اختيار طوعي للقيام بعملية القتل.
—