ظهرت الشعرية في العصر الحديث كمصطلح عند رومان جاكبسون، الذي جعلها إحدى وظائف الاتصال الست، فـ”استهداف الرسالة بوصفها رسالة والتركيز على الرسالة لحسابها الخاص هو ما يطبع الوظيفة الشعرية للغة”، لكن قصة الشعرية تعود إلى ما قبل الميلاد، إذ يعد كتاب أرسطو «فن الشعر» أقدم كتاب يذكر هذا المصطلح، وقد كان مرجعا أساسيا للنقاد الغربيين في تقعيدهم للشعرية.
الشعرية لغة هي تعريب للمصطلح الفرنسي poétique، الذي يرجع بدوره إلى الكلمة اللاتينية (peotica)، المشتقة من الكلمة الإغريقية (poiètikos) بمعنى كل ما هو مبتدع، مبتكر وخلاق، وكل ذلك مشتق من الفعل الإغريقي (poiein) بمعنى: فعل أو صنع « Faire » “. وبهذا تتقاطع الدلالة اللغوية للشعرية مع الدلالة الاصطلاحية التي وصلت إليها في النقد المعاصر؛ فلم تعد الشعرية تقتصر على الشعر بل تجاوزته إلى النثر، و”اتسعت لتشمل فنونا إبداعية أخرى منها الفن التشكيلي والفن السينمائي”، لتضم كل ما يتضمن إبداعا وخلقا. أما فيما يخص الترجمة، فقد تعددت المرادفات المقابلة لمصطلحpoétique ما بين: الشعرية، الشاعرية، الشعريات، فن الشعر، الشعرانية… لكن الترجمة الرائجة عند معظم النقاد هي “الشعرية” رغم ما يثيره هذا المصطلح من تمويه خاصة بالنسبة للباحث المبتدئ؛ الذي يتوه أحيانا بين هذا المصطلح وبين اللفظة من حيث كونها مجرد نسبة لـ: الشعر.
ففي كتاب (فن الشعر) يتعرض أرسطو إلى طبيعة الفن، حيث تكمن قيمة العرض الأرسطي في محاولة وضع قوانين للفن ” طبقا لعرض استدلالي من تحديد مبادئ أولية عامة ومن ثم التدرج نحو جزئيات الموضوع” حيث تكلم عن الفن عامة وكيفية نشأته ثم شرع بدراسة كل نوع منه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اعتمد على منهج استقرائي؛ ذلك أنه “ينتقل من وقائع أدبية وينتهي بقوانين مستنبطة من تلك الوقائع”. والشعرية في كتابه هي بحثه عن القوانين التي تنتظم جنسين أدبيين على وجه الخصوص هما: التراجيديا والملحمة.
بداية يفسر أرسطو نشأة الأدب برده إلى المحاكاة، وهو في ذلك يعتمد على المحاكاة التي جاء بها أفلاطون لكن بعيدا عن عالم المثل؛ فمحاكاة أرسطو تتخذ من الواقع مرجعا لها؛ فهي” هنا مكتسبة معنى أرسطيا جديدا، يجعل العملية الشعرية ليست مجرد نسخ ونقل حرفي، وإنما هي رؤية إبداعية، يستطيع الشاعر بمقتضاها أن يخلق عملا جديدا من مادة الحياة والواقع، طبقا لما كان، أو لما هو كائن، أو لما يمكن أن يكون.” ويجعل أرسطو المحاكاة خصيصة فطرية إنسانية يتعلم عن طريقها الإنسان سائر الأشياء حيث يقول: “فالمحاكاة فطرية، ويرثها الإنسان منذ طفولته ويفترق الإنسان عن سائر الأحياء في أنه أكثرها استعدادا للمحاكاة، وبأنه يتعلم عن طريقها معارفه الأولى”، هذا بالإضافة إلى كون عملية المحاكاة متعة يشعر بها الإنسان ويتعلم عبرها؛ فقد ينفر من منظر واقعي بشع، لكنه قد يستمتع بالمنظر نفسه إذا رآه محاكيا في عمل فني ما.
كما يفسر أرسطو من ناحية أخرى نشأة الفنون الأدبية، وهو يرى أن نشأة التراجيديا تعود إلى الملحمة وشعر الديثرامب، والكوميديا تعود إلى شعر الأهاجي “فذووا الطباع الجدية الرزينة، حاكوا الأفعال النبيلة، وأعمال الأشخاص الأفاضل، بينما حاكى أصحاب الطباع المتضعة أو العادية أفعال الأردياء، فأنشأوا الأهاجي في البداية، في حين أنشأ ذوو الطباع الجدية الترانيم الإلهية، والمدائح لمشهوري الرجال” والمقصود بالترانيم الإلهية الديثرمبي، وبالمدائح الملحمة.
ويبدأ أرسطو دراسته للفن أو الإبداع بتقسيمه إلى”الشعر الملحمي والتراجيدي والكوميدي، والديثرمبي” هذا التقسيم الذي اعتمده النقد الغربي في تصنيفه للأجناس الأدبية والذي فهم فيه الديثرمبي بأنه الشعر الغنائي، غير أن الديثرمبي (الأنشودة المدحية) الذي يقصده أرسطو هو:”الأغنية الجماعية التي تنشد إكراما لديونيزوس”؛ فعدم تناول أرسطو للشعر الغنائي، رغم وجوده في تلك الحقبة جعلهم يلجؤون إلى تفسير الديثرمبي بأنه الشعر الغنائي، حيث أقحم ” في كتاب أرسطو عنوة وذلك بتفسير الأنشودة المدحية، بوصفها مثالا للجنس الغنائي، وقد حدث هذا الإدماج على يد كتاب القرن الثامن عشر، ولاسيما القس باتو”، هذا الأمر الذي فنده النقد المعاصر. فيما يخص الشق الثاني من الدراما، ونقصد الكوميديا فإن عدم وجود دراسة مفصلة لها في كتاب «فن الشعر» قد فسر بضياع الجزء الخاص بها.
يعرف أرسطو الكوميديا بـ: “محاكاة لأشخاص أردياء، أي أقل منزلة من المستوى العام” والرداءة التي يقصدها أرسطو هي ذلك الجانب الناقص في الإنسان الذي لا يسبب عند رؤيته الشعور بالألم، وإنما يثير الضحك. أما فيما يخص التراجيديا فيرى بأنها: “محاكاة لفعل جاد، تام في ذاته، له طول معين، في لغة ممتعة لأنها مشفوعة بكل نوع من أنواع التزيين الفني. كل نوع منها يمكن أن يرد على انفراد في أجزاء المسرحية، وتتم هذه المحاكاة في شكل درامي، لا في شكل سردي، وبأحداث تثير الشفقة والخوف، وبذلك يحدث التطهير” أما عناصر التراجيديا فتتمثل “فضلا عن الأشخاص الذين يعملون أمامنا، بالمنظر المسرحي والنشيد أو الموسيقى وتركيب الأوزان الذي يسميه أرسطو (المقولة). وتتصل هذه الأجزاء بالتمثيل المسرحي، فهي أجزاء خارجية، فيما تتعلق الأجزاء الداخلية بالمؤلفين وهي الخرافة والأخلاق والفكر”. أما القسم الآخر من الكتاب فيعرض للملحمة التي “تتفق في أجزائها مع المأساة باستثناء الموسيقى أو (النشيد) والمنظر المسرحي، وتختلف كذلك عن المأساة في طولها ووزنها”.
وبعد بسط أرسطو لماهية التراجيديا والملحمة وعرضه قواعدهما، يخلص في نهاية المطاف إلى أن” التراجيديا تتفوق على الملحمة من كل الوجوه، بالإضافة إلى أنها تحقق وظيفتها الشعرية[….]فإنه يصبح من البين، أن التراجيديا تعد أسمى شكل فني لأنها تبلغ غايتها على نحو أفضل من الملحمة”. فعناصر التراجيديا برأي أرسطو تحتوي الملحمة وتزيد عليها بالمؤثرات البصرية، على الرغم من إمكانية إحداثها الأثر نفسه قراءة فحسب دون تمثيل.
لا شك أن المفاهيم التي جاء بها أرسطو كانت أساسا مهما للنقد الغربي المعاصر، كما أنها كانت ذات تأثير حاسم حتى في الدراسات النقدية العربية بالنسبة للفلاسفة المسلمين: الفرابي، ابن سينا، ابن رشد. وخاصة عند حازم القرطاجني فيما يتصل بمفهومي المحاكاة والتخييل.
—