1- تقديم:
يعدّ الرّمز الفنّي ظاهرةً لافتةً للانتباه في الشّعر العربّي المعاصر، فقد احتمى الشّعراء العرب بالرّمز لقيمته الفنيّة والأدبيّة. إضافةً إلى قدرته الفائقة على سبر أغوار النّفس البشريّة، ومعالجة قضايا الوجود الإنساني المختلفة، وتجسيد عديد الحالات الإنسانيّة بطريقة متفرّدة لما يتمتّع به من دلائليّة متعدّدة وإيحائيّة منفتحة ومرجعيّة متشعبّة.
ونحاول من خلال هذه المقال التّطرق إلى الرّمز في ديوان “جموح انهزام” للشّاعر الجزائري المتألّق “نور الدّين نويجم”، محاولين قراءة الرّمز قراءةً سيميائيّة للوصول إلى الدّلالات والإيحاءات التي اشتمل عليها.
وقد اعتمدنا على المقاربة السّيميائيّة لقدرتها الفائقة على فكّ شفرات الرّمز، والبحث عن المعاني والدّلالات المختفيّة وراءَه. فكيف اشتغلت الرّموز في ديوان “جموح انهزام”؟ وكي تمثّلت دلالاته وأبعاده؟
2- سيميائيّة الرّمز في ديوان “جموح انهزام” للشّاعر “نور الدّين نويجم”
أ- الرّموز الصّوفيّة
ينهل الشّعر المعاصر من منابع الصّوفيّة ويغترف من رموزها ودلالاتها المختلفة، فقد وظّف الشّعراء الرّمز الصّوفي بكثرة في قصائدهم وذلك راجعٌ لثراء منابعه، وقدرته على تقصّي أغوار الوجود وتبصّر الذّات الإنسانيّة، والارتقاء بالإنسان وتخليصه من عالم يسوده الخواء الرّوحي، الألم، الجراح، الاغتراب، التفكّك.
من أبرز الرّموز الموّظفة في ديوان “جموح انهزام” نجد رمز العشق الصّوفي الفراشة، حيث تعدّ من الرّموز الفنيّة الجماليّة التي يوظّفها الصّوفيون عادةً من أجل التّعبير عن معاني الشّوق والصّبابة والفناء في عشق المحبوب سواءً كان وطنًا أم حبيبًا؛ بل يمكن أن نعدّها من أبرز أيقونات المتصوّفة لرصد حالات الاحتراق في نار العشق، فكلّما اِقتربت هذه الفراشة من الضّوء وبسطت أجنحتها النّورانيّة جسدت لنا مشهد الموت الصّوفي في الحبّ.
تعدّ تيمة الحبّ من أبرز التيمات التي كتب فيها الشّاعر “نور الدّين نويجم”، حيث تحضر في كلّ قصائده، فهذا الرّمز يجسّد حالات الحبّ الشّديد والإفراط في العشق، والاحتراق بلهيبه، والفناء في الوصال. يقول الشّاعر “هنا تتمطّى عرى الموجةِ المثقلةُ ..
وتخفقُ..
من بعد فكرةِ وقْدِ اشتهاءٍ أخير
تسارع نحو التقهقر
من جبلِ الوجدِ
من مضنيات اللّقاء..
إلى هنا درك المستبدّ القديم!!
حيث تنمو بقيّات ضوء الفراشة
تلك التي كلّما أعلن الخوف إمتاعها
وسعته برفرفة لاحتضارٍ أخيرٍ.”(1)
من خلال هذا المقطع نلحظ حالات عديدة مثل حالة التوحد في العشق إلى درجة الفناء، حالة التفاؤل والأمل، إضافةً إلى مشاعر الخيبة والخسران والحسرة، واللّامعنى من الوجود، فهذا العشق/ المحبوب/ الذّي ولّد مشاعرًا متناثرةً أثّرت على الذّات الإنسانيّة وهيمن على خوالجها وجعلها تعيش حالات وهنٍ وحيرةٍ بسبب خيبات الحبيب، وشدّة الوجد، وخلف مواعيد الانتظار، وهذا ما أدّى إلى هلاك الحبيب وفنائه من كثرة التّفكير في حالة وجدانه الذّي أصابه الوهن وأثقل كاهله وشوّه جمال الحياة، وأفقده حلاوتها وإيجابيتها.
فحالة العشق من أشدّ الحالات المرضيّة التي تصيب الإنسان خاصّة إذا صاحبها الهوس الشّديد بالمحبوب، فهذه الحالة تُشعر الإنسان بالرّغبة الشّديدة والشّوق والاشتهاء والاحتراق إلى درجة التيه، فتجربة الحبّ أشدّ فتكًا وقسوةً خاصّة إذا قوبل هذا الحبّ بالرفض والهجر والفقد.
لقد جسدّ المحبوب/ الشّاعر حالة الموت والفناء في عشق حبيبته هذا الشّعور المفعم بالتّصوف والموت الرّوحاني.
لقد تحققت رغبة الشّاعر/ الحبيب في الحياة من خلال تلمس جسد حبيبته النّاعم الشّفاف وهي ترتعش على أجنحة الضّوء مبتسمةً آملة، وهي تقذفه بعطرها السّاحر، وألوانها الحانيّة تضلّله، فتغمره فرحة غامرة، وتلقي عليه عطرها المزهر بالعطاءات، فترسم روحًا مفعمة بالاِنتعاش والاِنتشاء الرّوحي، وهذا ما نلحظه في السّياق الآتي: “هنا يعلن الزّمن الأخضر –
المحتمي..
برماد التّعوّد الأخير
احتواء التّعثر منتشيًّا-
هبوب الرّياح التي أوجست خفيّة قبل
رعشتها بانهمار الضّياء!!(2)
يتضّح من خلال هذا المقطع سعي الشّاعر/ الحبيب إلى تحقيق لذّته في الحبّ ونشوته المغامرة في الاِرتحال بين دهاليز المحبوب قصد تحقيق سعادته المثاليّة، كما تمتد لتحيل إلى رغبة الشّاعر في احتواء أزماته والعودة إلى مواطن فرحه وزمنه الجميل (الزّمن الأخضر) زمن الطّهر والنّقاء، العشق والصّفاء، واللّقاءات الجميلة، والتّغلب على أوجاعه المعاصر(الخيبات المتكرّرة) من خلال حالة العشق الشّديد التي وصلت إلى به حدِّ الفناء، وما أجمل هذا الحبّ لما يأتي مزهرًا على أجنحة فراشة نورانيّة، فثقافة الحبّ تسعى لقهر ثقافة الخوف وجموح الإنهزامات التي تتربّص بذات الشّاعر.
إنّنا نلحظ العاطفة الجيّاشة المليئة بمشاعر الاحتراق في الوصال، والوله في المحبوب، وهذا ما يجسّد إتحاد “الإرادة الإنسانيّة مع العاطفة في رغبة ملحّة تدفع بالنّفس إلى تجاوز عالم الحسّ إلى عالم تصل فيه عن طريق الحبّ إلى محبوبها الأوّل التي تدركه النّفس ذوقيًّا.”(3)
ب- الرّمز الأسطوري
تعدّ الأسطورة رافدًا فنيًّا ومرجعيًّا للكتّاب ويعزى ذلك للوظائف العديدة التي تؤدّيها، والقيّم النبيلة التي تشتملها، فلها دورًا هامًّا في بلورة الأبعاد الاجتماعيّة والفكريّة والنفسيّة لذلك ينفتح عليها مختلف الكتاب في بناء نصوصهم، ويوظّفون دلالاتها وأبعادها وجمالياتها. “فالأسطورة تعبّر عن فلسفة الإنسان في الوجود، وهي تعكس بداياته الفكريّة ومحاولاته الأولى في معرفة الكون وما يتصلّ به، فهي عصارة تجاربه ومنطقه في التّعامل مع الواقع، كما أنّها جزء لا يتجزأ من تراثه.”(4)
لقد تمظهرت في القصيدة عديدَ الرّموز المختلفة والتي وظّفها الشّاعر بحنكة وقدرة كبيرة أسهمت في التّعبير عن قضايا هامّة جدًّا، ومن أبرز هذه الرّموز الأسطورة نجد رمز “السّندباد”، هذا الرّمز الأسطوري التراثي والمرتبط بثقافتنا العربيّة الأصيلة، يستفيد الكتّاب منه ومن مغامراته الكثيرة والمدهشة والمحفوفة بالمخاطر والصّعاب في بناء كتاباتهم، ويتخذونه عادةً كقناع رمزي وفنّي، وقد استحضره الشّاعر في قوله “هنا يقف السّندباد
على هالةٍ..
يعبرُ الصّوتُ..
يصغي إلى “كيف أقطفها؟”
ثمّ ينصهران معًا
قوسه..
قزح بانتقالٍ إلى بعده الأوسع ال..
رغم كلّ القيود..!!(5)
والظّاهر أنّ الشّاعر قد استحضر أسطورة السّندباد أسطورة الشّجاعة والقّوة، للدّلالة على الطّاقة الرّهيبة التي يملكها هذا الأخير، وقدرته على مقاومة العراقيل وفكّ قيود الوجود، ومقاومة هواجس القلق والخوف من الخسران من خلال قبضه على اللّحظة المثلى لحظة السّعادة المطلقة بقطفه نور الضّياء وعثوره على سعادته المنشودة بلقاء محبوبته، ويبحر معها بعيدًا في فضاءات أرحب.
والجلّي أنّ سندباد “نويجم” شأنه شأن السّندباد الأسطوري يحبّ الإبحار في عوالم المجهول، ويحبّ مقاومة الموت، ورحلات الاكتشافات ليرسم حلمًا جديدً، وتاريخًا حافلًا بالإبهار والانتصار، إنّه لا يكلّ ولا يملّ، يقول الشّاعر: “يسافر فيه الرّدى..
في عيون الصّباح
ويرتعش التّيهُ..
أنقاض حلمٍ وليدْ!!
يلوحُ ِللآياتِ..
على كنهِ شكّ..
يراودُ صبغته للحياةِ!!
– إليكِ دروبَ نجاة النّجاةْ.
مع السّندباد… لتغامر مع علي بابا… لتحلق على بساط علاء الدين.”(6)
والظّاهر أنّ الشّاعر مولع بحكايات “ألف ليلة وليلة” وعوالمها السّاحرة المثيرة بدليل استحضاره لثلات شخصيات أسطوريّة خارقة تهوى المغامرة وحبّ الإطلاع والاكتشاف وهي (السّندباد، علي بابا، علاء الدّين) ليظهر أنّ ذلك الزّمن الجميل قد ذهب ولن يعود أبدًا، وهنا تكمن دلائلية هذه الحكاية التي تصوّر أن زمن الأحلام والمغامرين الشجعان قد ولّى في زمن التعفّن والانحطاط.
إنّ استحضار الشّاعر لهذه الأساطير كانت له دلالات إيحائيّة أخرى ، فقد أحال إلى الواقع العربي الرّاهن ومواطن الاحتراق في بلداننا العربيّة، فهذا العصر الحالي العربيد القاسي والذّي ذهبت فيه كلّ الأشياء الجميلة من قيّم وأحلام وأمنيات، وأخلاق ومودّة بين الناس، حيث عمّت كلّ الظواهر السلبيّة في واقعنا العربي الذّي انسلخ من هويته وأصالته، وقُتِلت أحلام البراءةَ ودمّرت حياتهم، وأضحى الاغتراب والمعاناة هما عنوانَا حاضرنَا العربي الممزّق، الذّي حكمه مرتزقة مجرمون عاثوا فيه فسادًا وبغيًا، فالشّاعر يفضح المسكوت عنه في قوله: “بعيدين عن شاطئ المجرمين..
عن الطّفل..
يهرُقُ من روحه الرّمل طهرَ البراءةِ
تدفنه قُبلة الدّمع.. والملحُ..
يشربُ من قبسها المُطفأ ال.. في عيون
الغياب..
بقايا الشّهامة يا عارهم!!(7)
إنّ الشّاعرَ يحاكم حكّام هذه البلدان والذّي أشار إليهم بالرّبان والأحمق، فهؤلاء لم يبثّوا في خوالجنا وحياتنا غير الانكسارات والهزائم، الأوجاع والأنين، الضّياع والخوف، فهو يعاتبهم لأنّهم تغذّوا من أرواح الأبرياء وشربوا من دمائهم، كلّ ذلك في سبيل تحقيق مصالحهم التّعسفيّة، فهو يتطرّق إلى موضوع خطير جدًّا وهو الفساد السيّاسي وتحكّم الحاكم بطريقة تعسفيّة في حقّ شعبه ووطنه خاصّة الأطفال الذّين يعدّون مشعل الأمّة، فهؤلاء الحكام ينظرون إلى الشّعب على أنّهم رقيق يستعبدونهم يسرقون حرياتهم، أحلامهم، طموحاتهم من أجل تحقيق أهدافهم اللّامشروعة، والبقاء في كرسي العرش لأطول مدّة، فهم كالغول يتصفون بالوحشيّة والأساليب القمعيّة، ويعيشون على امتصاص دماء شعوبهم “على ظهر تلك السّفينة..
يمتدُ فينا الضّياع
وربّانُها..
– ذلك الأحمق..
من زمن الجشع المظلم..
يقتات ممّا تبقى..
من الأمل المضمر
في أعين الأشقياء
ويشرب من دمهم لغة الطّيبين..”(8)
– رمز المطر
نلحظ توظيف الرّمز الطّبيعي الأسطوري “المطر” في محطّات عديدة من الدّيوان، فالمطر عادةً يرمز إلى الخصب والنّماء والزّهر، وهو مرتبط في الأساطير القديمة برمزي “عشتار” و”تمّوز” إلاهَا الخصب والزّهر.
فالحياة في مختلف أشكالها وصوّرها ترتبط اٍرتباطًا وثيقا بالعنصر الحيوي المطر/ الماء الذّي يعدّ سببًا من أسباب الوجود الإنساني، وتتخذّ ظاهرة المطر دلالات عديدة ماديّة ورمزيّة متصلّة بالإنسان، فهي “رمز الخصب والنّماء، وهي رمز الرحمة والعطاء، وهي رمز الحياة والوجود، والمقام، فلقد سكن الإنسان قديمًا المواطنَ التي يتوفر فيها الماء والكلأ لأنّهما عنصرَا الحياة المهيمن، فهي العامل القوّي للنشاط البشري، فلقد كان الإنسان قديمًا يقوم بطقوس أسطوريّة إذا ما توقف المطر، والإنسان اليوم يقوم بصلاة الغيث لتنزل المطر؛ لأنّ في هطولها رحمةً ونموًّا ونباتًا وعودةً للحياة.”(9)
فالمطر يقوم بوظيفة إعادة تخصيب الأرض بعد جفافها وموتها، كما يحمل دلالات عميقة أخرى تشمل الخير والسّلام والأمان والازدهار، فالرّوائي يطمح إلى راهنٍ أفضل ينتشر فيه الخصب فتزدهر الحياة وتزهو بألوان الجمال والألق، وتتدفق السّعادة إلى الأعين التي اٍحترفت الموت وجفاف المشاعر، وأن يعمّ السّلام الأراضي الجزائريّة بعد سنوات من الجمر والقهر والوجع. غير أنّه سرعان ما يدرك حقيقة يقينيّة أنّ مسلسل الموت ما زال مستمّرًا، فيحوّر وظيفة المطر من كونه رمزًا للنّمو والازدهار، إلى وظيفة الموت والفناء والعتمة.
ويتمظهر رمز “المطر” في مقاطع عديدة نذكر منها: “وعند الصّباح..
ككلّ الذّين يريدون نيلَ الشّهادة من جامعة
سأحتمل البحث في ثرثرات الرّفاق..
وطابور هذا الفطور سيمتدّ يمثّل مثل
العناء..
سأنفث غيمة أفكاري المثقلة
وأنتظر المطر القادم من غفوة الأمنيات..(10)
في هذا المقطع نلحظ أنّ رمز المطر قد حوّر وحادَ عن دلالاته الطّبيعيّة الأسطوريّة، فبعد أن كان يحمل قيمةً عظيمةً تتمثلّ في النّماء والزّهر والتّخصيب أي إعادة الحياة لمظاهر الوجود والإنسان أضحى يمثّل رمزًا للحزن والخوف والتّعب، فالمطر لم يعد منتجًا للخير والابتهاج؛ بل أضحى منتجًا للأسى والألم.
الملاحظ أنّ الشّاعر لمَّا شكلّ هذه الصّورة فهو لم يشكلّها من فراغٍ، ولمَّا حاد برمز المطر عن معناه أيضًا لم يكن الأمر عبثًا؛ وإنّما من أجل تقريب دلالات ومعانٍ متصّلة بالرّاهن العربي الجريح الذّي أضحى ينزف دماء القلق والخوف والخزي والعار، فهو يرفض النّهوض والاِنبعاث من جديد بعد أن أَلِفَ الحياة القاسيّة التي نخرت جسده وروحه، فلم تعد مواسم الزّهر تغريه وتلهمه، ولم تعد أحلام وتطلّعات عنفوان الشّباب كافيّةً لتخليصه من بحر مواجعه وجراحاته التي تناسلت على ضفاف الوجود، فهذا الرّاهن كان العثرة في سبيل النّهوض أو بمعنى آخر كان الدّاء في حدِّ ذاته لأنّ الاحتراق هو عنوان حاضره الممزّق بالأنين والسّراب، يقول الشّاعر:
ولم يلحظِ الماءَ..
يورقُ في بؤرةٍ من ضياعْ!
كأنّ سرابًا تَرَقْرَقَ..
يستنزف الذّكريات..
ويبقى الأنينُ..
شراعًا
إلى سطوة الفاجعات –”(11)
إنّ ذات الشّاعر ذات مغتربة، قلقة، مضطربة، عابثة، مأزومة، مهزومة، فهو يسبح في سراب تخيّلاته، ويستشرف واقعًا جميلًا مزهرًا بعطاءات الصّبابة والعشق، إنّه يتوق إلى الجماع العاطفي مع محبوبه، ويرسم من خيالات ترمّل وجعه قصيدًا يبحر به إلى فضاءات الخصب والطّهارة والنقاء، غير أنّ الحلم سرعان ما يخفت، فتنكسر شعلته أمام توسّع عثرات فؤاده، وتلوّن سماوات بوحه بغيوم الانتظار السّوداء، فتكتسح الإنهزامات من جديد مملكة عشقه، يقول “وهاهو يمضي..
يلوّح للرّيح
– إثر اجتياح الأسى..
لقصيد المدى- برمال اصطبار!!
وبعض النّدى يستفزّ معانٍ..
تشدّ الرّحال..
إلى برهةٍ من خيالْ خيالْ!!
وينفث غيم الصّبابة سهوًا..
فتمطر من فوقه في اتّساع!!”(12)
وقد وفقّ الشّاعر في اختيار المعجم اللّغوي المناسب للدّلالة على حالته النّفسيّة القلقة وجوديًّا، المنكسرة الوجدان، والهائمة في التّوهيمات الرّومانسيّة، حيث وظّف ألفاظ قاسيّة جدًّا مثل (الرّيح، الأسى، تشدّ الرّحال، خيال، غيم، سهوًا…) وكلّها مفردات عبّرت بصدقٍ عن مرارة النّفس الإنسانيّة التي تعاني الفقد والهجر وآلام البِعاد.
إنّ الشّاعر يحاول عبثًا أن يهرب بأوجاع الذّات الإنسانيّة بعيدًا إلى عالم البهاء، يسرق من اللّحظة بعض السّعادة والصّفاء ويرسمها على ملامح تلك المرأة العاثرة ( الوطن العربي) في محاولة يائسة لإعادة بعثها وتخصيبها بعد احتراقها وجفافها، ويعيد الحلم للطّفل الرّضيع، غير أنّه سرعان ما يبصر نور حقيقته القاسيّة ( السّراب) ويصطدم بجسر الواقع المرمى على حافة الطّريق (الطّفل إحالة رمزيّة على واقع البراءة في بلداننا العربيّة) فيرسل بوحًا ثقيلًا يعتصر روحه وروح أمه العربيّة المعذّبة “هباءً ستضحك مع كلّ شخص بهذا
الطّريق..
وتشمّ من قال شيئًا بذيئًا،
وتنهر من يبصقُ الحمق..
مفتاح أن يقطف الورد..
في غفلة الماء..
رشحًا على قسمات السّراب..”(13)
لقد زاوج الشّاعر من خلال استحضاره لرمز المطر بين الهمّ الذّاتي والهمّ القومي/ الجمعي فالهمّ الذّاتي تمظهر من خلال حديثه عن هزائمه المتكرّرة في الحبّ، وموت المشاعر في زمن أسود غابت فيه البراءة والطّهر والصّفاء، والهمّ القومي/ الجمعي من خلال إحالته عن واقع الأوطان العربيّة القاتلة لأحلام الصّغار والمفتكة لحقّ الإنسان في العيش بسلام، والتّمتّع بحقوقه المشّرعة له، فالأوطان العربيّة حكمها أناس كرّسوا الفساد والزّيف، وشوّهوا روح الجمال، فاحترقت جواهر الأشياء واشتعلت الحروب تفتل حاضرها ملحًا وسرابًا، فتكدّست الأحلام والآمال، وتوسّعت الخطايا وتناثرت الطابوهات، وحلّ مطر الموت، وغابت مواسم الزّهو والزّهر، يقول: “من الأمل المضمر
في أعين الأشقياء
ويشرب من دمهم
لغة الطّيبين..
ليرسم وجهًا بريئًا
على راية الزّيف..
يلصقه قِبلة للخطيئات..
للمطر المنهك..
لو يحتسيه الغمام القريب..
ويختفيان!!(14)
إنّ لجوء الشّاعر إلى الأساطير كأقنعة رمزّية يعود لكونها تعدّ منبعًا لا ينضب من الدّلالات والمشاعر، ومفسّرةً للسّياقات الفكريّة والنّفسيّة والكونيّة من جهة، ومن جهة أخرى من أجل الثّورة على الأوضاع السّائدة لما تحتويه هذه الأخيرة من أسباب النهوض وتغيير الأوضاع المختلفة، فالشّاعر “يكون بالضّرورة ناقمًا على أوضاع عصره، هاربًا من زيفه وتصنّعه وتعقيده، وهو إذ يفعل هذا لا بدّ عليه أن يمتلك قدرة على الفهم والتّمثيل وفهم الموقف المعاصر وإذابته في شبيهه الأسطوري، ليكون الكلّ الذّي يعطي الإحساس بالصّدق التلقائي.”(15)
خاتمة
لقد أسهم الرّمز بفضل ما يتميّز به من دلالات وإيحاءات سيميائيّة كثيرة في تشريح الذّات الإنسانيّة القلقة، والكشف عن مواطن الاغتراب والوجع والألم الذّي تعتمل داخل الذّات الإنسانيّة المعذّبة، والظّاهر أنّ غنى الرّمز بالمرجعيات الثّقافيّة المختلفة ساعد على بلورة رؤية الشّاعر وتشخيص الحالات الإنسانيّة المختلفة، كما أنّ تحوير دلالات الرّمز كان نابع من حاجة عصريّة
فرضتها طبيعة التّجربة الشّعريّة المعاصرة.
الهوامش:
(1)- نور الدّين نويجم: جموح انهزام بقايا دثار من رحلة السّندباد على سفينة المعاناة إلى جزيرة الاغتراب!! شعر، دار ابن الشاطئ للنّشر والتّوزيع، جيجل، ط1، 2016، ص7- ص8.
(2)- المصدر نفسه، ص10.
(3)- السّعيد بوسقطة: الرّمز الصّوفي في الشّعر العربي المعاصر، منشورات بونة للبحوث والدّراسات، عنّابة، ط2، 2008، ص266.
(4)- آمال ماي: تجليّات شهرزاد في الشعر الجزائري المعاصر، منشورات دار أبو الأنوار للنشر والتّوزيع، الجزائر، دط، 2013، ص53.
(5)- الدّيوان، ص11.
(6) الدّيوان، ص12.
(7)- المصدر نفسه، ص26.
(8)- المصدر نفسه، ص30- ص31.
(9)- آمال ماي: تجليّات شهرزاد في الشعر الجزائري المعاصر، ص302.
(10)- الدّيوان، ص36.
(11)- الديوان ص12.
(12)- الديوان ص15- ص16.
(13)- الدّيوان ص39.
(14)- الديوان ص31.
(15)- عبد السّلام المساوي: الموت المتخيّل في شعر أذونيس دراسة، النايا للدّراسات والنّشر والتّوزيع، دمشق، ط1، 2013، ص222.
———–
د. سامية غشّير : جامعة باجي مختار –عنّابة- الجزائر-
—