يقطن الطفل أحمد في مزرعة عمه عبد الله. توفي أب أحمد، وهو ابن سنتين. ترعرع هذا الطفل يتيما وربته أمه عائشة، التي كانت أما مثالية، إذ عزمت على تعويض فلذة كبدها عن فراق أبيه، و بذلت كل جهدها. لكن مجهوداتها لا تحول دون سؤال أحمد عن سبب موت أبيه، و شعوره بالنقص بين أقرانه. عدة أسئلة تؤرق باله لم يجد لها أجوبة مقنعة.
عندما بلغ خمس عشرة سنة، وانتقل إلى السلك الثانوي، لم يكن مثل الأولاد الآخرين. فهو لا يتحدث كثيرا.غامض، لا يلعب مع زملائه، يمضي وقته في التفكير. شاب ذكي، ومؤدب، و متميز بشهادة مدرسيه في المرحلة الإعدادية. يحب أحمد العزلة والإنفراد. ويحبذ مجالسة من هم أكبر منه سنا ، ولهم تجارب في الحياة.لا يشاركهم في الحديث، بل يكتفي بالإنصات.
كان دائما ما يباغت أساتذته بأسئلة تجعلهم عاجزين عن الإجابة. الإشكالات التي كان يطرحها تثير انتباه زملائه، وأساتذته، ويعرب بها عن عبقريته. كان أساتذته يبحثون كثيرا من شدة خوفهم من أسئلته، التي تكتنف في جوهرها كما هائلا من الحكمة، كي لا يتعرضوا للإحراج على يد هذا التلميذ.
واحد من بين أساتذته كان حكيما، و ذكاؤه ظاهر من شخصيته و نظراته. إنه أستاذ الفيزياء، مميزومحبوب بين التلاميذ، ويلقب بالفيلسوف بين صفوف الطلاب.
ويعود سببهذا اللقب لكونه يمرر رسائل متعددة بشكل غير مباشر، وبطريقة غريبة، ومثيرة. لكي تفهم ما يقوله يجب أن تكون ذكيا بما يكفي. لهذا كان أحمد لا يتجرأ على طرح أي سؤال عليه، لأنه أصلا كان يجيب عن كل الإشكالات التي تتبادر إلى ذهن أحمد، دون أن يتكلم أو يسأل. و كأنه يقرأ أفكاره.
هذا الأمر كان يشعر أحمد بالملل والضجر، لكون الأستاذ يجيب عن السؤال قبل أن يفكر فيه، مما جعله يحس بأنه لا يترك له مجالا للتفكير.ففي الوقت التي كان زملاؤه يعتقدون أن الأستاد يشرح الدروس جيدا،ويبسطها بشكل جنوني. كان أحمد يرى نقيض ذلك.
لاحظ أستاذ الفيزياء أن العبقري الصغير لا يحبذ طريقته في الشرح، وقد صار لا ينتبه ولا يركز داخل الفصل
. في تتمة احدى الحصص طلب منه البقاء، وأخبره أنه يريد التحدث معه. حينما خرج الجميع سأله بشكل هادئ :
ما بك لا تسألني كما تفعل مع باقي الأساتذة؟
أجابه قائلا: كيف أسأل من يجيبني قبل أن أسأل!
قال له الأستاذ: کلشيء على المحك.أنا لا أجيبك عن أسئلتك يا مغفل!
استغرب أحمد من جواب الأستاذ، و قال له : (وهو يتلعثم) ماذا !!!
أجابه الأستاذ: نعم كما سمعت. يمكنك الإنصراف الآن!
ذهب أحمد، و على محياه آثار الصدمة. لم يفهم ما أراد أن يقوله الأستاذ، فقوله كان ملغوما، و مبهما بالنسبة له!
في الحصة التي تلتها، وأثناء شرح الأستاذ للدرس، توقف بشكل فجائي، وقال : “لو أن أينشتاين وثق بما جاء به نيوتن لما طرح الأسئلة التي أدت به إلى اكتشاف المعنى الحقيقي للزمن”!
في هذه اللحظة صعق أحمد بما سمعه، وعرف أن الخطاب موجه له، و أدرك ما أراد الأستاذ قوله في الحصة الماضية. فهم أنه لا يجب عليه تصديق كل جواب. بل عليه أن يطرح سؤالا إنطلاقا من ذلك الجواب، وأن يشك، لكي يبني المعرفة.
حينها أدرك مدى عبقرية أستاذه و حكمته و تبع نصيحته. بدأ يسأله في كل حصة ثلاثة أسئلة. كان يرد عليه الأستاذ بأسئلة أخرى ، و ينصرف احمد للبحث عن أجوبة لها، وهكذا دواليك.
في نهاية السنة جاء أحمد ليودع أستاذه.قال له: أشكرك على كل شيء.
فأجابه الأستاذ : أتدري أنا من يجب أن يشكرك! أوصيك أن لا تثق بكل ما يقال لك دائما. أعمل عقلك، ولا تنسى لا يهم أن تجيب، المهم هو أن تسأل. فحتى إن لم تستطع الإجابة، فبناء على سؤالك يستطيع شخص أخر أن يأتي من بعدك و يجيب… وداعا.
بعد مرور بضعة أشهر تدهورت حالة أم أحمد الصحية، وكان عمه قد تخلى عنهما، وألقى به وأمه في الشارع .
انفصل العبقري البئيس عن دراسته، واضطر لمواجهة الحياة بمفرده.إشتغل نادلا في مقهى، وتكبد عناء و مشقة العمل من أجل دفع ثمن أدوية أمه و إعالتها .
مرت خمس سنوات، وهو على هذه الحال.إشتد عوده و أصبح شابا يبلغ عشرين سنة. وفي احدى الأيام، إبان قيام أحمد بعمله الروتيني في المقهى، جاء زبون غريب، وجلس.طلب كوب قهوة، وكان يحمل بين يديه كتابا تحت عنوان”ماهية الزمن”، وشرع في قراءته. حين أتى أحمد لتقديم كوب القهوة رفع الزبون عينيه، وصرف نظره عن الكتاب، وبدأ يحدق بأحمد بشكل غريب. استغرب أحمد من نظرات ذلك الزبون و سأله قائلا: ما الخطب يا سيدي أتريد طلب شيء آخر؟ قال الزبون: – وعيناه على وشك أن تذرفا الدموع- : إجلس يا بني من الواضح أنك لم تتعرف علي، إسمك أحمد، أليس كذلك؟ قال نعم سيدي كيف تعرف إسمي قال: كيف أنسى إسم العبقري الصغير الذي قال أنني أجيبه قبل أن يسأل. حينها دهش أحمد، واستوعب أن ذلك الزبون هو أستاذ الفيزياء الذي درسه قبل خمس سنوات في الثانوي، وعانق أستاذه بحرارة.سأله الأستاذ عن سبب مغادرته للمدرسة، والعمل كنادل.فحكى له أحمد قصة مرض أمه و تخلي عمه عنهما.تأثر الأستاذ بمعاناةأحمد وقال له: أتدري؟ بفضلك أصبحت دكتورا في الفيزياء، وأنا أدرس في الجامعة حاليا.تلك الأسئلة التي كنت تطرح علي، و لم أكن أجيبك عنها، كانت هي موضوع بحثي آنذاك.وباستغراب أضاف: حرام أن تضيع عبقريتك بهذا الشكل.مكانك الطبيعي بين العلماء.
اسمع يا بني سوف أتكفل بمصاريف علاج أمك، ومصاريفك، ويجب أن تعود بأقصى سرعة للدراسة. ستجتاز امتحانا يخول لك المرور مباشرة للسلك الجامعي. عليك اجتيازه بنجاح. ومن ثمة تنتقل للجامعة لتدرس العلوم الفيزيائية.
شكر أحمد الأستاذ، ولم يصدق أنهسيعود إلى كنف الأوراق و الأقلام. وبعد مرور خمسة أيام اجتاز الإمتحان بتفوق. وأصبح طالبا في الجامعة. درس سبع سنوات، وحصل على شهادة دكتوراه في الفيزياء. أصبح عالما يضرب المثل بقصته في الصبر والنجاح.تعرف على ابنة أستاذه، أثناء زياراته له، أحبها وأحبته أيضا. تزوجها، وعاش حياة سعيدة، وكأنه لم يعاني من أية محنة. وشفيتأمه بعد أن خضعت لعلاج مكثف من طرف أحسن أطباء البلاد.
هذه هي حكاية الطفل اليتيم الذي كتب الله له العناء في صغره، وأعد له شأنا عظيما في المستقبل.
—