*الورقة المشاركة في حفل توقيع الرواية / ملتقى جيكور الثقافي / 25/ تموز / 2017/ قاعة الشهيد هندال / مقر الحزب الشيوعي في البصرة
قرأت لهذا الصديق الجديد الروائي حسين عبد الخضر ثلاث روايات (مواسم العطش) و(صباح يوم معتم) و(تحت التنقيح) والفضل يعود لصديقي الجميل مصطفى غازي فيصل حمود وأزداد فرحي سعة ً بهذا السعي السردي الدؤوب ..لكنني سأطوق كلامي بروايته الأخيرة ( تحت التقنيح)
(*)
ثمة مسافة زمنية بين الحدث وبين إخبارنا بالحدث روائيا والمسافة تعلن عن نفسها مع السطر الأول في الصفحة الأولى (حدث ذلك قبل سنوات بعيدة ، عندما كنت في السابعة عشرة من عمري…/ 9).. ومايجري للسارد المشارك في صناعة الحدث ستتفك إغماضته من خلال (شماس ) :(لولم يضعني أبو غائب في طريقك، لو لم تقع أنت في طريقه، لكانت لك حياة مختلفة / 75) وما جرى لشخصية وليد كان بفعل فاعل (يبدو أن أبا غائب اختارك بالتحديد كي لاتعرف هذا الأمر، فأرسلني إليك لأشوش أفكار ضياء..) والسبب هو (في داخلك رغبة كبيرة لمعرفة ماوقع في معركة الطف)..وأبو غائب يتجسد في شخص وينتشر كمنظومة تشتغل على تصنيع وعي زائف فهو ..(كيان ممتد في كل اتجاه، يهمه أن يعرف كل شيء عن الجميع وأن يتدخل ليرسم مسار حياة الجميع دون أن يشعروا به ../ 93)..
(*)
هذه الرواية تشتغل على
*محنة الفكري / الميداني
*أشكالية الألوهية – الخلق – الوجود
*وتقديم قراءة خلاّقة لواقعة الطف العظيمة حيث تصدت فئة قليلة جسورة إستشهادية بقيادة الإمام الحسين بن(ع) ورفعت سيوفها بوجه الجاهلية الأولى المتمثلة بالخلافة الأموية التي يترأسها يزيد بن معاوية .وهذه القراءة الجديدة تومىء في النص لكتاب أبي ضياء . الجميل هنا أن المؤلف حسين عبد الخضر لم يجتر تقنية المخطوطة التي أبتليت بها الرواية العربية بتوقيت ترجمة (اسم الوردة) للروائي أمبرتو أيكو ..حيث تناهب الروائيون العرب النشامى هذه التقنية ، دون مراعاة لأذواقنا .وكأن الروائي الذي لايستعمل مخطوطة أيكو لاتعترف به الحداثة !! في هذه الرواية أكتفى السارد بتثبيت صفحة الإهداء ، دون أي تلميح لماهية الكتاب ، وفي صفحة الإهداء سيكون المخَاطب هو ضياء( ولدي العزيز ضياء، عندما تكون قد كبرت كفاية لقراءة هذا البحث سأكون أنا، على الأكثر، بعيدا عنك . أمثالي لايعيشون كثيرا، ولا أعتقد أني سأكون الرجل الذي يخترق القاعدة ../ 109) ثم ينتقل كلام الأب حول استبداد طاغية العراق وينهي كلامه بتوصية (..لي أمنية أخرى، أن تكون والدا لأختك الصغرى أنني أحببتكما كثيرا..)
(*)
يتنقل سرد الرواية من دموية الراهن ، إلى جسارة العراقيين والعراقيات في التصدي المستمر
واستعادة اليومي المألوف والمتآلف نكاية بالتفخيخ الدؤوب :
(إنفجار قريب ..أرتعد أبي البيت حتى كاد يقع. قفز أبي من نومه، وأطلقت أمي صرخة عالية .أحمد خرج من غرفته يرتطم بالجدران، هيفاء وأطفالها نزلوا من الغرفة يجرون ويتعثرون بصراخ هم ../ 40)
(خططت لحياة عادية..كنت أفكر في تحويل محل الملابس إلى مكتبة / 73)
(..أثناء عودتي إلى البيت، الرصاص المتقطع وأصوات الانفجارات التي ستدوي بشدة بعد المغيب لم لتخيفني../ 97)
(الشارع يعج بالنشاط، وأنا في المكتبة يداعب نفسي طيف فرح ../ 100)
(أحمد سيتزوج بنت أبي علي ، سلالتنا يجب أن تستمر رغم كل هذا الموت المحيط بنا)
(الرغبة في شراء الملابس لم تتأثر بالانفجارات المستمرة ، والقتال الدائر بين أحياء العاصمة . دافع مجهول يقود الجميع للتظاهر بكونهم أحياء .الناس يخرجون لممارسة أعمالهم بشكل طبيعي مع علمهم بأن هذا اليوم من المحتمل أن يكون الأخير في حياتهم ../ 29)
(*)
لهذه الروائية واقعيتها السحرية المحلية ، أعني بذلك لم تستوردها لامن ماركيز ولامن سلمان رشدي ، فهذه الرواية تلتقط المتداولة في أنظمة السلوك الجمعي العراقي وتربط بين الكائن البشري والكائنات اللامرئية يتجسد ذلك بشخصية الجني (شماس ) وحواراته مع وليد وهنا حلاوة النص المحلي المتوفر لأسباب الإقناع الفني .. كما أن الرواية تشتغل على ماهية مقالات وليد حينا وأحيان من خلال تعقيبات قارىء اسمه ضياء ، وكذلك من خلال المدعو (أبو غايب) ..
(*)
أبو غائب :(أداة لإفساد العقل العراقي. هناك الكثير من أبي غائب الآن/ 94) : شخصية متوفرة دائما في مجتمعاتنا وهذه الشخصية متأهبة كقناص ، تلتقط الواقفين في مفترق الطرق وتملي عليهم سرودها في صفحاتهم البيض وهكذا تسخرهم لها فهو المشعود في زمن الطاغية وهو من أوائل راكبي ّ الموجة مع سقوط الطاغية ويهيمن على شخصية وليد في الزمنين (أصبحت تلميذا عند أبي غائب ، لايهمني إلا أن أفهم العالم على يديه ../ 13)
(خمسة عشر يوما بكل ساعتها قضيتها في قراءة الكتب التي اعطاني إياها الأستاذ../34)
وحين أنتهت فترة التدريب الآيدلوجي أنتقل المشعوذ أبو غايب والذي صار يطلق عليه الاستاذ من قبل سارد النص، والنقلة هي وبشهادة – وليد – السارد المشارك في صناعة السرد: (يأخذني معه إلى المؤتمرات التي يحضرها ويقدمني إلى الآخرين بصفتي مثقف شاب ../ 41) (قبل حضوري كمدعو رسمي إلى المؤتمرات أخبرني الأستاذ أن أنشر مقالاتي على مواقع الانترنت ، لأفرض حضوري ..)
(*)
البيت العراقي الشعبي الجميل وتحديدا بيت الدخل المحدود، مرسوم بدقة في الرواية من خلال عائلة وليد :
*تسلل أبي بهدوء إلى مثواه الأخير ، كانت ليلة كئيبة أكثر من كونها حزينة، لأننا لم نودعه بالحزن اللائق . قتل الكثير من الناس في تلك الليلة في تفجيرات جهنمية طالت العديد من أحياء بغداد .ولم يحظ أبي بتشييع يليق برجل قضى أكثر سنوات عمره يكد في التواصل مع الآخرين ../ 46
*تحول سليم إلى بائع شريف فجأة،لكنه لم يتوقف عن التعامل مع المزور، إذ أخذ يعد العمل هذا جهادا /18
وبعد سقوط الطاغية وأثناء الاحتلال الأمريكي سيكون سليم خائنا ..( أنه البطل الذي أنقذ حياة الكثير من الجنود الأمريكان بتعاونه معهم / 106) وسيلم بأختصار ينتسب للعلاسة للوشاة الخونة (علست الكثير من الأرهابين الذين يقاتلون القوات الأمريكية الصديقة ..كنت أتسلل بينهم أحدد تجمعاتهم بدقة ..)
*أحمد يعد الضحايا ويحدد الجهة المسؤولة كالعادة …..يلعن ويشتم اصدقاءه قبل اعدائه لعدم كفايتهم في الحفاظ على أمن المدينة ، يلعن تكاسلهم وثقتهم التي يمنحونها بإفراط للعدو مقابل أيام قليلة من الهدوء / 102
(*)
نجحت بنسبة جيدة رواية (تحت التنقيح ) للروائي حسين عبد الخضر في موضوعتها ذات الخطوط الحمر ، فهو كان من الماهرين في عدم حذف هذه الخطوط من الفضاء الروائي وكذلك عدم إشهارها بالبنط العريض ..وهذه المهارة : رسالة مفتوحة للقارىء النوعي المتمهل في القراءة والإستقراء ..إلى محاورة هذه الخطوط التي أبتلي بها مجتمعنا العراقي ..كما وازنت الرواية بين التناول الميتافيزيقي للوجود وبين الأشتغال على الحياة العراقية المفخخة في كل يوم ..وكان الجهد السردي واضحا ومتأتيا من خبرة في السرد فهذه الرواية هي تجربته الخامسة ..لكن ميزتها الأجمل هي إنتسابها للروايات القصيرة وجماليات هذه الإجناسية تجسدها ليس عدد الصفحات فقط بل أسلوبيتها السردية المتمكنة ..
*حسين عبد الخضر/ تحت التنقيح/ دار المكتبة الأهلية – نشر- توزيع العراق – البصرة – البصرة القديمة -/ طُبع في لبنان / 2017
—
يستحق كل الثناء هذا الروائي المبدع