عاش الكاتب أرلنغ كاغا فترة شهرة طويلة في النرويج. كان محاميا حصل على شهادة الدكتوراه في الفسلفة، وفاز على رانولف فينس في أوائل التسعينات ليصبح أول شخص يصل إلى القمم الثلاثة” القطب الشمالي، القطب الجنوبي، وجبل ايفرست. أسس أيضا دار نشر تدعى “كاغ فورلاغ في عام 1996. والتي تنشر اليوم مئات من الكتب ويبلغ حجم مبيعاتها سبع مليون جنيه استرليني في السنة. أرلنغ كاغا كاتب ومستكشف وناشر وجامع للقطع الفنية ووالد لثلاث مراهقات.
أمضى أرلينج كاجّا المستكشف القياسي خمسون يوما بعيدا عن جنس البشر، وحيدا في القطب. يقول في كتابه “فلسفة المكتشفين” : “السكون في القطب الجنوبي أكثر عمقا ، هنا للصمت صمت يُصمته. يمكن أن يسمع ويرى بوضوح أكثر من الأصوات الأخرى. في البيت صوت الراديو مفتوحا على الدوام، كما رنين الهاتف لا يتوقف، وضجيج السيارات التي تمرّ ، أصوات عديدة بالكاد أسمعها. لكن هنا في القطب الجنوبي ، عندما لا تكون الرياح يكون الصمت أكثر سكونا عن ذلك الذي في البيت. في مذكراتي كتبت بعد ستة وعشرون يوم، هنا الصمت صاخبا أحسّه وأسمعه. في هذا المشهد اللاحدودي كل شيء يبدو لا نهاية له. تلك المساحات الصامتة لا تبدو مرعبة ولا تشعرك بعدم الاطمئنان بل مريحة للنفس. في البيت بالكاد ألاحظ ما يجري من حولي، لكن هنا أصبحت منجذبا لذلك السحر الخرافي لدرجة أنني أصبحت جزءا لا يتجزّأ من المكان، ذلك الصمت أمسى خليلي، أستطيع الإصغاء اليه وكلي شغفا.” ليس الكثيرين من سنحت لهم الفرصة لقضاء ايام عديدة في وحدة منعزلة عن العالم والبشر وخصوصا في مكان موحش ونائي كالقطب الجنوبي.” أحد أهداف الرحلة الإستكشافية إلى القطب الجنوبي، أن تكون معزولا طوال مدة الرحلة لمدة خمسين، ستين أو سبعين يوما. اضطرّ أرلنغ كاغا من قبل الكفيل وشركة الطيران أن يأخذ معه الراديو. آخر شيء فعله على متن الطائرة رمي البطاريات. لم يكن من الصواب التخلي عن الراديو خارجا على الجليد. لذلك حمله معه في الزلاجة طوال ألف وثلاثمائة كيلومتر. حينها حصل على العزلة التّامة التي كان يتوق إليها.
في هذا الكتاب التأملي يكتشف القارئ محطات مثيرة للدهشة عن قوة السكون ومدى أهمية الانعزال عن العالم أحيانا، سواء في عمق غابة ، أو وأنت تأخذ دوشا أو على حلبة الرقص. يقول أرلنغ كاغا يمكن للمرء تجربة السكون المثالي إذا كان يعرف إلى أين ينظر، ومن خلال نمو المعرفة الذاتية والامتنان، والتساؤل. وأن يأخذ المرء نفسا عميقا ثم يستعيد للولوج بنفسه إلى السكون. حينها سيجد قطبه الجنوبي في مكان ما من حوله. في كتابه الذي يحمل عنوان ” تجربة المكتشفين” يقول: “خلال جميع الأيام التي تلت ظلت تلك الطبيعة على ما هي عليه. لكن ما تغير مع الوقت هي علاقتي بها. خلال ثلاثة أسابيع لم أر ولم أسمع إشارة واحدة للحياة. لا إنسان، لا حيوانات ولا طائرات. تركت حوالي خمسمائة كيلو متر ورائي، وكان حوالي ثمانمائة كيلومتر أمامي عليّ قطعها. لم يعد الجليد والثلج أبيضا ، ولكن يتخلله لمعان من اللون الأصفر والأخضر والأزرق، وعديد من ظلال مختلفة من اللون الأبيض. بدلا من التفكير في أن المسطح مسطحا، أدركت بالتأكيد أن المسطح أيضا يتضمن اختلافات ومناطق شكلية صغيرة والتي تُشاهد من قريب كأعمال فنية و تدرّجات من الألوان تستحق التركيز عليها. عظمة المناظر الطبيعية والألوان من الثلج يجعلني سعيدا. وتلك المساحات المسطحة جميلة أيضا كما الجبال. تعلمت أن اللون الأزرق هو لون الشعر، الأبيض يرمز للنقاء، والأحمر للحبّ ، والأخضر للأمل، ولكن هنا لا يبدو هذا التصنيف طبيعيا. ما ترمزه الألوان يرجع لي. هي الآن جميعها ترمز للشعر، وللنقاء وللحب والأمل. غدا قد يرمز الأبيض والأزرق إلى العاصفة والصقيع.”
يقول ارلنغ كاغا : “لقد نسينا كيفية التعامل مع الصمت. نشعر بالقلق والتوتر إذا لم يحدث شيء. ثم نحمل الهاتف المحمول، ونتحقق من الأخبار من وسائل الاعلام الاجتماعية، والبحث في الجوجل عن أي شيء. نحن في طريقنا إلى الجنون “. “جون فوس” يتحدث عن الخوف من الصمت لأن الصمت يتطلب منك أن تتساءل. يقول أرلنغ كاغا أن الأمر يتعلق بالخوف، الخوف من التعرف على الذات بشكل أفضل. من السّهل التركيز على الخارج، في حين على نفس القدر من الأهمية التركيز على الأفكار. ويطرح ثلاث اسئلة في كتابه: ما هو الصمت؟ وأين هو؟ ولماذا الصمت مهما؟ ثم يستطرد قائلا أن الصمت لغة الحكماء والسكوت لغة الجبناء. الصمت رياضة فكرية تحفظ التوازن وتجعل المرء يعود الى ذاته الداخلية بعيدا عن الأفكار المتزاحمة داخل عقله. ثم يشرح الفرق بين لغة الصمت التي هي عكس لغة الكلام، وحين تتعطل هذه الأخيرة تبدأ لغة الصمت، التي تختلف عن السكوت. فالصامت يستطيع الرد لكنه آثر عدم الرّد، بينما الساكت قد يكون جبانا أو ليس لديه شيء يقوله أو فقد الحجة. أو أن الشخص مقترف لخطأ فأعلن الاستسلام بالسكوت.
في القرن السابع عشر، كتب الفيلسوف بليز باسكال، ” أن الناس لديهم من القواسم المشتركة أنهم لا يستطيعون الجلوس من غير فعل شيء.” وهذا السلوك أصبح اليوم ظاهرا بقوة من ذي قبل. نتوقع حدوث أمور كما نتوقع الإجابة لما نقوم به، ونعيش ضغطا في عقولنا تجعلنا معرضين لأمراض ، كما أفكارنا تصبح مشوشة ونصبح عاجزين على اتخاذ قرارات سليمة في حياتنا ورؤيتنا للأمور بمنظار سليم.
أشترت دار بنجوين للنشر الحقوق الأنجليزية للكتاب ” الصمت في زمن الضجيج” لأكثر من مليون دولار، وهذا يدل على ان المهتمين باقتناء الكتاب كاهتمامهم بالبحث عن الصمت الذي يفقدونه في حياتهم. في بيان صحافي، قال ميغيل أغيلار، نائب بينغين راندم هاوس في مدريد: “أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الضجيج هو مرض أساسي في المجتمع الحديث. الصمت هو بلا شك جزء من حل المشكلة “.اللجوء للصمت ويركن الإنسان إلى نفسه نصف ساعة من غير التفكير في شيء والسماع الى موسيقى هادئة أو صوت المطر والعصافير أو موج البحر. ذلك مفتاح سلام النفس والجسد والروح.
يقوبل الكاتب ارلنغ كاغا أن الصمت مهم بالنسبة له وانه لا يزال يستخدم الطبيعة للعثور عليه؟ يحب المشي في اتجاه واحد حتى يحصل على الهدوء، تاركا كل الالكترونيات في البيت.
—-