تستوقفني في قصائد الشاعر كاظم اللايذ، كوكبة من المصابيح الملونة، منها طغرائه الشعرية التي سأطلق عليها (القصيدة السياحية) ومابين القوسين تعود لي وحدي براءة الإختراع، فالصديق الحميم الأستاذ كاظم اللايذ، من الجوابين في أرض الله الواسعة، وتمنيتُ عليه يوما أن يجمع قصائد المدن وهي قصائد متناثرة في مجموعاته الشعرية، وهو في هذه القصائد، يشعرن اللقطة السياحية، ويطليها بجرعات من المخيلة أيضا، ويمكن اعتبار اللايذ من رواد هذا النوع من القصائد،أعني (القصائد السياحية) وهو في هذه القصائد حاضر مع الآخرين ومشارك في كرنفالات الشعوب ومنها القصائد التالية(أنخاب أسطنبول)(حوت أعمى)(الطريق الى أرارات)(على أسوار القسطنطية)( نافورة السيد سركيسيان )(الرايات التي عند الضريح)(هرات) (كابوس نيقوسيا) (ماليزيا بستان الله)(الوصول الى غرناطة)(أكر تاج محل)( مدن في جواز)..والشاعر اللايذ، أحيانا يتناول الآخر الذين هو في الداخل، وقد تسببت حروبنا في عسرهم ومحنتهم،كما هو في قصيدة(النوتية الهنود)..
(*)
في مجموعته (بوابات بصرياثا الخمس) في قصيدة (كابوس أبي) الإبن ينوء بكابوس يداهمه (ما أن يُسلم جفنيه ِ لسلطنة النوم)، لذا يستغل الإبن عطلة عيد الأضحى ويقصد قبر أبيه، سنلاحظ أن الطريق مشحونة بمنظومة شفرات
(وعليه حيئذ ٍ
أن يعبر صحراء الأحقاف
ويتابع صقراُ منفرداً
يسبح في الآفاق
ويمرّ على شوك ٍ ميت ٍ
ويدوس عظاماً
تهجع ُ منذ دهورٍ في الدركات
وبلا بوصلة يمشي
حتى يقعي َ عند جدار ٍ أبكم
ويمد يديه لينضَحه بالماء
ويسأل ساكنه ُ:
هل هو راض عنه ؟
إن كان كذلك َ
ما معنى هذا الطيف المتكررِ
يلبس ُ ثوب الكابوس؟
يقطع حبل تنفسه ِ
يجعل من ليلته عرساً أسود)
وأرى أن النجمات الثلاثة التالية : *** عاطلة لأن الأسئلة ستواصل سيرورتها بنفس الأتجاه
(ماذا؟!
هل خنت ُ خطاك ؟
هل أهملت ُ الأطراس َ
تُلقّنها حرفاً حرفاً ليل َ نهار؟
هل حطمت ُ الأيقونات؟
هل جرفتني الأمواج ُ بعيداً
فأضعت ُ هداك ؟)
ومثلما تكرر السؤال ب(هل) أربع مرات، ستأتي الإجابات ثلاثا ورابعها سؤال أخير تقفل به القصيدة لتبقى الشفرة محافظة على عذريتها..
(ذاك َ عِقالك في الركن
وتلك عصاك
أنت أنا !
فلماذا لا تلقاني
إلاّ في كابوس ؟!)
الإعتراض في القصيدة، على نمط اللقاء، المشحون بالخوف والقلق من قبل الحالم .صمت الأب هنا : فيه خصوبة التأويل ..في مجموعته التالية( على تخوم البرية أجمع لها الكمأ) وتحديدا في قصيدة(حلاقي ليس ثرثارا) يستقبلنا قنديل ٌ فيه قبسٌ من زيت المتصوف أبو بكر الشبلي، والمقبوس مشروطته ُ ثلاثية وسنعمد الى ترقيمها
(1) الزم الوحدة
(2) وأمسح اسمك من القوم
(3) واستقبل الجدار حتى تموت
وشحنة المرقمة الثلاث لاتحيل لغير العناية المركزّة بالصمت المغلق المطلق .
والمقطع الأول من القصيدة يبدأ هكذا
(لأن أمي
نادراً ما تتكلم
لم نكتشف أنها ميّتة
إلا بعد انقضاء النهار)
صمت الأم يبدو تلقائيا وليس مرمزاً، وحين نتلفت ونبحث عن نسخة أخرى عنها سنجدها في المجموعة السابقة(بوابات بصرياثا الخمس) في قصيدة(أبي وأمي) وسنتوقف في المقطع الثاني من القصيدة الخاص بالأم :
(وأمي
لها عالمان :
السوادُ
وحبسُ اللسان ْ)
والمتكلم في القصيدة، يتحاشى تقصي السبب ويجترح للمعنى دلالات شعرية
(فمنذ وعيتُ على الخلق
كانت هناك
ملفعة ً بالسواد
ومركونة ً في الظلام
وعن حزنها ما سألت ُ
فقد كنت ُ أحسبها
حدأة ً
والسواد لها ريشُها والعظام
وعن صمتها ماسألت ُ
فقد كنت أحسبها
واحة ً
في المغيب غفت
فسلاها الزمان)..
والصمت سيكون في المكان الخطأ ومعلن عنه في ثريا القصيدة(حلاقي ليس ثرثار)
فهذا الحلاق هو الواحد المتمرد على المؤتلف وبشهادة المتكلم في القصيدة
(حلاقي ..ليس ثرثارا كالحلاقين
أتركُه يسوح ُ في جغرافيا جمجمتي
ويتركني أسوحُ في جغرافيا ذاتي
لا توقظني من غفوتي إلاّ كلمته ُ
نعيماً
لعلها الكلمة الوحيدة التي ينطقها طول النهار)
في هذي القصيدة، تحديدا يكون العزف منفردا على آلة الصمت الذي ينتج إقتصاديات اختزال الكلام :
*الأم : نادراً ما تتكلم
*نعيما : كلمته الوحيدة أثناء النهار
*المتكلم في القصيدة: حين يفشل سائق التكسي في التلاسن معه، يتصوره أبله َ
*والمتكلم في القصيدة تروق له مجالس العزاء والسبب هو :(كلمة واحدة .. بعدها..أغرقُ في صمت لذيذ)
*حتى أثناء الخطوبة : بشهادته (هي تتكلم وأنا ساكت) حتى حين تحرضه على الكلام
(فأنطق
كلمة ً
أو كلمتين
ثم تنفذ ذخيرتي)
والنص ينفي أي عيب ٍ خلقى لدى المتكلم فهو( الذي يحفظ جل كلمات القاموس)
وسيكون وجيز القول نوعا من الأستياء كما فعلت العرافة في قصيدة(زوابع الألفية الثالثة)، بعد ولادة المتكلم في النص
(العرافة قالت كلاماً غامضا
ثم نفضت عباءتها وانصرفت/ 107- من مجموعة بوابات بصرياثا الخمس)
وقد يكون وجيز الكلام بسبب قمع السلطة، كما هو يتجسد في مدرسّ الفيزياء ضياء يوسف حسن، الضخم كأنه الجبل، الذي صوته( المجلجل الهدّار، يعصف ُ في القاعات..كأنه الرعود).. هذا الإنسان الحيوي السوي ، حين
(خيّره العثيون بين أثنتين
الدخول في الحزب
أو الخروج من المدرسة !)
سيغادر مهنة التدريس كرها، ويتنقل بين وظيفة (كاتب ضبط) في المحكمة اشرعية، ثم (موظف إرشيف) وبتوقيت وقاحة السلطة الغاشمة
(لم يعد أحدٌ
يسمع صوته يلعلع في القاعات
ولم يعد طلابه
يُحبون درس الفيزياء/ قصيدة (رجل ٌ..كأنه متحف/ من مجموعة – بوابات بصرياثا الخمس )
ربما يكون الصمت هو نتاج الشعور بالقرف من رداءة العالم..وشاهد العدل هو أكثر من قصيدة للشاعر اللايذ ومنها قصيدة (من درك البالوعة)وهذا القرف يستحق إحتفاءً نقديا خاصا
*كاظم اللايد في
(1) بوابات بصرياثا الخمس/ وراقون/ العراق – بصرة/ ط1/ 2015
(2) على تخوم البرية أجمع لها الكمأ/ دار أمل الجديدة/ دمشق/ ط1/ 2017
الورقة المشاركة في أصبوحة اتحاد أدباء البصرة/ 14 – نيسان – 2018
—