تعاقد حنا مينة مع الجنون منذ أن أمسك القلم، وخطّ روايته الأولى، لم يبدأ بشجاعته التي ختم بها، إلا أنّه لم يطق أبدا تقييد نفسه بالقيود الأدبية والروائية والاجتماعية الاعتيادية، إنما كان كالطائر في قفص لا يطيقه، إلا أن هدوءه مؤقت ريثما يستجمع قواه، وينمو جناحاه، ليحلق حاملاً القفص ويكسره حين يقابل الصخرة الأولى فوق قمة الجبل؛ هكذا كان مينة في أدبه، وحياته، وواقعه، وأحلامه، ولا يدرك عمق هذا الكلام إلا مَن أبحر معه على متن سفنه، وأنصت إلى استطراداته، وفلسفته البحرية العظيمة، ولا سيما حين نجرب رحلة البحر، ونفكر فيما يقول، فلم تكن علاقته بالبحر مجرد علاقة محبة.
كانت علاقة البحر بمينة علاقة أبوّة، أخوة، تبادل روحاني، تعاطف، حنوّ وخشية تماماً كالأب الحازم الحنون، وكان البحر صندوقاً للذكريات، رفيقاً في الروايات، ورفيق المساء في كل جلسة أدب وسمر وسهر وتفكير، ومهما تحدثنا عن البحر ومينة، لن نكتفي، ولن نصل إلى ما نريد دون دراسة متأنية في كل ما كتب هذا الأديب.
ومن ناحية أخرى؛ لم يوفر مينة أي جهد لينصف المرأة، ويعبر عن مأساتها؛ المطلقة، والأرملة، واليتيمة، والتي تعاني من جبروت زوجها وغريزته الحيوانية، وتلك التي لم تجد حولها من ينجدها أمام مصاعب الدنيا من الأهل والأصدقاء حتى وجدت نفسها في أوكار الرذيلة والتعاسة، ولم يعبّر عن أيّة منها تعبيراً سطحياً، إنما تمثّل المشكلة والشخصية، وعبّر عنها صراحة رافضاً ما يمارسه الذكور من الآثام بحق كل واحدة منها، وإن لم تظهر هذه الجرأة من البداية إلا أنها تسبح باستمرار في محار رواياته.
أخيراً، ولا طائلَ من الإطالة؛ مارس مينة الجنون بكل أنواعه، ولم تكن حياته هادئة أبداً، كان بحراً، هادئ السطح وأعماقه تضجّ بالحركة والتغيرات، وحين يموج يتسبب في كثير من الفوضى والجنون، وفي وفاته، لا بحرَ يرقد، ولا موج يهدأ، ولا عزاءَ لنا إلا أن نكون أكثر حرصاً على إنصاف الأديب المتوفَّى بعد أن ظلمناهُ حيّا.
—-
باحث في علم اللغة الاجتماعي والرواية الحديثة
—