هناك تجارب شعرية وادبية تنتمي لجيل الثمانينات لم تسلط عليها الاضواء بما فيه الكفاية، وبعضها ظل محبوسا في الادارج او انتشر بشكل محدود في الوسطين الادبي والثقافي. جيل الثمانينات الوحيد بين الاجيال الادبية العراقية عانى من انقسامات حادة ودخل في تصنيفات وتقسيمات لا تمت للأدب او رؤاه الابداعية بصلة بقدر ما هي تحقيب او فرز مجحف اكثر الاحيان، وهو الجيل الذي تنطبق عليه اكثر من غيره مقولة كتاب ومبدعي الداخل وكتاب ومبدعي الخارج. واذا تأملنا هذه التقسيم غير المنطقي لنفس الجيل نجد بانه مجحف لجميع المبدعين من هذا الجيل، يصل الى نفي الظروف القاسية المليئة باجواء الحرب والرعب التي عاشها وعانى منها ودفع الكثير من اجل وقف تلك الالة المرعبة المسماة الحرب التي احرقت الاخضر واليابس داخل وخارج العراق.
وبغض النظر عن هذا التقسيم غير المنطقي باعتبار ان جيل الثمانينات عانى من نفس الظروف القاسية التي اكلت اكثر من نصف مواليده نعني الحرب وقمع الدكتاتورية وسجونها ومشانقها، لدرجة تشكل سمات مشتركة بين مبدعيه، وما ان تتناول اصدار احد كتاب ومبدعي هذا الجيل تقفز من سطوره، الحرب كثيمة اساسية او متوارية خلف النص، سواء كان شعريا او قصصيا او روائيا. واذا ما لمسنا تمايزا بنتاجه فانه اتى لاحقا نتيجة لهجرة اعداد كبيرة من الكتاب والمبدعين خارج العراق ، بعد عجزهم عن الوقوف امام الة الحرب والدكتاتورية وقلة حيلة البعض وعجزهم في مقاومتهما ، وظلت اجواء الحروب والقتل المجاني والتعذيب والسجون او المعاناة باكملها هي هي سواء بالنسبة لكتاب ومبدعي الجيل الثمانيني.
ويمكن اعتبار الحرب وقسوة الدكتاتورية وبطشها العوامل الاساسية المشتركة بين ابناء هذا الجيل . لذلك انعكست بشكل اساسي وشكلت الثيمات الاساسية لمعظم ما انتجه هذا الجيل ابداعيا وفنيا . والشاعر سامي العامري ربما يشكل علامة فارقة بهذا الجيل فقد عاش اللحظتين او الداخل والخارج ، ونتاجه الشعري والقصصي جميعه تقريبا يدور حول هذه الثيمات مما يعكس عمق التأثير المباشر للحرب وما افرزته الدكتاتورية من حالات يصعب استيعابها احيانا لفرط وحشيتها، خاصة ان المعنيين من الادباء والفنانين والمبدعين جميعهم يشتركون بمواقف فطرية ضد الحروب والسجون والتعذيب، معظمهم غير مستعد للتنازل عن حريته سواء في الكتابة او الحياة مما جعلهم يدفعون ثمنا غاليا نتيجة مواقفهم هذه استمرت لغاية الان.
ومعاناة جيل الثمانينات وما لاقاه من حروب وتشرد وضياع لا تعني اقتصارها على هذا الجيل فقط، ولكنه الاكثر تأثرا بهذه الوقائع التي يمكن ان نسميها وحشية بكل معنى الكلمة سواء من جهة الحروب او الالة القمعية للدكتاتورية، فقد عانى الجيل الذي سبقه والذي تلاه من نفس المشاكل تقريبا ولكنها تظل في مرتبة ادنى مما عاناه جيل الثمانينات ومن نجى منه . واختيار الشاعر سامي العامري كنموذج لهذا الجيل ليس اعتباطا فهو يكتب الشعر بمستوياته المتداولة العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر والقصة ، علاوة على ذلك ، يحاكي تجربة كتابية جديدة تمزج بين الشعر والنثر القصصي بحيث تتماهى الحدود بينهما ، ويمكن الاطلاع على التجربة الفريدة في كتابة مثل هذه النصوص الشعرية القصصية، رغم ان هنالك من سبقه اليها ، في ديوانه : “النهر الاول قبل الميلاد” الصادر عن المؤسسة سندباد للنشر والإعلام في القاهرة.
نتوقف قليلا عند هذه التجربة التي لم تأخذ الكثير من الاهتمام سواء على مستوى القراءة او الدراسة لانها تمزج بين لونين كتابيين بحيث يمكن تلمس الفواصل داخل النص بين الشعر والنثر او الشعر والقص او السرد، ولا شك بانها تجربة ممتعة ومفيدة يمكن ارجاع اسبابها الى ان النص الشعري لوحده لا يستطيع استيعاب ما يريد ان يقوله الشاعر فيضطر للاستعانة بانماط كتابية مختلفة للوصول الى ما يود ان يحققه او يوصله الى القارئ عبره، اضافة الى ان هذه الطريقة في كتابة النصوص تبرز القدرة الابداعية للشاعر وتمكنه من ادوات الكتابة شعرا وقصا: ولتوضيح هذا اللون الكتابي والابداعي لدى سامي العامري نقتطف هذا المقطع من “شهاب ملتصق بغيمة”:
فيا فرات اذن غزوتك
وانتصرت بلا قتال
وهنا كذلك قد غزوت
وطالما كان الشراع الهدب
بالأمس القريب
وكانت الامواج عينيها
واطيار السواحل رف نظرات
تحط على الفؤاد
فينزوي بحر الشمال
ثم ينتقل بنقلة واضحة من الشعر الى السرد في نفس القصيدة:
“قال له الف كتابا عن عذابات الفرات وهو يرى صنفا من اهليه ما زالوا يفهمونه كماء وطاقة وثروة فقط!”.
ربما خان الشاعر ان يقول كل ذلك شعرا فلجأ الى السرد لاتمام ما يريد قوله شعرا ، ولكن الابداع في كل الحالات يجب ان يكون بلا قيود ، ليصل الى القمة والتميز ، ومهما كانت اسباب هذا المزج بين الشعر والقص او السرد يبقى تجربة فريدة يجب التوقف عندها لانها تكسر الرتابة او المعتاد وتنتقل من لحظة الى اخرى بحرية وتدفق لا تحبس القاريء بلحظة الشعر وحده وانما تنفتح على افاق قراءة مفتوحة النهايات والتأويل على حد سواء .
والحق ان جيل الثمانينات لم يعش سوى مظاهر خراب هائلة، طالت الانسان والعمران ، تتداعي ازاءها مقاومة التعايش بحرية وسلام ، وواقع ضاغط ، يجعل الجميع يقفون على شفا الموت ، بسبب الحروب او الالة القمعية للدكتاتورية، وهنا تأتي العودة الى الطفولة محاولة لتعويض حالتي الرعب والاستلاب اللتان بدتا في ظل الدكتاتورية بلا حدود او توقف، والعودة الى الطفولة بمثابة، الواحة المنجية من الخوف والترقب والموت الوشيك :
عد الى طفولتك.
استحضر المبهج من تفاصيلها.
حتى وان تخلله بعض العذاب فستصل الى ما يشبه الرؤيا.
اعذب الاشياء تختفي وراء أبسطها.
فأنت هنا أوتار تصدر نغما عذبا ولو لم يلامسها قوس.
قال: نعم رغم أني اذا تذكرت الطفولة فسرعان ما تغمز لي الحروب بحاجبيها!
………
لم تعد الشمس طائرة ورقية
وخصاما لطفلين صبحا
على لعبة او هدية !
ما لها اصبحت ناسكة؟
انها الشمس . إنْ تأتِ
لا تأتي الا على موجة منهكة
مثل اهليلج
زورقا كان ام قلب مانجو
وفي كل حال
هي التهلكة !
يمكننا من ذلك ملاحظة عمق المعاناة التي مر بها هذا الجيل ، فقد ظلت الكوابيس المؤرقة وذكريات الحرب وفظائها ملازمة له حتى في محاولته الهروب منها والعودة الى الطفولة او الذكريات التي سبقت تلك الحروب . ولكننا مع ذلك نلمس في هذه “القصائد . القصص” عودة حذرة الى الهدوء اوالشعور بالامان كلما ابتعدت الحرب وماسيها زمنيا ، اوغارت الدكتاتورية وما خلفته من كوارث وماَس لتتحول الى ذكريات مزعجة ، واشباح نزعت اسنانها وانقبرت بدون امل في العودة مستقبلا .
لهذا يمكننا ان نعد الجيل الثمانيني الاكثر تضررا من الدكتاتورية وحروبها ، ولكنه ابى الاستسلام اوالانزواء ، وواصل نشاطاته الفنية والابداعية ، وما يزال الاكثر نشاطا وابداعا داخل اوخارج العراق على المستوى الفني او الثقافي والابداعي ، اضافة الى ما قدمه من ترجمات متقنة للعديد من النصوص والمؤلفات الاجنبية من مختلف اللغات طيلة ثلاث عقود .وما يزال يرفد الثقافة العراقية والعربية بمختلف النشاطات والمؤلفات الفنية والثقافية والابداعية في الشعر والسرد والرواية والنقد الادبي والفنون والترجمات التي بدأت تحتل مساحة واسعة من نشاطاته ، والجيل الاكثر توثيقا لمرحلة الدكتاتورية على المستوى التوثيقي او الابداعي والفني ، لشدة ما عاناه من حروب وضياع وتشرد لاكثر من ثلاثة عقود ، وما يزال يثري الثقافة العراقية والعربية بمؤلفاته ونشاطاته الثقافية والابداعية .
——–
* سامي العامري: “النهر الاول قبل الميلاد”، من اصدارات مؤسسة سندباد للنشر والاعلام، مصر