- روعة يونس (سوريا)
يعتبر أدب “الهايكو” نوعاً من أنواع الشعر الياباني. وهو عبارة عن بيت شعر واحد، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتياً باليابانية، ويكتب عادة في ثلاثة أسطر وأحياناً يتجاوز ذلك إلى خمسة أسطر , يحاول الشاعر “الهايكست” من خلال مفردات قليلة؛ التعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة تحقق عنصر المفاجأة للمتلقي. ازدهر هذا الأدب في القرن 17 بفضل الشاعر المعلّم “ماتسو باتشو” وتلاه “يوسا بوسون” ثم “كوباياشي إيسا” وكثر غيرهما (نتوقف لاحقاً مع نماذج الهايكو لديهم). بينما في القرنين التاسع عشر والعشرين بدأ “الهايكو” يتجاوز حدود اليابان ليصل إلى أميركا ودول الغرب. فترجموه ومن ثم تمّت محاكاته وكتابته وتطويره للاستغناء عن عدد المقاطع الصوتية اليابانية التي قد لا تتجانس مع باقي اللغات والصوتيات في العالم. ثم بعد العديد من الترجمات لهذا الأدب الياباني، سواء إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو اللاتينية. وصل “الهايكو” في منتصف القرن العشرين إلى البلاد العربية عن طريق ترجمة نصوص منه إلى اللغة العربية.
- يقول (الشاعر المناصرة،رائد فن الهايكوالعربي ) ، ردّاً على القائلين بأن (الهايكو)، محصور في موضوع الطبيعة :
( الطبيعة جزء من مفهوم الوطن ، والوطن جزء من الكون ، بتنوعه، فإذا كان الوطن ، إديولوجيا،فإن العلاقة مع الطبيعة هي إديولوجيا أخرى …فإذا أردنا توسيع الهايكو نحو فن التوقيعة الشعري ، فإن هذا التوسيع يعني أن نتفاعل مع ديالكتيك الطبيعة -الوطن…والإنسان يتفاعل مع داخله وخارجه سواء عندما يمارس الكتابة، أو أي تفاعل آخر).
- ولادة الهايكو العربي:
يبدو أن “الهايكو” ظل أدباً مقروءاً لدى العرب حتى منتصف ستينات القرن الماضي، التي شهدت بداية كتابته لدى بعض الشعراء، إذ يُذكر أن من أول اختبر كتابة “الهايكو العربي” وكان المؤسس الفعلي لقصيدة الهايكو العربية، هو الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة منذعام 1964.
وكما يُقدّر لكل جديد؛ سواء كان أدباً أو فناً أو مطلق فكرة أو مشروع؛ أن يعاني الرفض والتشكيك وقسوة الانتقاد! عانى (المناصرة) -مثلما عانى شعراء العرب في التفعيلة والنثر والأقصوصة- من الانتقاد ورفض نصوص “الهايكو”والتوقيعات التي كتبها ومن أشهرها “هايكو تانكا”.حيث أُشير إلى “خروجه عن إطار التصوير الشعري إلى توسيع الهايكو العربي إلى مستوى التوقيعة الشعرية، الذي يتنافى وقواعد “الهايكو” التقليدي. لكنه استمر في كتابة “الهايكو” وظل هذا الرائد العربي ويكتب (هايكو) لهذا نجد أن هذا الشاعر الرائد يقول :
(1)- (رجعتُ من المنفى في كفّى (خُفُّ حُنينْ)
حين وصلتُ إلى المنفى الثاني
سرقوا مني الخفينْ).
(2)- ويقول (المناصرة ) في هايكوآخر :
(سلاماً آهِ يا أبتاه ،إنْ تعبوا ،فلن أتعب
وإن ركضوا إلى اعدائهم طمعاً
فلن أذهبْ).
فالشاعر (المناصرة) الذي نقل هذا الأدب وعمل على تجديده بما يتلائم والنسخة العربية. فتحوّل النقاد إلى تأييده والثناء على منجزه في هذا الصنف الأدبي. يقول (المناصرة) في هايكو ثالث :
(3)- أنا أمير
أنت أمير
فمن ترى يقود هذا
الفيلق الكبير”.
***
(4)- ويقول المناصرة في (هايكو) رابع:
الأفعى لا تُخلي جحراً،إلّا بالفأسْ
الأفعى لا ترحل بالموسيقا
الأفعى لا ترحل، إلّا إنّ قُطع الرأسْ.
وحين انتصفت الثمانينيات بدأ معها انتشار “الهايكو” , وخلال عقد من الزمن استقر وازدهر تماماً في المنطقة العربية، فعرفت دول المشرق والمغرب العربي شعراءَ اتجهوا إلى هذا الصنف الأدبي، وبالطبع عانوا جميعاً ما عاناه قبلهم المبدع عزالدين المناصرة وسواه. لكن الإصرار دفع هؤلاء الشعراء والشاعرات إلى ضمّ “الهايكو” إلى قائمة الأدب وأنواعه من رواية ومسرح وقصة وشعر ونثر. وبعضهم أنجز “هايكو” الومضة المدهشة بلغة الحاسة السادسة، بينما اعتبر رائد الهايكو (المناصرة ) أن الهايكو،هو فرع من فروع (التوقيعة الشعرية).
- نجوم الهايكو وأخواته:
يؤكد الشغف والثبات على طرح فكرة ما؛ مدى الإيمان بها، وهو ما يدفع الآخر رويداً رويداً إلى قبولها أو ربما تجاهلها. فيكون المكسب الوحيد هو أن الفكرة مرّت. وهذا ما حدث مطلع القرن 21، حيث تكرّست قصيدة “الهايكو” وبات آلاف من الشعراء أو المواهب يكتبونها (!) وعني هؤلاء بقصيدة “الهايكو” فأنتجوا قصائد عديدة وأصدروا كتباً وأشهروا منتديات إلكترونية وأسسوا جمعيات وصحف ومجلات، وأقاموا أمسيات شعر “الهايكو” بل وأطلقوا مسميات متعددة عليه، منها : (ومضة وتوقيعة وإضاءة وتكثيف وقصيدة ناعمة و”إيبجرام”) وغيرها. ويعتقد (المناصرة) جازما أن اسم (التوقيعة الشعرية)، هو أفضل أسماء هذه القصيدة.
- وسجلت آنذاك قصيدة “الهايكو” تألقها الأكبر في( المغرب) فتميز أديبها د.عبد الكبير الخطيبي، الذي ساهمت دراسته وتدريسه في جامعة “السوربون” وجامعات المغرب، وإجادته عدة لغات، واطلاعه على ثقافات العالم.
يقول الخطيبي في أجمل -وأقسى- هايكو له :
“مثل سيف ينغرز
في أحشاء طفل
إنه الحزن”.
فيما يعدّ حتى يومنا هذا (الشاعر الشاب المغربي سامح درويش (أحد أهم شعراء هذه القصيدة، وسبق أن عرّف “الهايكو” بكتابة “هايكو” عنه، يقول فيه :
“أن تكتب كطفل
بخبرة شيخ
هو الهايكو”.
- أما في سورية، وعلى الرغم من إنجاز العديد من قصائد وكتب “الهايكو” ظل الانتشار والازدهار من نصيب الشعر الحديث نثراً وتفعيلة، أي كما الحال في مصر والعراق ولبنان –بحسب النقاد-! إنما نسوق نموذجاً لقصيدة “الهايكو” خاض البعض مجالها منذ مطلع ألفيتنا الجديدة، ومنهم من شارك زملاءً له في كتاب مشترك، أو كتاب منفرد. كالسورية إيناس أصفري، في “هايكو” يتعاطف مع معاناة الآخر بدفء نبيل :
“أصابعه
ترى وجه حبيبته
الكفيف”.
- في زمن الحرب على سوريا..
يجد المتابع لقصيدة “الهايكو” خلال الحرب على سورية، أنها غالباً ابتعدت عن قصيدة الحب والشوق والهجر. واتجهت إلى الطرح الوطني والإنساني الاجتماعي. فها هو الشاعر علي ديوب، يتمسك بالأرض وأشجارها كرمز للوطن، ويقول في قصيدة “هايكو” يتماهى فيها الزيتون مع الوطن، والإنسان مع القلق من الحرب :
“يحرس الأرض
يقلّم الزيتون
وأفكاري
أبي”.
أما الشاعر قاسم حبابة، فيذهب بقصيدته إلى الناس المنكوبين، يتحسس آثار الحرب على جراحهم المعنوية لا الجسدية، فيقول في قصيدته :
“مع رائحة الشواء
يتناول الخبز
فقير”.
ولم يقتصر هذا التوجه على شعراء قصيدة “الهايكو” المخضرمين. فثمة تجارب شابة خاضتها في الحرب، لنقل إحساسها الوطني الإنساني الذي يحيي البطولة ويعبّر عن أخلاقيات أنبل بني البشر. يقول (سهم بسام) في “هايكو” الشهيد الحي :
“يحفر ببندقيته
دافناً أشلاء وحيده
قافلاً إلى ساحته
جندي”.
ولم يختلف الأمر بالنسبة للمؤسسات الثقافية الرسمية. ففي (ثقافي أبو رمانة) الذي استضاف مؤخراً لقاءً حول “الهايكو” أقامه فريق “ناي الثقافي” بإشراف رئيسه د.سامر زكريا. ومجموعة من شاعرات “الهايكو” كانت الحرب محور القصائد. إنما من المهم قبل عرض بعضها، أن ننوّه بأهم ما جاء في حديث زكريا،كان مختصاً في قصيدة “الهايكو” عن ميزة هذه القصيدة حالياً.
- يقول زكريا : تميز الهايكو في سورية خلال الحرب الكونية عليها بالجودة والتألق والازدهار والتطور، وشعراؤه كانوا بحاجة لإنجاز شيء إبداعي جديد يشعرنا بوجودنا رغم هزائمنا الروحية، فكانت تلك النصوص أو القصائد المختزلة العميقة التي أفرزت تطوراً عمودياً بعد التطور الأفقي الذي حصل، بحيث ظهرت أفضل وأروع قصائد “الهايكو” خلال السنوات السبع الأخيرة .
- سيدات القصيدة الناعمة” ..
أصرت شاعرات “الهايكو” في فريق “ناي الثقافي” اللواتي قرأن نتاجهن من القصائد في ثقافي أبو رمانة، على تغليب القصيدة الوطنية الإنسانية المتصلة بالحرب. وألقت (الشاعرة ميسون عرفة) مجموعة من قصائدها، شبّهت الحرب في إحداها بالريح..
تقول ميسون عرفة :
“كل هذا الجدال
مع شباك مفتوح
الريّح”.
فيما قرأت الشاعرة (شرف الطحان). مجموعة من قصائدها، تقول في إحداها :
“خطّ كلمات عن الوطن
انحنى تقديراً
القلم”.
من جهتها قالت الشاعرة (تمارا عثمان) : من حق الشاعر أن يمارس حقه في التجريب والابتكار والإضافة إلى الهايكو العربي. لأن المنجز لا يقتصر على تقديم ما هو مماثل، بل ما هو جديد مبتكر.
ورصدت الشابة (غدير حنّا )المكان، بقصائد عن مدن سورية، أضرمت الأفئدة حزناً وشوقاً إلى إعادة إعمارها وشموخها. وأخرجت بتأملية جميلة “هايكو” مشبع بجمال التشبيه، رغم قسوة المفردة والمعنى على القلب،تقول حنَّا :
“الشجر واقف على ميلِه
وما من ريح
طريق حمص”.
- نماذج من الهايكو الياباني” ..
نقتطف نماذج للرواد اليابانيين الذين أطلقوا وأسسوا قصيدة “الهايكو” قبل نحو 500 عام. مع تذكير بأن “الهايكو” كشعر تطور حتى في اليابان وبات له أسماء وتفرعات عدة. شأن أي أدب أو علم. مثلما بات لشعراء وكتّاب “الهايكو” لقب : “هايكست” لكننا استخدمنا هنا لقب “شاعر” مع شواهد مادة تحقيقنا، لأن ثمة بينهم من هو شاعر قصيدة عمودية أو تفعيلة.وتعكس النماذج المختارة هنا، ملامح فلسفية تسطّر مأساة ومعاناة الكائنات بمفردات بسيطة وعميقة في آن معاً، دون تنظير وتهويل. لنتأمل قصيدة “هايكو” تختزل إنسانية وتعاطف المعلّم “ماتسو باتشو” :
“على جانب الطريق
أزهرت نبتة.. قضمها
الثور”.
ونجد في “هايكو” لأحد الروّاد “يوسا بوسون” سدرة الحكمة والذكاء :
“في هذه الدنيا الزائلة
هي أيضاً
لها عينان
الفزّاعة”.
ويعكس “هايكو” لرائد آخر “كوباياشي إيسا” الظلم الذي يعانيه الكائن :
“تنح جانباً
خيل السيد آتٍ
أيها الدوري الصغير”.
لا بد في الختام من القول بأن أي مادة تتطرق إلى فن أو أدب أو علم أو فكر أو نظرية أو مفهوم، لا يمكن أن تحيط بكل الجوانب المتصلة به، إذ تدعو الحاجة حينها إلى مجلدات. وإلى ذكر مئات بل آلاف الأشخاص ممن قدموا منجزاً في ذلك الاختصاص أياً كان نوعه. وما سياق هذه المادة إلاّ معلومات مختزنة في الذاكرة مع بعض اجتهاد شخصي متواضع. أما مصادر قصائد “الهايكو” فمنقولة على ذمة (مواقع شبكة الإنترنت) فيما “الهايكو” الياباني من ترجمة الكاتب صلاح صلاح. أوردناها بهدف إلقاء بعض ضوء على “الهايكو” باختزال وتكثيف تماماً كما جنس “الهايكو”.
****
- -(عزالدين المناصرة) ، رائد قصيدة (التوقيعة الشعرية )،ومنها (الهايكو العربي) منذ عام 1964، وما زال يكتبها حتى اليوم (2019) . هو من مواليد فلسطين(محافظة الخليل،في 11/4/1946).أصدر (12 ديواناً شعريا)، أشهرها : (ياعنب الخليل ،1968)، و (بالأخضر كفناه ،1976)-و(جفرا أمّي,1981)، و(كنعانياذا ،1983)- و (لا اثق بطائر الوقواق ،2000)- و(توقيعات ،ط3، 2019) – و(البنات، البنات،البنات،2009)،وغيرها .وهو أحد شعراء الثورة الفلسطينية المسلحة (1964- 1994) ، يعيش حاليا ،(مؤقتا) في العاصمة الأردنية ، عمّان، حيث لم يستطع الدخول إلى مسقط رأسه (فلسطين)، حتى اليوم (2020). وهو أحد معارضي (اتفاق أوسلو، واتفاق تقسيم الخليل ) ، منذ 1993 وحتى الآن .ويحمل (المناصرة )، رائد الهايكو العربي ،شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن (جامعة صوفيا ، 1981)، وحصل على رتبة الأستاذية (prof.dr) عام 2005. أُحيل إلى التقاعد منذ (1/9/2017)، بعد أن عمل أستاذاً في خمس جامعات عربية لمدة (35سنة).
- · -صدر كتاب (توقيعات عزالدين المناصرة )، في طبعته الأولى التجريبية،عام 1969، وصدرت الطبعة الثانية ،2013، وصدرت الطبعة الثالثة في عمّان عام 2020 – (المحرر)