إنَّ بعض الرؤى تختصر صيغة الفن ما بعد الحداثي والذي يفترض بها عكس صورة بطريقة أو بأخرى ، لذلك أصبح الفن يرتاد الحقول المختلفة من سينما وأدب وتشكيل بكثير من التأجج ، فما من شيء إلاَّ ويحتضر ، وبعض من الأشياء بصدد الاختبار ، لذلك فما بعد الحداثة الفنية تنادي وتطالب للتجديد وللسعي الأبدي إلى الفرادة والاستيطان المنهجي للاحتمالات ، وإنها تتطلع إلى تفكيك الصنم الرومنطيقي للمبدع الفرد ، المنغلق المتمحور على ذاته حتى يتمكن الفنان التقني أن يلهو بإعادة تجميع أشلائه وفق هواه.
أن هدف ما بعد الحداثة يتمثل في دمج ( الفن ) و ( الحياة ) أي دمج الإشارات والأساليب المختلفة في الفن والأدب والعمارة ، وهذا ما عرفناه مع ( نيتشه ) الذي جعل من الحياة منهجاً للفن على أساس أن الفن يخفف من ( روح الحياة المشحونة بالألم ويسعى الارتقاء في الحياة ) ، ويقول ( ايغلتون ) : ” إن ما بعد الحداثة هي أسلوب في الثقافة يعكس شيئاً من هذا التغير، وذلك في فن بلا عمق ، ولا مركز ، ولا أساس ، فن استنباطي متأمل لذاته ، لعوب ، واشتقاقي ، وانتقائي ، يميع الحدود بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية كما يميع الحدود بين الفن والتجربة اليومية ” ، وما يبقى هو مدى سيطرة هذه الثقافة أو انتشارها ، أي ما إذا كانت قد قطعت كامل شوطها فإنها تمثل نطاقاً محدداً لضمها الحياة المعاصرة .وان ظهور الاتجاهات الجديدة في الفن ساعدت على تجاوز المدارس الحديثة مثل ( الانطباعية ) و (التعبيرية) ، وساعدت أيضاً على التحرر من القيود التقليدية خاصة في فن العمارة حيث يمكن الجمع بين عناصر غير متجانسة تخرج عن المألوف وتمتد إلى بقية الفنون التعبيرية مثل الرقص والباليه والموسيقى والأفلام السينمائية .
والتحول الثقافي الذي حدث بدءً من ستينات القرن العشرين والذي ترسخ كحالة متجانسة في مطلع السبعينيات لم يحدث في فراغ اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ، ولقد جلب الانتشار الواسع للإعلان كونه (الفن الرسمي للرأسمالية ) أو حمل الفن إلى استراتيجيات الإعلان ، وفي فن ما بعد الحداثة وعلاقته بالقوى التي تظهرها ثقافة الاستهلاك الواسعة ( ثورات الموضة ، فن البوب ، التلفاز ، والإشكال الأخرى من صور الإعلام) ، فلوحة ما بعد الحداثة تظهر جزئية وعارضية بفعل التنوع والتردد المستمرين للأنماط الثقافية المستغرقة في ألغاز التحول والتغيير السريعين ، فملامح فن ما بعد الحداثة واسعة جداً لأنه تيار فني غير مستقل ، غير منفصل، متجذر داخل الحياة اليومية ومتعشق بها ، ولهذا فقد أصبح فن ما بعد الحداثة حدثاً إعلامياً وجزء من ثقافة العولمة ، إذ شاع الفن بين أواسط كثيرة . ونتيجة لهذا التعدد بالأساليب والتأثر بالمدارس الفنية الأوربية والابتكارات الجديدة نشأت تيارات واتجاهات فنية لها طابعها الخاص والمتميز وذلك منذ أربعينيات القرن العشرين.
ان الفنان في عصر ( ما بعد الحداثة ) هو في موقف الفيلسوف والعمل الذي يبدعه لا تحكمه القواعد التي اعيد ترسيخها من حيث المبدأ ، ولا يمكن الحكم عليه بحكم قاطع بتطبيق تصنيفات مألوفة عن العمل الفني ، وهذه القواعد والتصنيفات هي نفسها ما يسعى اليه العمل الفني ويتطلع اليه ، وبالتالي الفنان يعمل بلا قواعد لعمله ، ويتم التأكيد على الذهنية الخالصة اي ان الصورة الفنية تستمد من عناصر ذهنية او نفسية دون الاعتماد على مادة فيزيقية ، وهي احدى تصنيفات الفيلسوف الوجودي ( سارتر ) للصورة المتخيلة ، التي هي الصورة الذهنية المتخيلة ، التي تمثل اعلى درجات التجرد في المادة الفيزيقية . ان الفنان يحول المرئي الى اشارات او علامات ، و تتغير مفردات الخطاب التشكيلي المعاصر كالانسان والبيئة والمحيط والموضوع نفسه ، وعلى هذا الأساس يتم التحول من العمل الى الخطاب في مرحلة ( ما بعد الرسم ) ، وأسلوبياً نتجاوز الثنائيات التقليدية ( تجريد ، تجسيد او تشخيص ، أسلوب ، رؤيا ) ولا يجري تأخير الفن والفنان في اتجاه جامد او عينة نهائية ، فالرؤيا تحرر الفنان والمتلقي من الانفعال بالموضوع والانجاز لتجعلهما يتفاعلان معه. ومما تقدم ذكره ترى الباحثة أن الفنان الذي نفذ أعماله النحتية خارج القاعات ليسيطر على مساحة من الارض مثل الاعمال المعمارية ، فأعمال ما بعد الحداثة كانت تجريدية مجهولة وملونة وبراقة، فوظف النحاتون مجموعة مختلفة من المواد الجديدة ، ومعظم هذه المواد التي أختارها الفنانون أنها تتسم بالتنفيذ السريع أو المرونة . ومع تقدم الزمن في التسعينيات ، أندمجت فنون ما بعد الحداثة في أغراءات التقدم التقني وأليات البرمجة المعلوماتية ، وجاءت ثورة الفن المعاصر من الفيزياء البصرية وهي تحمل في كنفها أشعة الليزر والاشعة السينية الى ساحة الفنون التشكيلية وتوظيفها في مجال أليات أشتغال النحت المعاصر ، وعلى الرغم من تطور الحركة الفنية للنحت واتساع نطاقه نحو التجدد والتغيير ، بقيت الصورة الانسانية كما في أعمال البنائيين موضوعاً اساسياً في تلك الاعمال النحتية الممثلة بالتيارات الفنية الحديثة حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فهي حاضرة بتقنياتها لأنها من صنع الانسان ومتميزة بما أكتسبته من قيم جديدة فقد كانت تمثلات الدادائية والتكعيبية واضحة في فنون ما بعد الحداثة في مجال النحت واثرها الواضح بقيمتها العبثية والأستهلاكية التي مهدت لتلك الفنون المعاصرة من النشوء ، ونوع من المحاورة الذي يخلق نمطاً من التعبير البصري في تحقيق فناً ثلاثي الابعاد بأستخدام التقنيات الحديثة والبرامجيات ، ولتحقيق الابتكار الجديد هي حقيقة التفاعل بين الفنان والعمل الفني .
أن الفن الحديث في مطلع القرن العشرين كنهضة تشكيلية قادتنا إلى بعث إنتاج تشكيلي غير معهود أنصف بطرائقه التقنية الجديدة والمتغيرة، فعرفنا ( التكعيبية ) من خلال تجزئتها للشكل والتي هي تقترب من تمثلاتها مع الفن ( البوب ارت ) الذي نجد آثاراً لواقعه في كولاج التكعيبين والدادائيين و(الوحوشية) انطلاقاً من تعاملها المغاير للون ، من خلال الفنانين التشكيلين الذين تعاملوا مع الأشكال والمواد عبر ذاتية تميزت بخصوصيتها ، ومهارات يدوية متجددة وتقنيات مختلفة ، فأثروا بذلك في مجال الفنون التشكيلية المعاصرة طيلة القرن العشرين ومروراً بالقرن الحادي والعشرين .
وصفوة القول : أن فنون القرن التاسع عشر نجد تمثلاتها في فنون القرن العشرين باعتبار ما أستحدثه الفنانون في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان نتيجة حتمية لتطوير الفن للتخلص من النظام الأكاديمي ، أما الفن المعاصر وفي ضمنه فن ما بعد الحداثة يقوم على محاولة كل فن فيه بابتكار أسلوب خاص يتميز به في إخراج عمل فني أو لوحة فنية بطريقة تستدعي الأنظار ، فالتغيير يحدث في تقدير الفنان له وابتكار الطريقة التي ينفرد بها في التعبير عن أغراضه وآرائه ، فالصورة ليست مجرد مظهر للمرئيات بل هي تعبير عما يجول بخاطر الفنان وما ترسمه من مخيلات من خطوط وألوان وظلال وإدخال مواد جاهزة ومواد مهمشة إلى اللوحة ، وهكذا أصبح الأسلوب الصناعي والجاهز في الصورة أو التمثل أمراً أساسياً في فن ما بعد الحداثة ، ومهما تنوعت الأساليب وتعددت وجهات النظر بين فنانين العصر الحديث وعصر ما بين الحداثة في هذه العلاقة التي تربط الفن المعاصر الذي أرست ملامحه الفنية العالمية من منتصف القرن العشرين اي منذ أواخر الخمسينيات في أرجاء العالم الغربي ينـتمي لمرجعيات مفاهيمية مغايرة بعيداً كل البعد عن المعنى المتضمن لمصطلح الفنون التشكيلية .
ومابعد الحداثة تمثلاتها الواضحة في اتجاهاتها كالتعبيرية التجريدية والفن الشعبي والفن البصري والسوبريالي والمفاهيمي والكرافيتي ، فكان انعكاس آثار هذه التمثلات الفنية لحقيقة فن الحداثة على الحركة الفنية المعاصرة ، وحقيقة ما بعد الحداثة من خلال التأثير الفعال للسلوك الإنساني بوصفها المخزون الثقافي لذلك المجتمع المعبرعن قيمه وعاداته وأسلوب حياته وأنماطه، وهكذا فان منطق الحداثة قائم على ما هو (جدير ومتوحد ومتعقل ) ويقابله منطق ما بعد الحداثة القائم على ما هو ( زائل ومتشذر ومنفصل وفوضوي ومهمش ) أنها الحداثة في نهاياتها القصوى .