ثمانون عامًا أو يزيد فاصلة بين زمن النائب توفيق الحكيم والمحقق أشرف العشماوي ، في عام 1933 كتب الحكيم يومياته البديعة الفاتنة الشهيرة ونشرها عام 1939 بعدما استقال من وظيفته بينما العشماوي كتب رواية محكمة محبوكة صادمة وهو لا يزال في عمله وإن كان جعل زمنها أيام مبارك ليمرر نشرها بسلام ، المقارنة ليست عن مَن منهما الأجرأ إنما اللافت أن الحكيم لم يقصد رواية بالمعنى المتعارف عليه في وقته بقدر ما كان رصدًا لحالات مرت أمامه ونقلها كما هي بأسلوبه الفاتن الشاعري ، لكن الحكيم بدا وكأنه مستشرق يكتب عن مجتمع غريب عنه يراه بتعال ومن بعيد، بينما العشماوي انغمس بداخله لدرجة الانصهار وتوارى خلف شخصياته المتخيلة والمرسومة ببراعة وعبقرية خصوصًا شخصيتي رمسيس ونبوي الديب رغم ظهورهما القليل لكن حضورهما كان مدويا كل مرة ، العشماوي اختار لفكرته قالب الرواية بالمعنى الكلاسيكي الذي يبرع فيه ويُخلص له ، وإن كان استعمل الحداثة في أسلوب السرد المعتمد على تبادل الأصوات بين بطلي الرواية نادر كمال وهدى حبيب كعادته في رواياته الثلاث الأخيرة ولم يخل أسلوبه من شاعرية وابداع ، في ظني أن بيت القبطية علامة فارقة في مسيرة العشماوي الأدبية – رغم جودة وتميز رواياته الأربعة الأخيرة – ليست لأن القبطية محاكاة لتجربته العملية كوكيل للنائب العام أو قاض إنما لقدرته على خلق عوالم تبدو حقيقية للغاية من خلال خيوط عريضة عادية لقضايا مرت به مثل قضية سرقة طاووس حديقة الحيوان أو أحداث الكشح عام 2000 ، أو قرأ عنها كعادته في البحث الدؤوب قبل الكتابة لينسجها بهذه البراعة على شكل رواية محكمة تحمل من الدراما والصراع ما تحمله روايات عالمية من العيار الثقيل ، هذه رواية مُحملة بالأسئلة شأن أعظم الأعمال الفنية التي تقوم على الدهشة ثم التساؤل ثم إلقاء كرة النار تلك في عقل القارئ لتتركه فريسة للتفكير والتدبير في حاله ، هل يظل كما النعامة يدفن رأسه بالرمال أم ينتفض كأسد هصور ضد الجهل والتخلف والخرافات ، الاجابة مفتوحة مثل نهايات غالبية روايات العشماوي .
أسئلة العدل والمساواة والتعصب والفتنة والقهر ومدى تحكم القبضة الأمنية في مجريات حياة أهل قرية الطايعة أو “التايهة ” كما وصفها العشماوي على لسان أبطاله ساخرا، وهو أجاد في ذلك لدرجة الامتياز ، هذه الأسئلة لن تجد لها إجابة شافية بالرواية بل ستدفعك لمزيد من الأسئلة التي ستتدفق على عقلك وتنهمر فوق رأسك بعد أن تطوي الصفحة 239 الأخيرة من هذه الرواية الدسمة ، وربما يحدث لك مثلي ألا تستطيع تذوق روايات أخرى بعدها بسهولة .
لا أميل لصف القائلين بأن بيت القبطية معارضة ليوميات نائب في الارياف أو تشكل تماسا معها ، وفي ظني أنها تحية ذكية من التلميذ لأستاذه وإشارة أدبية بأن لا شئ تغير وهذه أقوى رسائل الرواية في تقديري ، وهي الرسالة التي تخيف بحق وتقلق بشأن مستقبل أمة في القرن الواحد والعشرين ولا زالت ترى غير المسلمين كفارا ؟! ولا أنحاز أيضا لمن وصفوا الرواية بأنها تجربة شخصية للعشماوي فدونها بسهولة ، فالمعلوم عنه أنه لم يعمل سوى بالمنطقة المركزية فقط طوال خدمته بالنيابة العامة على مدار عشرون عاما ، سواء بنيابات الجيزة أو مكتب النائب العام بدار القضاء العالي وكان مختصًا بقضايا الفساد والجاسوسية وقضايا الصحافة أو الرأي ومعلوم سجله الناصع في هذا المجال تحديدا رغم أنه لم يكن قد نشر حرفا بعد وقتها ، وأرشيف الجرائد خير شاهد على سجله القضائي المشرف، لكني أعتقد أن العشماوي الذي يحمل عين كاميرا تلتقط أدق التفاصيل استلهم من خياله قضايا غيره وبنى عليها عوالم متخيلة مستخدما قدراته الفذة التي لا ينافسه فيها أحد على الساحة الروائية الآن في الحكي الذي يدفع بالحدث للأمام ، يحكي لك ببراعة كل شئ من خلال حركة أبطاله وتفصيلات صغيرة تظن أنها بلا فائدة لكن لاشئ مجاني في روايات العشماوي ، وهي مهارة يفتقدها كثير من الروائيين العرب للأسف بينما العشماوي يجيدها بصورة منقطعة النظير وهو في ذلك السهل الممتنع بحق من بين أبناء جيله.
رواية بيت القبطية ليست رواية عادية وفي ظني أنها ستحقق دويا هائلا خلال الشهور القادمة مثلما سبقتها يعقوبيان عام 2003 وعزازيل عام 2009 . فالعشماوي هو أحد الروائيين العرب القلائل الذين يجيدون التشويق والجذب مع الحفاظ على العمق والبعد الأدبي وتلك الميزة التي يتمتع بها هذا الروائي القادم من صندوق القضاء المتحفظ نوعا ما إلى ساحة الأدب الرحبة والتي وجد نفسه بها جعلته يتربع على عرش النجومية منذ رواية البارمان وحتى الآن بجدارة ، ست سنوات وهو الأكثر مبيعًا ، حصد جوائز مهمة وترجمت بعض أعماله لعدة لغات ، ونال احتراما واهتماما واسعا من كبار النقاد والكتاب لما يكتبه وله جمهور عريض متعطش لأعماله.
في رأيي أن بيت القبطية رواية كتبت لأمرين أولهما ناقوس خطر ينبهنا من الغفلة كي لا نعتاد على الدم والفتنة فنتبلد والأمر الثاني لتعيش هذه التحفة الأدبية للأبد كواحدة من أفضل الروايات العربية التي صدرت في الخمسين عاما الأخيرة وأظن أنها ستعيش خمسون أخرى على أقل تقدير وهي على القمة أيضا بعدما كتب العشماوي الخلود لهذه المرأة القبطية التي ماتت منا لأنها فقط أرادت الحياة.