امتعض الكثير من العرب، من انحسار بارقة الامل في انتهاء حقب الأنظمة الاستبدادية التي تواترت لعقود طويلة، حتى إذا تلاشت، أخفقت الديمقراطيات المستحدثة في التأسيس لكينونات ناجحة، ما دفع صنّاع السياسة الغربيين الى إعادة تقييم استيعابهم لجدلية الصراع بين السلطة والدولة في منطقة الشرق الأوسط، ولماذا فشلت محاولات إرساء أنظمة ديمقراطية حقيقية، بل الأتعس من ذلك، ان الدول التي شهدت انتهاء عصر الدكتاتورية، آلت الى بلدان فاشلة.
لم يكن العرب وحدهم منشغلين في الآليات والكيفيات التي تتحوّل فيها بلدانهم الى ديمقراطيات ناجحة، بل الغرب نفسه، وعلى الأخص، المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الذين تعلقّوا بشكل خاص في مشروع الانقلاب السياسي، بواسطة التأجيج الجماهيري، والفوضى الخلاقة، لكنهم انتهوا الى ما يشبه الخيبة، مستسلمين لفكرة ان التأسيس يجب ان يكون تدريجيا، وان التغيير الشعبوي بتأجيج الشارع، وتحول المجتمعات الى مجموعات مسلحة، كما في سوريا وليبيا، لن يحقق المفاعيل.
ويًستثنى من كل ذلك الحالة العراقية، التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا، في التغيير السياسي بواسطة الاجتياح العسكري.
تقتنع النخب المفكّرة والمخطِّطة الغربية، التي تستمد اشتقاقاتها من مراكز التفكير العملاقة، والرصد الميداني، أكثر من أي وقت مضى، بان الإخفاق كان مصير ثورات الربيع العربي، وان الديمقراطية المستوردة التي تتلقى الدعمين المعنوي والمادي من المؤسسات الغربية، لن تنجح، ما لم يتم اختراق ذاتي للطبقية الاقتصادية والاجتماعية، والتأسيس للمجتمع المنتج، ونشر الرشد السياسي والاجتماعي، وتهميش التكتلات البنيوية المعقّدة، والقضاء على الأمية.
يتحدث الباحث في مركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز، شادي حميد، عن ان الولايات المتحدة ركّزت في أوائل التسعينيات، على تنمية المجتمع المدني في الشرق الأوسط. وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، زادت إدارة جورج دبليو بوش بشكل كبير من المساعدة للمنطقة. وبحلول 2009، كان مستوى المساعدات الأمريكية السنوية للديمقراطية في الشرق الأوسط أكثر من إجمالي المبلغ الذي تم إنفاقه من 1991 إلى 2001، حيث كان الانفاق على تعزيز الديمقراطيات، يفوق اية مجالات أخرى.
إنّ إنفاق مئات الملايين من الدولارات من أجل التأسيس لديمقراطيات، يوصف بأنه عبث، مالم يكن الوصول اليها تدريجيا، عبر آليات محلية ومخاضات طبيعية، فلا تلبث الديمقراطيات المستوردة، أن تموت اذا لم تكن تلقائية ثورية، ناجمة عن معاناة وتجربة انفتاح طويلة ومتأنية للتجارب التأريخية، وفي مجتمعات ينعدم فيها الناخب الواعي المستقل، وتزدحم فيها التكتلات العشائرية والفئوية، والمناطقية، والطبقية، يصعب على الديمقراطيات المعلّبة انْ تصمد.
تُرصَد نزعات صريحة في السياسات الغربية، للإقلاع عن الدعوات التأليبية باتجاه إقامة الديمقراطيات على النمط السائد، بعد التراجعات الواضحة في ثورات الربيع العربي، بل ان الدول الكبرى تتجه الى دعم النظام السياسي التقليدي العربي، بأشكاله في الخليج، والدول الأخرى، يدفعها الاعتقاد بان ذلك يستطيع التأسيس لبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية، قادرة في المدى الطويل على النهوض بمشروع ديمقراطي حقيقي، ويتلخص ذلك جليّا في سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي استهجن في اكثر من مرة، التغييرات السياسية في ليبيا والعراق، وحتى سوريا، وبرهن على ذلك بدعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي انقلب على رئيس انتُخِب ديمقراطيا.
مقالات ذات الصلة
14/10/2024