رغم أن بلاد العرب تزخر بالخيرات لو أنها وضعت مواضعها واستثمرت في دحر الفقر المدقع وإطفاء جذوة الجوع، لما بقي ذو حاجةٍ على وجه الأرض، ولا وجدت الأمية سبيلاً الى العقول، ولكن الدين الإسلامي لم يفلح في استئصال الجوع قبل إرساء الوعي، ولم يُدرك سبيل القضاء على الأمية قبل تشييد المعرفة.
إن رجال الدين لا يبنون صرح المجتمع إن كان مزداناً بالثقافة، بل هم أوصياء على إرث أدبي إسلامي يرونه طوق نجاة وغاية إصلاح، غير أنهم ما فتئوا يدعون أن القيادة لا تصلح إلا لهم، فهم الأحق بسياستها والأولى بتوجيهها، حتى غدا رجل الدين يزعم أنه جدير بأن يعتلي سدة الحكم، ويجلس في مقام الرئيس، ويتقلد زمام الوزارة، ويدير شؤون الرعية، فيصبح هو الوزير والمعلم والقائد، بل هو كل شيءٍ، فوق هذا الكوكب.
لقد عمد رجل الدين الى استغلال قِلة الوعي وتكريس بقاءه، واتخذ من غفلة العامة سلماً إلى الهيمنة، فكلّما أضاء مصباح الفكر، تهاوت دعائمه وخارت قواه، ولذلك فإن المجتمع الذي لا يبعث الوعي في أفراده يعرض نفسه للسقوط في هوة الجهل، وهنا يتراءى لنا رجل الدين وهو يشيد لنفسه عرشاً جديداً، يدججه بأسلحة الجهل وترصّعه بأطياف التفاهة حتى تبوأت الصدارة في بلاط المشهد الاجتماعي.
إن الأمة التي تضيع نور الفكر هي الأمة التي تتخبط في الظلمات، ولهذا فإن الأديان تحكم قبضتها على أرباب الجهل، إذ لا حظ لهم في موازين العلم، أما أصحاب الفكر فلا يسيرون في دروب البسطاء، لأن أولئك الفقراء الذين لم يسبروا غور الإدراك لا يرون في الوعي سوى رفاهية لا تسمن ولا تغني من جوع، فهم لا يدركون معناه بقدر ما تشدهم الحاجة الى كسرة خبز تسكت أنين بطونهم، ورداء يقيهم برد الليالي وحر النهار .
فكيف يطلب الجائع المعدم من عقله أن يعي وهو يتضور جوعاً ؟
وكيف يرتجي من فكره رشدا وهو يبيت بلا كساء؟
وعلى هكذا استطاع رجال الدين أن يجعلوا من الفقراء طعماً لمكائدهم، إذ يشدون أبصارهم نحو السماء حين تعجزهم القدرة على نصرة الجياع، فيلقون بهم الى سراب الوهم و يقولون “ادعوا ربكم، فإن رزقكم موصول بأعالي السماوات، مربوط بحبل الطاعة والتذلل والتضرع والتهجد والتسبيح الطويل”. ولكن كيف بمن أقعده الجوع، وأعرى الفقر بدنه، أن يقوى على العبادة، وهو لا يجد ما يسد جوعه، ولا يملك ما يستر عريه، وعبد الله عاجزاً فارغ اليدين من الخير، ان يوفر لعيالة لقمة عيش تسكت انين بطونهم وتسكن اروحهم وتهدا نفوسهم انها رقصة الجوع وصرخة الجهل في بلاط سلطة الدين .