أنا، وهو.
اثنان في واحد، هكذا قالت لنا عجوز تملؤها الأوشامُ، وشمٌ على رائحة ظلٍّ متنقِّل، ووشم على لون السماء حين تلفَّعت بدثار غسق فيْروزي يكسوه دم بارد متجلِّد، ووشم على جدار زمن مجهول.
قالت لنا أيضًا شجرة بلوط وحيدة في أرض لا تسكنها الغيلان أو الأشباح:
أنت هو، وهو أنت، كلوحين من صبار على جذع واحد في صحراء تُلوح للمسافات بغبار عبثي، وأنتما – أنت وهو – كحسونين في قفص خيزران استعمره جفاف أحمق، وربما كنتما يومًا رحيقَ سنبلة في وادٍ تسدُّ آفاقَه زهور وورود تستعدُّ – رغم اختلاف الائتلاف في اللون والرؤى – لجَفاف يهشم ويذرو وينثر.
قالت لنا نملة علقت في صمغ نبتة مُفترسة تستعد لهضمها:
هو أنت، وأنت هو، أنت أنت، وهو هو، كصحراء تَسكُنها الرمال، تأكلها الشمس، ويَلتهمها البرد والظلام، فيها تَتساوى كل الأشياء، كالموت الذي لا يفرِّق بين مخلوقات مرئية وأخرى عصية على الرؤية أو حتى الاكتشاف، أنت وهو كسرابَين يَنشقان من بؤرة تباعُد وتلاصق، يضيئان كمصباح كهل في صومعة منفية فوق جبل تقطنه النسور.
قلت وقال:
نحن نحن، نحن لا نخضَع لصيغة مفرد، أو تركيبة جمع، نَقترب من الصفر، ننزاح نحو العدِّ السلبي الذي كلما تعاظَم رسمه خفتت قيمته، ونتسلَّق فوق الصفر بأصابع منزوعة الأظافر والأنامل والأباهيم، وكلما نقلْنا خطوة نحو الفوق، حقَّقنا رسمًا، لكنه يعطي قيمة، لها دلالات يُمكن اختبارها بإبرة خياط وصنارة صيد ملقاة على حافة صخرة مُتداخِلة منذ أعوام تهزُّها الوحشة، ويفجؤها الترقب والانتظار. بين المفرد والجمع، هناك مَثنى، هذا في اللغة، في الصورة التي تقع أعيننا عليها ونُسمِّيها مجازًا أو تجاوزًا بالكلمات والمفردات والجُمل، مثنى اللغة، لا وجود له على مساحات جلدنا المشدود بكلابات الجزارين على أرصفة أزمان تتوزع منا وفينا وعلينا بين مفرد وجمع تحولاً لاندماج اختفت فيه ملامح الأول بالثاني، تمامًا كالنسمة التي تختلط برائحة الليمون أثناء عبورها أمام نحلة تَزِنُّ بجناحيها لتلفتَ انتباه القمر.
حين التقيته أول مرة، كنا نقف على نصل نرجسة تتأرجح ذؤابتها بين حنين الصليل وشوق الدويِّ، قصف يودي بالسمع، وشقوق تسيل منها دماء بيضاء، تتشابه مع زهر اللوز ونصاعة النرجس، كان مُدَمًّى وكنت مثله، حدَّق وحدَّقتُ، كبُومين غريبين خرَجا من بيضتين كانَت لهما ذات الأم، أو كعقابين فُقسا في ذات اليوم وذات اللحظة، وربما كشرنقتَين تحوَّلتا مرة واحدة إلى فراشتين مرصَّعتين بنقوش طبيعية عمياء أو مبصرة، فهذا لا يُشكِّل فرْقًا في النقش الموسوم والمدقوق بمطرقة غيمة تائهة تتساقَط فزعًا وفشَلاً.
وقفْنا على شاطئ مفروش بزرقة صافية شفافة، تَخلع ملابسها بتأنٍّ مملٍّ، كملل صحراء من الشمس وقت غليان الظهيرة، على بعد ذراع واحد من ذراعي عوج بن عناق، تمازجت الزرقة مع تكوين الشمس والعوالق والظل والهواء، فانخفضت الرؤيا لتُصبح رصاصية تُخفي أسفلها، وكأنها ارتدَت بسرعة برق مخطوف من برق ملابس الزرقة التي خُلعت بملل.
سِرْنا قليلاً ونحن نتحدث بمفردات الصمت، بلا نبضات أو حركات إرادية ولا إرادية، كنا كغصنين جافَّين فرَغا مما فيهما، تدخلهما الريح وهي مسرعة إلى منتهاها، غير عابئة بخطِّ السير أو طريقة الانحراف المفاجئ، لكنها عابئة بالتأخر اللحظي عن بلوغ المُنتهى، وكأننا لم نكن يومًا على جذع يَمنحنا الجمال ونمنحه الحياة، فنُضفي على الرياح جمالية الوداع واحتفالية المرور.
قفزت سمكة، وأخرى، وأُخَر، نَزع مَن نَزع، وقَفز من قفز، هذا الرصاصي المثقل بالغموض سفكت سريته وتمزَّقت رجرجات سطحه، كنا نسير بجنون الصمت، وكان البحر يسير معنا ويسير مع ذاته، يتقدم، يتراجع، يصعد، يهبط، يلتف، يهتز، يموج، يدور، فيسقط بالدوار وينتشي باليقظة، وكنا نحن، نقلد البحر، غيرة وغبطة وحسدًا، ننجح في لحظات، ونسجل فشلاً ذريعًا ودامغًا بقية الطريق، حدَّقنا باللمعان الراقص بانتظام تسلسل رسمته الشمس الموزعة على الزرقة، رأيناه وهو يرسل بخجل انعكاسات صغيرة لا تكاد تلمح لولا التأمل المزروع بخيبتنا الواسعة أمام زنبقة تتحدى جمال البحر كله على طرف جدول يرفض الزرقة ويحتضن الفضة.
كلما تقدمنا بصمت مُغرق في صمت، تجلَّت المفردات ككائنات مولودة من رمل الشاطئ الطويل، غنية، مكتظة، فواحة، شفافة، كبلور الوادي المُحتضن قصب الشبابة وألحانها، صخرة هنا، وصخرة هناك، نباتات طرحها رحم بحر من رحم موجة غادرت إلى مجهول يندمج مع الغيب، جثث موزعة متشابكة مكومة بعضها فوق بعض، لم تكن تَعرف قبلاً بأنها ستخرج من هناك لتتوسد رملاً مشبعًا بروائحها، ولم نكن نعرف أننا سنواجهها يومًا مواجهة الحياة للعدم، ولن نعرف الآن، أو في آن قادم، كيف ومِن أي رحم موجة خرجت، لتُلقي بأرواحها المحملة بالملح والشمس والماء والظل والكائنات تحت أقدام مسيرتنا الصامتة، ومسيرات صاخبة بكل ما تملك النفس من تناقضات واختلافات وأحلام ورؤى وهواجس وخوف ورعْب، جلُّ ما نعرفه أنها كانت يومًا في المجهول، وأنها خرجت بمهمة واعية لمعانقة مجهول حين تتحول إلى نثار.
لم نكن نلحظ خيوط الحرير المُشبع برائحة الدوالي وحليب العناقيد وهي تتقد كأنجم متفجرة من شدة اليأس والفرح، كنا نرقب التوت ودودة القز تغزل نسيجها الغيبي بتؤدة ويقين وافتِتان، وكنا نلتقط الجنى بألوان الأخضر والأسود والخمري المُعَرق بسمرة مأخوذة من حمرة قانية، لم نفرق بين نسيج الدود ونسيج العناكب، ولم نعرف كيف أن ما يَخرج من دودة شجرة التوت يكون من حصة السادة والأغنياء، وعرفنا كيف تستطيع دودة أن تبني غرور إنسان، إنسان لا يتجاوز بمُحتواه وفحواه فخر ما يلبس مما أنتج الدود وهو يَحتقر الدودة ذاتها، كم هي رائعة تلك الملحَمة التي تكوِّنها ديدان لتكون مصدر فخر لقراء لا يَعرفون الحروف ولا يتقنون الأبجدية!
تقدَّمَ نحوي، أمسك بيمينه يميني، مع أننا لا نملك إلا يمينًا واحدًا، يُشبه لغة الأخطبوط، وملامس قناديل البحر النابضة بالسمِّ، وهو يمين يُتقن فن تكوين الرحيق من سم الأخطبوط، والشهد من سم القناديل المهاجرة إلى شواطئ التعب.
قال لي – وهو لا يَملك لسانًا إلا لساني، ولا أملك شفتين سوى شفَتيه – تعالَ نَخرُج من حديث الصمت ومفردات الحبق، إلى مفردات تتولى تسيير وتفسير ذاتها، نتركها تقرِّر مساحة صوت الصمت، وصمت الصوت، نخلخلها بشهيق شوك شجر الأكاسيا الذي تعلم مد جذوره في رماد البراكين لينتج أنشودة الالتحام بالموت والنار والدمار، كحياة تتحدى العقم والكهولة والذوبان، نترك المفردات تتساوق وتتسابق من أجل حياكة ثوب لسبات المجرات والكواكب، ونطلق العنان لصهيل خيول بعثت من رماد المعركة؛ كي يرنَّ في مسامع الفئران المختفية في الجذور، كنبوءة باقتراب البُوم نحو المخرج، أرفع أنملة السبابة وأجمع من فوق صهوة نمر مجموعةً من النجوم وأحشدها بسُنبلة كي تضيء السهول، وتأخذ الأنجم شكْلَ السهلِ المتوقِّد بمَخزون الذهب وصلابته.
تعالَ نتوهَّج ونحن نزحف خلف غيمة تُحاول إلقاء ظلالها على أطراف أصابعنا المُشبعة بالغياب عن الغياب، وعلى رموشنا المكتملة التكوين من أنهد النجوم المشتعلة غيظًا من فناء يسحبها نحو جوارٍ وظيفتها لملمة الحياة وكنسُها في ثقب شديد السواد والظلمة والعتمة، بل دعنا نمدَّ أجسادنا المرهقة بخطوات الحياة المُنبثِقة من جورية حمراء تتوسَّد أخرى بيضاء، على بساط من التوحد مع الافتراق والاختلاف والتناقض والتباعد؛ لنكون بين كل ذلك، حجَران مِن صوان يقفان على منحدر القادم وقفة زيتونتين تحتضنان رائحة الماء الساقط من ذات الغيمة التي كانت تحاول تظليلنا بغيبها الحاجب للنور.
قلت: دعنا ونحن واحد، اندماج في اندماج، نبحث عن أنين الناي المجروح بحشرجة الألم، نطارده في السهول والسهوب والنجود والجبال والأودية والغدران والجداول، نمسك الهواء من ناصيته الهاربة بفزع الانفلات من قواعد المرئي إلى سراديب اللامرئي، نَمنحه رائحة عرقنا الفواحة، المختلطة بروائح التين والزيتون والليمون، نُطعمه بياقوت رجائنا المكسور كفخار احتوى الماء في الصحراء، فرشح الندى الذي أيقظ الحياة من بؤرة رعب الرمال المشوية بلهيب متَّقد لا يعرف الرحمة.
دعنا نُمسك الهواء من ذاته كلها؛ لنفتَحه كما الكتاب، لنُفرز مفردات الناي على صفحاته البيضاء، مُنقَّطة، مُرقمة، واضحة، كجسد جواد أصيل عاش يومًا بين إرادة الشنفرى ووحشة المطاردة والتهام الأرواح، حصان كان أوفى لصاحبه من وفائه لذاته، تنقل وهو يُسابق الريح، ويسابق الشنفرى الذي كان يسابق الخيول فيسبقها، ليتركها محشوة بالهزيمة والانكسار والخيبة، ولا ننسى لحظة تدويننا الحشرجات للناي، بحة اللحن وهو يتنقل بين أناملنا قبل أن نرصعه حروفًا على كتاب انكسارنا، انحناء قامتنا، تقوس قدمَينا، انهيار انفعالاتنا، ووقوع أحاسيسنا في فخ الانتظار والترقب لشيء من أشياء، وأشياء من أشياء، وفاء الحصان للشنفرى رغم هزيمته أمامه في سباق التوقِ والتطلُّع والبحث عن فرحة الكواكب وهي تصدم النجم لتحطَّ على رأس سروة في مكان مشتق من الخيال المتمخِّض.
تعال نوشوش الريحانَ، وشوشة الضباع لفراغيلها وهي تُفتِّت العظام بين أضراسها وأنيابها، كملحمة مكسوة بالدماء الطازجة النابضة، ونسوق السويقات بحديث الهسيس للحسيس، والهمس المفرط بالصمت، إلى الصوت المُعلن تمرده على الخفوت والضباب وانعدام رؤى الجبال وهي تعول أمام ثورة البراكين وسيرها من مكان إلى مكان.
لا تخشَ أبدًا الدخول بالوقت المنزوع من الزمن، لا تحزن على الزمن المنزوع من الوقت، وكن – بين الآن والهنيهة – كشعرة منزوعة من ضفائر الشموس تألقًا وتوهجًا وحرارة، أو كغصنِ غَضى يُعذِّب النار ويصليها من قوة فحيحه أثناء احتراقه ورحيله، أو كنقطة زيت من زيتون يكاد يُضيء ولو لم تمسسه نار.
كن أنت أنا، وأنا أنت، ولا تترك بين الأنا والأنت واوًا كما فعلتُ الآن، حتى لو كان حرف إضافة أو عطف أو وصْل، أو أي اسمٍ من الأسماء التي تنتحلها اللغة لتسميته، فأنا أنت، عصي على اللغة، على المفردات، على البلاغة والتشبيه والاستعارة.
أنت أنا، شكل اللغة في احتفالية الاكتمال والصعود مع الزفير، والهبوط مع الشهيق.
أنا أنت، جسد اللغة المكتمل التكوُّن، وإهابها البالغ نقطة النهاية من التكوين
أنت أنا موسيقا الخرير في اللفظ والمعنى والصوت، حين تُرخي الآذان ذاتها لنشوة الماء وهو يَنبثق من قاع الأرض؛ ليتنفَّس ويعود ليستظل بالقاع من جديد.
قال: يا أنا، ادخل رحم الحلم، الشوق، الخضة، الرجرجة، التزحزح، الانهيار، التردُّم، وانزع من تحت الأظافر رؤى الليل المسكون بالتوقع والتحسُّب، الانتظار، التمنِّي، الوقوع في فخ الوهم المصاغ من رغبة انبلجَت من حاجة النفس للركون والاستسلام إلى الهدوء، السكينة، الاطمئنان، الرضا، حاول أن تُخبر الجوري أن ينزع شوكه، وقل للياسمين أن يفيض برائحته، تَمتِم بصوت يمزج بين الضحك والعويل كالضباع المرقطة، لتُرهب الساعات الرابضة في خبايا المستقبل لتنال من كل ما فيك من قدرة واقتدار للانتصار على حزن يستطيع أن يمزِّق رحم سحابة مثقلة بحملها، فتفتح سرَّها أمام الآفاق؛ لتفيض زوابع وأعاصير تشطر المدن وتَخلع القلوب وتقتلع الغابات، ما زلتَ أنا أنت، وستبقى أنت أنا، رغم مُحاوَلاتي التي لا تحد للخَلاص منك، ورغم مُحاولاتك الخجولة في التستُّر للتخلُّص مني، وسأبقى، وستبقى، أنا أنت، وأنت أنا، بلا قدرة على الانفصال أو الانفصام وسنَبقى، حاول أن تنزع الواو التي تأتي لتوهمنا بالفصل والانفصال، لكني سأفشل، وستفشل، هل انتبهت؟ تحدثتُ الآن بصيغة التباعُد بدل التوحُّد، قلتُ: سأفشل وستفشل، وكأني لستُ أنت أنا، وأنا أنت.
فهل حقًّا أنا هو، وهو أنا؟