![](https://i0.wp.com/basrayatha.com/wp-content/uploads/2021/11/TALEB-KAZEM.png?fit=828%2C1063&ssl=1)
من خلف مكتبه الصغير كان وصفي طبيب المركز الصحي يبدو صامتا كأنه يأنس بسر لا يفصح عنه للآخرين وبينما هو يمعن النظر ببضع ملفات وضعت امامه كان فضاء المركز الصحي يبدو هادئا يتهيأ كمثل باقة ورود للمرضى الريفيين القادمين من عمق مناطق الاهوار القريبة. ملامحه تبدو قاسية بعض الشيء لكن عينيه الذكيتين ينسل منهما شعاع غريب يتخطى وجوه القادمين، بل ربما يقف على رفوف الذاكرة، صمته ينسج خيوطا على افواه الاخرين بل ينثر ضبابا من الحيرة ومن بعيد تبقى عيناه الواسعتان عيني ذئب نائم، حتى تستيقظ على حين غرة كيما تتصفح الوجوه بسرعة تكاد ان تنفذ فيها
فتدرك ما خفي من اسرارها، كما يقول معظم موظفو المركز الصحي فكل شيء سهل أمام الدكتور وصفي، التنبؤ بالطقس وزيارة المفتشين، وحمل العاهرات ان نسين حبوب منع الحمل، حتى خسارة الفريق العراقي بكرة القدم ولعبة الورق. وتجده بعض الاحيان يسرح مسافرا عبر المجهول كأنما يسحب جسمه الى مدائن من العجائب والأسرار تاركا لغزا يستعصي الوصف. ليصمت او يسترسل بحديث في هدوء فيبدو كلامه مثل مويجات نهر تحطم الصمت برقة مثيرة للانتباه، ولكن تبقى عيناه وإن اهتزتا بمحجريهما تدركان ما خلف السراب حينها يلتمع فيهما ذلك السر الغريب، كأنما فيه انتظار لشيء مجهول.
كانت الساعة التاسعة صباحا وقد غيب الصمت فيها ترادف اللحظات فاندمجت لا يفرقها الا دقات عقرب الساعة الرتيبة، و بينما كان منهكا بقراءة الكتب الرسمية والرد عليها, كانت عيناه ترصدان الخطى الغريبة الداخلة الى غرفته ,ليتحرك وجه ببشرة قمحية انشرت فبها اثار حب الشباب و حاجبين كثين مائلين متعانقين فوق الانف الطويل المستدق ليكون عادلا بين خدين سهلين وشارب كث عمد في إطالته بصوة غير معتادة انه صقر, كما قال أحد الممرضين لكنه بعض الاحيان يتحدث بكلام طيب دافئ تنساب مخارج الحروف فيه بلهجة بغدادية متقنة. مع العلم أن جده كان أكبر تاجر لحصران القصب في شمال البصرة قبل نصف قرن.
كان هذا الهدوء والسكون يتحول عند الغضب الى أمواج عارمة تزعزع توازنه الظاهر ليتحول حديثه الى زوابع وحمم تلاحظها في ارتعاش يده اليمنى وهي تهرش خده الأيمن حتى يهدأ بعد ان تمضي بضعة دقائق.
مضى على مكوثه في الغرفة حوالي ساعة كاملة.
لم يسمع فيها الا حركة الأوراق وصرير القلم وهو يرسم دوائر وخطوطا في اوراق أمامه. ترك القلم لحظة وضغط على زر جرس على جهة المكتب اليسرى دخل بعدها رجل كبير السن يغطي راسة وجزء من جبهته بيشماغ رمادي واقترب منه بأدب جم وابتسامة صفراء تبرز اسنانه المتساقطة وهمس في إذنه بشيء ثم مضى خارج الغرفة.
اتكأ الدكتور وصفي على كرسيه الدوار واستخرج سيكارة من علبة سيكاير فاخرة اشعلها بهدوء، استنشق الدخان واخذ يتتبع دوائره البيضاء امام طيات الستائر الارجوانية استنشق مرة اخرى نفسا عميقا اخر من سيكارته في هذه الحال طرق باب غرفته بهدوء … ودخلت.. اعتدل في جلسته كان اسمها سهاد وهي متخصصة حديثة العمل في مختبر المركز الصحي، دلفت الغرفة بقامتها الهيفاء كانت ممشوقة القوام. أدام النظر في وجهها قليلا وترك سيكارته بنفاضة سيكاير لتحترق بصمت قرب الأوراق وأخد يتشاغل بتقليب الصفحات وبعد برهة رد على تحيتها باقتضاب مصطنع وتمتم:
-أين كنت بالأمس
-كنت في ظرف طارئ
-اما كان بك ان تتصلي بالإدارة كيما تعتذرين عن المجي أو ربما تقدمين طلبا لإجازة حتى لا تتسببي بإرباك في العمل لزملائك كما حدث بالأمس .. كانت قد جلست أمامه لم ينتبه الى ساقيها لكن جلستها المسترخية كانت تخفي اضطرابا غريبا تفننت في اخفائه بينما ظهر ساقاها الملفوفان البضان كأنهما نحتا من مرمر. كانت قد أدركت ما حدث له من دوار خفي بينما هو بدا يشعر بدوامة تلف رأسه مثل مخالب اعمى محدثة رجة في نظراته تتعاظم عندما كانت هي الأخرى تتشاغل بسحب أطراف تنورتها القصيرة الى اسفل واسترسلت بابتسامة ماكرة.
-كان أبي قد … وقاطعها مشيرا عليها بالصمت.
كان يتفحص وجهها وقد بدا كمرآة فضية تحيطها الأزهار، بينما كان وقع كلماتها مثل نثار ماء بارد، لكنه جعل الدم يغلي في عروقه، بينما هي بدت كأنها متعبة.
نهض فجأة وقد شاح بوجهه عنها فيما راح يختلس النظرات الى ساقيها، كانت تتابع حركته بصمت، صمت انثى متعبة.
هي الاخرى كانت تعاني من اضطراب خفي بينما عيناها تجوبان قميصه الازرق وتنعطفان مع عقدة رباط العنق ومن ثم تسترخيان على الساعدين المعروقين. كانت تنتظر التفاتة منه كي تمعن النظر أكثر فاكثر. كانت عيناها تزيحان الضباب الذي يلف صورته، صورة طبيب جذاب سمعت بمغامراته الليلية، أخبرتها بها حنان الممرضة ذات يوم.
إنه فحل في الفراش، تارة يبدو مثل الثور الهائج وتارة يبدو شاعرا رقيقا.
بدأت يده اليمنى تهرش وجهه بهدوء. كانت صورته تهتز أمامها. حسبته سوف يضربها بيده قالت في سرها لا بأس إن يعيدها الى ماسوشيتها وتلذذها بالألم وليكن. فهي تتمنى ان يركل مؤخرتها او أغمض أعضاء بدنها , او على فخذيها او يعضها في كتفها او في منابت شعر رأسها أو يدميها لترى خيوط الدم القاني في شرشف تحتها، ليته ينعتها بأبشع الألفاظ ان يدعوها بالبقرة او الحمارة او حتى الكلبة، فهذه الالفاظ مثل مجمرة الفحم تستمتع بحرارتها.
وفجأة انهال عليها بكلمات كمن يغمرها بالوحل لم تتركها الكلمات في حيرة بل شعرت أنها تجلس بهدوء في أرجوحة متزنة، سمعت منه لفظة البقرة وسمعت لفظة ألطف منها وهي (الثولة). لم تكن هذه الكلمات على سوقيتها هي هدف اكثر مما كانت تتمنى في تلك اللحظات.
كانت سحنتها الوردية قد تحولت الى وجه شاحب، بل اعتراها بعض الخوف الممتع وهي تراه فجأة تحول الى كتلة من الغضب وكأنه يعيش صراعا مع شيء غامض او يسبح في دوامة معصوب العينين. وبعد لحظات صمت تكاد تغمرها امواج الغضب وكلما حاولت الرد كان.. ينهرها لتسكت وبدأت وكأنها تطفو في محيط من لعبة الوهم، هي تعرفه بتصلب ثدييها وتعرف ماذا يريد وتفهم، ولا تفهم من كلامه، لكنها سألته بمواء قطة شباطية:
لما هذا الغضب؟ كان يحجم عن سماع اعتذاراتها ولا يريد ان يعرف السبب في غيابها وفي لحظة مخبوءة بين الكلام تسنى له ان ينصت وتوقف ازائها كان وجهها وجه لبوة شرسة هكذا يستقرى ملامحها، من عينها اللوزيتين وحاجبيها الغاضبين في الصمت والسكينة. كانت تضع قليلا من أحمر الشفاه بل إن شفتيها على حالها الطبيعي تيبستا بعض الشيء.. بكت حتى اهتز صدرها من الأعلى الى الأسفل ويديها تركت تنورتها حرة ليبرالية. صمت هو في الظاهر واقترب منها سمع النشيج الذي يمزق السكون كان ينظر الى ارنبة انفها الصغيرة المحمرة، ناولها منديلا ورقيا كان بكاؤها يعلو بهدوء أحس ان كل شهقة ترتسم على الورق من اوراقه بل تحرك الستائر الأرجوانية في الغرفة مسحت انفها بهدوء سكتا معا كمن انهيا عملا مزدوجا معا اقترب منها وضع يده المرتجفة على كتفها حاول ان يصوغ عبارة اعتذار لكنها عمدت ان تمس يده بخدها، لم تكن لحظه عابرة تحسس فيها خدها الدافئ بل كانت موجة مكهربة رفع فيها اشرعته ليسافر في دفء جسدها كله واسترجع اسرار صياحة قبل دقائق فتلعثم في الكلام كأن صدى كلماته لم يدرك معانيها الى الآن، وجلست هي صامتة وقد جفت دموعها واخذت تنظر الى ستائر الغرفة الارجوانية، تحدق في طيات المخمل الرقيقة بينما وقف هو كأنما انتشل نفسه من غرق في بحر سحيق تراجع الى الوراء كمن يبتعد عن بستان مليء بالخضرة والحياة كان يشعر بشيء من التعب بل يشعر انه كتلة من الرماد .
اتكأ على حافة المكتب وانتشل علبة سكائره البيضاء بدا وكأنه يجلس تحت شجرة تفاح وارفة ضرب العلبة في دبرها فبرزت سيكارة صلدة حبلى بالدخان ناولها سيكارة أطرقت لحظة وتمتمت:
– انا لا أدخن إلا في الليل.
كانت هذه الكلمة مثل طير حط في قفص أعد لاصطياده جلس على كرسيه وقد بدأ يهرش خدة الايسر بهدوء وتمتم:
-ماهي اخبار زوجك الم يطلق سراحه؟
تمتمت بامتعاض:
-لا أدري
بعد ذلك نهضت بهدوء كانت عيناه تكادان تختفيان بين اهتزازات جسدها المكتنز تفحص ساقيها قليلا وتمتم وهو يسحق سيكارته.. لا يحلو التدخين الا ليلا .
30 آب 2021