أهمية هذه القصة أن انتاجها كان سنة 2000 قرأتُها في بيتنا وهي مكتوبة بالقلم الرصاص، خفت على أستاذي الأحمدي طيّب الله ثراه، كما خفتُ عليّ . القصة تمتلك كل مقومات جسارة التعبير ضد الطاغية وفي ذلك المساء،حين غادرنا مقهى سيد هاني، أوصلته من العشار إلى بيته في البصرة القديمة وكانت سيارتنا أقدامنا وحوارنا الماتع عن هذه القصة القصيرة الخطيرة جدا على سلامة أستاذي. الذي كان يخصني منذ كان يدرسنا اللغة العربية في ثانوية الجاحظ، بقصصه القصيرة، ثم بمخطوطاته الروائية كلها.
(*)
بعد مدة قصيرة من كتابة (ذبابة التمثال) أتسعت جسارة التعبير، وأتسع الفضاء النصي وتحولت موضوعة (ذبابة التمثال) إلى رواية (وجه الملك) وقد أطلعت عليها بتأن ٍ محلقا في متاهاتها التي أغوتني بطيران خفيض ٍ.
(*)
آليات قصة (ذبابة التمثال) لا تلتزم شروط القصة القصيرة من ناحية قلة الشخوص والتكثيف، بل تقترب من الرواية القصيرة كما هو الحال في كل قصص (أرض القهرمان) خلافاً لقصصه في مجاميعه القصصية (هموم شجرة البمبر) و(طائر الخليج)و(غناء الفواخت) أعني أن قصصه في : (أرض القهرمان) و(تراص الأنا) أشبه ما تكون روايات قصيرة مكثفّة .
(*)
قصة (ذبابة التمثال) تتناول حشرة ً لها تموضعها في المقدس والفلسفي والأدبي والميداني والذبابة : هي الشخصية الرئيسة والتمثال هو الشخصية الأساس فالذبابة مؤطر حضورها بالتمثال.
(*)
القصة تبث انشطاراتها السردية: ضمن مخطط الصورة هناك الأعلى هو التمثال والذبابة وهناك الأفقي : حارس التمثال والمارة والشرطيان والرجل الذي معهما. والانشطار الثاني : التمثال وظل التمثال على الأرض وضمن آليات القص : توجد قصة قصيرة عنوانها (ذبابة التمثال)
وتوجد حكاية الذبابة والتمثال التي يقصها السارد المشارك/ الحارس الذي يحكي حكاية التمثال لأولاده ، والسرد مشطور بين التصديق والتكذيب من قبل شخوص القصة القصيرة. ثم يحدث تدوير السرد بطلب من الأبن الأصغر وبرجاءٍ أن يكون السرد مصحوبا بالضحك العائلي ( حكايتك جميلة جدا ً، يا أبي، ولكن لم لا تضحك؟ أحكها لنا مرّة أخرى.. وأضحك معناً..) يحكي الأب الحكاية ثانية ً وبنكهة ضاحكة .. فيشعر أن أصوات الحكاية تجعل الحكاية تواصل حضورها، وسيكون عمرها أطول من عمر التمثال، وبشهادة السارد المشارك بالحدث: (فتيقنت أن جميع الأصوات العالية التي وردت فيها لا تنتهي أبداً وعذرتُ نفسي، لأنني صرت أكررها، في كل مناسبة كمن يردد شهادة، يأثم المرء إن لم يكررها بأمانة، كذلك حكايتي ،ربما تثير الضحك ولكنها الآن قد لا تفعل ذلك أبداً أؤكد- أن الأبناء يجيدون تكرار الحكاية مثلي تماما، لكي لا تنتهي.. أعني لكي لا تموت.. كالتمثال أو كظل التمثال )
(*)
تبدأ القصة بالذبابة في حركتها الأفقية (وقفت الذبابة فوق أنفي) هذه الوحدة الصغرى هي المشهد الأخير من خط الشروع السردي. في السطر الخامس من القصة كانت بداية ظهور الذبابة على مسرح القص(كانت الذبابة تسبح وحيدة في عمق الأضواء قبل أن تقف فوق أنفي)
(*)
تعود قراءتي إلى مفتتح القصة، لتستأنف السرد( وقفت الذبابة فوق أنفي. فكرت في أن أطردها. لم أتعب نفسي كثيراً حينما فكرت في يدي، حينما حاولت رفعها وجدتها ثقيلة جداً. كان ثمة تيار بارد يصيب من جسمي الجزء المواجه لظلال أعمدة النور. كنت أحتمي بقاعدة التمثال وفوق رأسي يدفق يدفق شلال ضوء يمحو ظلي كله).. هنا تتساءل قراءتي
هل يحتاج الأمر إلى تفكير بخصوص الذباب ؟ بحيث يتكرر الفعل مرتين
فكرتُ ..أطردها
فكرتُ في يدي
هل الإحالة التكرارية : تحيل القراءة إلى مخبوء نصي؟
السؤال الآخر : لماذا يرّكز السارد على محوه بمؤثرية المكان / السلطة؟
(وجدتني ضعيفا فتنمرت عليّ)
(فوق رأسي يدفق شلال ضوء يمحو ظلي كله)
والسؤال الأهم : لماذا لا تقف الذبابة بمكان آخر؟ أليست هناك قصدية سردية بشحنات إيمائية؟ من خلال ما يعنيه الأنف من دلالات تتجاوز المعنى، صعودا إلى القيمة المجتمعية؟ ثم ينتقل السرد من الواقعي إلى الميتا واقع، بتوقيت وقوف الذبابة على أنف التمثال( بدأ التمثال يهتز – ربما خيل إليّ إنه كان يهتز بسبب ثقل الذبابة، من قاعدته إلى قمة رأسه، أخذت رجفة الخوف تملأ قلبي.)..هنا يكون الفعل ورد الفعل الغرائبي(كان حجم الذبابة يزداد كلما ازدادت حركة اهتزاز القاعدة) هنا تتكشف قوة السلطة، حين(قررت ُ أن أوقف المارة) .. يوقف فردٌ/ حارس التمثال ويأمر الركّاب بالترجل، يستعين بهم على ذبابة التمثال وهنا يرتكب السارد تلفيقا سرديا حين يزعم بخصوص الركّاب أو المارة (توقف أحدهم بمحض إرادته).. وهنا سيكون التركيز على الأنف الذي أخذ يتضخم، وستكون معالجة التضخم بوسائل مختلفة (فانقسموا إلى ثلاث جماعات، اتخذت كل جماعة جبهة من التمثال، فالجماعة التي وقفت جهة يده اليمنى – فكرت في استعمال الأيدي والأرجل، والتي على يساره فكرت في استعمال الصخور والحصى والحجارة – بينما التي واجهت الوجه والذبابة مالت إلى استعمال العصي والمرادي والهراوات)
(*)
للفرد سطوته على الجماعة:
التمثال : مفرد وهو علاماتيا السلطة المطلقة المتحكمة بكل شيء
الحارس : فرد يستمد قوته من الفرد / التمثال
أحد العقلاء يتحكم بالجموع ومن دون معارضة وهو يشتغل بطاقات ٍ روحية ٍ، فيتحكم بالتمثال بطريقة التحكم بظل التمثال . وظل التمثال يعيد قراءتي إلى ما يقوله حارس التمثال عن ظله هو (فوق رأسي يدفق شلال ضوء يمحو ظلي كله) نلاحظ أن شراسة الضوء التي تضيء التمثال تمحو ظل الحارس !! وهذه علاماتية غير بريئة من الدلالة الإيحائية . ربما نجد يفعل الرجل بواسطة سكينه مفتاحا لذلك (أخرج من جيبه سكينا، وراح يخط به حدود الظل الأرضي. رأى الناس أن التمثال يكاد يهبط بكامله من عليائه إلى الأرض) هذا يعني أن التمثال تم نقله من سعة الفضاء إلى طوق الحيز من خلال السكين وهنا النقلة الثانية من العلو إلى الأرضنة. في اللحظة ذاتها (جاء رجل من أقصى الشمال يركض) تومىء الجهة إلى دلالة خارج الجغرافية، ومثلما السكين حاولت فأن الرجل الهارب أراد محاولة ً (لو تركتموني أرسم أثراً على أنف التمثال سوف تنزل إليه الذبابة).. نلاحظ أن السارد المشارك ينتج سردا احتماليا (ربما قررت هي أيضاً، أن تصير جزءاً منه كمثل البرد أو كمثل الغبار أو كمثل المطر، لم لا؟ فقد رأوه يحتمل كثيراً..) من هذا المحصور بين القوسين يتبين لنا أن الذبابة تريد أن تكون نداً للتمثال.
(*)
تركز (ذبابة التمثال) على الصوت بشكل مختلف لهذا تقوم قراءتي بتنضيده:
تسربت إلى أذني من الأفواه همهمة أصوات متداخلة فهمت أنهم يحاولون أن يطردوا الذبابة.
صرخ أحدهم من بين الأصوات، ظهر صوته يوخز أذني بأعلى صوت.
فالتقطت أذناه الصوتين معا
تباد ل مع نفسه بعض الكلمات وفي أغلب الظن أن الكلمة التلقائية التي جهدت فنزعت نفسها من فمه – اقتحمت أذني – كما يقتحم الضوء عيني – حادة بحيث التصقت ُ أكثر بقاعدة التمثال
فارتفعت ثلاثة أصوات بتوال موزون، كل صوت، ربما شغل ثانية واحدة، انتبهت على قوة امتزاج نبراتها ظننت أنها صوت رجل واحد – يكلم نفسه لا يكلمني بأصوات أخذت طابع الجدية
وقبل أن يدلهم على إجابات أصواتهم، كانت ضحكاته تخترقهم وقد ملأت آذانهم
لم تستطع أفواههم أن تنغلق أو كادت تنشق
ضحكاتهم تنقذف كالكرات من عمق الأفواه
كانوا يضحكون إذن كما لو كانوا يتكلمون
ولما كان لم يسمع إلا صدى فمه، اضطر إلى الصراخ
كان صوت يهدر كالشلال، يملأ الساحة، كما يملأ الأدمغة
كان صوته يحدث اصطداما بالصوت المقابل له
يصرخ ثانية وكأن صرخته مازالت تدوي في أذني عالية جدا
هزّني الصوت بقوة فارتجّ فراغ رأسي عندئذ أو كاد ينفطر بل فلت لساني من فمي.
دفق صوت لا أتذكر قلت مثله وأشك أن يكون صوت الحارس الذي هو أنا في تلك اللحظة
أخذني صوته
أفكر في صوت فمي
انتهت الحكاية لكن ليلتها ظلت تحدث إيقاعا رنانا في ذاكرتي لم ينته بعد.
طنين أجنحة الذبابة الذي ظل يستحوذ عليّ يجهدني. كأن لا صوت في فمي غيره، صفوة الكلام كنت أشعر أنني بحاجة إلى تفريغه
(*)
للضحك معنى ودلالات ثرة في القصة :
الهاربُ من الشرطيين والمتوّجه نحو التمثال والقائل بشهية رهيبة للكلام المزخرف(إن فتحتم لي طريقاً آخر فسوف أدلكم على طريقة أفضل من الضحك، الضحك لا يقتل نعم لا يقتل الذباب/ 67)
بعد حادث ذبابة التمثال وحارس التمثال مطرود من الحراسة لأسباب رسمية، لأنه لم يكتمل السر الليلي للتمثال، وهو يروي ذلك لأولاده
(أخذ الاولاد يضحكون. الضحك الاعتيادي الذي لا تظهر عليه العلامات الممنوعة كالتي انحشرت في دماغي/ 68) أثر ذلك يطالبه أصغر أولاده( حكايتك جميلة جداً، يا أبي. ولكن لم لا تضحك؟ أحكها لنا مرة أخرى.. وأضحك معنا/ 69) ثم يخبرنا السارد(حكيتها – ولما ضحكت أحسست كأن رنين ضحكتي كان قديما ).. هنا يتجاوز الضحك فاعليته المألوفة ويشحنه السياق السردي بثراء التأويل
*كاظم الأحمدي/ أرض القهرمان/ قصص/ دار الجواهري- بغداد/ ط1/ 2013