في (القطرون)، وهي منتجع رملي يقع في أقصى الجنوب من صحراء ليبيا الكبرى، عملت مدرّساً في ثانويّة. تعوّدت على قضاء وقت ما قبل الغروب في التجوّل بلا هدف على القدمين. في إحدى جولاتي، وفي جهة جرداء رأيتُ قطيع جمال يُحيط به رجالٌ ملثمون، بركتْ بالقرب منهم شاحنة كبيرة، ورافعة. كانت مهمّة هؤلاء الرجال رفع الجمال، وحشرها في حوض الشاحنة. كانت العمليّة تجري كالآتي:
رجلٌ ملثم يخادع جملاً. يذهب إليه، وكأنّه ذاهبٌ إلى غيره. يستقرّ الملثّم خلف الجمل. يتنفس عميقاً للتهيؤ لتنفيذ مهمّته، ثم يقبض بكلتا يديْه على ذيل الجمل، ويشرع فوراً بجرّه إلى الأرض، ليُرغمَهُ على أن يبرك. الجمل يعاند مكابراً، وغريزته تجعله يندفع راكضاً، مثقلاً بجسديْن، جسده، وجسد الرجل القابض على ذيله بإحكام. يركض الجمل صارخاً برغاء وحشيّ مرير، فلقد أدرك، تماماً، هدف الرجل وراءه..
شظايا كَبِد دامية تتطاير، وتذوب في الفضاء. ذلك هو صراخُ الجمل لو أمكن رؤية صراخه بالعين. بالنسبة للرجل فإنّ مصير عمله، وسمعته يتوقّف على إخضاع الجمل بالتعلّق بذيله حتى الإطاحة به. يسحبُه الجمل على قدميْه في أوّل الشوط، ثمّ يجرُّهُ على ركبتيْه، ثمّ على بطنه فوق الرّمل. في آخر الشّوط. ينهار الجمل لاهثاً، ويخسر النزاع باركاً بين لهاثٍ وجعيرٍ خائبيْن. يستسلم الجمل. تُربَط قوائمُه بإحكامٍ بحبل، ثمّ يُلَف حزام جلديّ سميك حول جسده. ثمّ يأتي دور الرافعة. تهدر هذه الآلة على الرّمل، وتنطبع صورتها، وهي تتقدّم، كحيوان من عالم آخر في عيني الجمل المذعور الذي لا يعرف شيئاً عمّا يُراد له. ينزل خرطوم الرافعة على سنام الجمل، ويعلق خطّافها بحزامه، وسرعان ما يشعر الجمل بالرّمال تخونه، وهو ينفصل عنها طائراً في الفضاء. بطيئاً يتسع الفراغ بين الجمل المرفوع ورماله، فيتبدّد أملُهُ فيها. يبكي قلبُهُ الصحراويّ الخشن، يمدّ عنقه، وينشقّ فكّاه عن صرخةٍ أخيرة على خلفية سماء مغبرّة. خيوط من الزبد المرّ تندلق من فمه، وتتقطّع في الفضاء الناشف. أخيراً ينتهي أسرُ الجمل في حوض الشّاحنة، وعلى قاع معدنيّ قاسٍ.
الجمال، الآن، في حوض الشّاحنة. لا رغاء في حناجرها. بل أصوات جوفاء يمكن ترجمتها بالكلمة (أنين)، لو تفضّلتْ هذه الكلمة، ودخلتْ معنا في حكاية الجمال.
تتحرّك الشاحنة. الجمال تأخذ معها روائح الوطن الرمليّة. ذلك أهمّ ما يُسمح للجمال بحمله.
أحياناً، أستيقظ فجراً على رغاء الجمال، فأعرف أن مسالخ الشمال أرسلتْ برقيّةً إلى الجمال.